المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أَسَفِي عَلَى الآدَابِ وَالأَخْلاَقِ للزَّعِيمِ داعيةِ الإصلاحِ الطّيّب العُقبيِّ (رحمه الله تعالى) بقلم خادم العلم : الشَّيخ سمير سمراد حفظه الله


سفيان الجزائري
07-09-2012, 10:07 AM
أَسَفِي عَلَى الآدَابِ وَالأَخْلاَقِ للزَّعِيمِ داعيةِ الإصلاحِ
الطّيّب العُقبيِّ (رحمه الله تعالى)

بقلم خادم العلم : الشَّيخ سمير سمراد حفظه الله


لا أزالُ كُلَّما تذَكَّرْتُ العلاَّمةَ خطيبَ السَّلفيِّين وكاتبَهم وشاعرَهم وداعيةَ الإصلاحِ الدّينيّ الشّيخ «الطّيّب العقبيّ»(رحمه اللهُ تعالى)، أذكُرُ ما عانَاهُ وقاساهُ من مصاعب ومتاعب في حياتِهِ ونُكْرَانٍ وجُحُودٍ وبَخْسٍ لحَقِّهِ بعدَ مماتِهِ، فلم يزل إلى الآنَ لم تُوَفِّ الأمَّةُ الدَّيْنَ الّذي عليها للزَّعيمِ الفقيدِ والدّاعيةِ المأسوفِ عليهِ بحقٍّ. وكأنَّ الرّجلَ لم يَعِشْ يومًا في الأمّة ولم يَعِشْ لها حتَّى تلقاهُ بكلِّ هذه القساوة، وكأنَّهُ أساءَ إليها وعملَ على عكسِ مصلَحتِها فعاقَبَتْهُ كلَّ هذه العقوبةِ الّتي طالَ أمَدُها فسبحانَ اللهِ!
ربَّما لا يُلامُ من لم يعرف الشَّيخَ ولم يسمعْ بنضاله وجهاده وصَبْرِهِ ومُصَابَرَتِهِ ومُرَابَطَتِهِ طيلةَ سنواتٍ كانت مِن أَقْسَى السِّنِين الّتي مرَّت على الأُمَّةِ الجزائريَّة. لكن اللّومُ كلُّ اللَّومِ على مَن عرفُوا الرّجلَ وعرفُوا فيهِ معانيَ الرّجولةِ بكمالِها وتمامِها فلم يقومُوا بحقِّ أخوَّةٍ ولم يُوَفُّوا بِعَهْدِ صداقةٍ.
ولن تجدَ تعبيرًا أصدقَ من تعبيرِ العُقْبِيِّ عمَّا بنفسِهِ في هذه المقطوعةِ الشِّعريَّةِ قائلاً:
«أَسَفِي عَلَى الآدَابِ والأَخْلاَقِ/أَسَفِي عَلَى الذَّوْقِ السَّلِيمِ الرَّاقِي
أَسَفِي على بَعْضِ الرِّفَاقِ فإِنَّهُمْ/فَقَدُوا سَجِيَّةَ كَامِلِي الأَذْوَاقِ
عَهْدِي بِهِمْ والرِّفْقُ مِنْ أَخْلاَقِهِمْ/فَإِذَا بِهِمْ خَلْقٌ بِدُونِ خَلاَقِ
لاَ يُؤْثِرُونَ رَفِيقَهُمْ وَلَوْ اقْتَضَى/حَالُ الرِّفَاقِ الرِّفْدُ بالإِرْفَاقِ
فَتَرَاهُمْ يَسْتَأْثِرُونَ وإِنْ عَدوا/نَهْجَ الهُدَى ومَكَارِمِ الأَخْلاَقِ
حَسِبُوا الزَّعَامَةَ في الظُّهُورِ ومَا دَرَوْا/أنَّ الظُّهُورَ وَسِيلَةُ الإِخْفَاقِ
مَا سَادَ مَنْ لَمْ يَحْتَفِظْ لِرَفِيقِهِ/ بِحُقُوقِهِ وبِعَهْدِ وُدٍّ بَاقِ
كَلاَّ ولاَ نَالَ الزَّعَامَةَ غَيْرُ مَنْ/ضَحَّى بِصَالِحِ نَفْسِهِ لِرِفَاقِ».


لقد كانَ الفقيدُ «العُقبيُّ» رحمه الله تعالى صاحبَ نفسٍ سريعةِ التَّأثُّرِ، مُرْهَفَةِ الحِسِّ، خالَطت قلبَهُ المعاني السَّاميَة ومازَجَت رُوحَهُ الأخلاقُ العالِية، فلم يَكَد يُطيقُ أن يرَى ضدَّهَا وأن يتقبَّلَ نَقيضَها، ولم تكن نفسُهُ تُسعِفُهُ أن يُداهنَ مع المُداهِنِين وأن يستسْلِمَ مع المُستَسْلِمِين، بل كانَ رابِطَ الجَأشِ صَلْبَ العزيمةِ قَوِيَّ الشَّكِيمةِ، غير هيَّابٍ ولا وَجِلٍ. هكذا عرفَ النَّاسُ «العُقبيَّ» ومِنْهُ عهِدُوا هذه الأخلاقَ الّتي عزَّ وُجُودُها. كيفَ لا يتَّصفُ بهذه الأوصاف مَن تربَّى في أرضِ طَيْبَةَ الطَّيِّبةِ واستنشقَ هواءَها الصَّافي الّذي لم تُعَكِّرْهُ نَوائبُ الحدثَان، وشَرِبَ مِن مائِها العَذْبِ الزُّلال الّذي لم تُكدِّرْهُ صُرُوفُ الزَّمانِ.
قالَ صديقُهُ ابنُ باديس (رحمهما الله) سنة (1928م): «من ذا الّذي لا يتمثَّلُ في ذهنِهِ العلم الصَّحيح والعقلُ الطَّاهر، والصَّراحة في الحقّ والصَّرامة في الدِّين، والتّحقّق بالسّنّة، والشّدّة على البدعة، والطِّيبة في العِشرة، والصِّدق في الصُّحبة إذا ذُكِرَ الأستاذُ العُقبيُّ». [«الشِّهاب»، العدد (158)].
العَوْدَةُ إلى الوَطَن:
جاء «العُقْبِيُّ» إلى الجزائر، وإلى مَسقطِ رأسِهِ «بسكرة» سنة (1920م) وهو لا يعرفُ عنها شيئًا إِذْ هَاجَرَتْ عائلتُهُ وهو دُون سنِّ التَّمييز وعُمْرُهُ ستُّ سنواتٍ، جاءَها كما يجيئُها من هو أجنبيٌّ عنها، جاءَ بسكرة ولم يرَ فيهِ أهلُهَا وأَهْلُ الجزائرِ عمومًا إلاَّ رَجُلاً حِجَازِيًّا بكلِّ ما تحملُهُ الكلمةُ من معانٍ، فالحجازيَّةُ تسري في دَمِهِ وفي عُرُوقِهِ، وتتراءَى في لباسِهِ ومظهَرِهِ وتُعايَنُ في كلامِهِ ومحاورَاتِهِ وتُلْمسُ في أَدَبِهِ وسَمْتِهِ... أخلاقٌ وسجايا وخصالٌ كلُّها عربيَّةٌ صميمةٌ. ذاكَ ما ميَّزَ «العُقْبِيَّ» وجعلَهُ فذًّا في بني وَطنِهِ وشهَّرَهُ بينَهُم.
جاءَ «العقبيُّ» فعاملَهُ الاستعمارُ الفرنسيُّ وعسكرُهُ معاملةً فظيعةً، إذ «بسكرة» والصّحراءُ عمومًا تحت الحكم العسكريِّ؛ عاملُوهُ معاملةً مُهِينةً واستقبلُوهُ باعتقالٍ [نحو شهرين] واستجوابٍ وتفتيشٍ ووضعٍ تحتَ مراقبَة!
غَرِيبٌ في وَطَنِهِ!
جاءَ «العُقبيُّ» فاستوحشَ المَقامَ والمنزلَ الجدِيد، ولم يَرَ في حالةِ وطنِهِ الأُمّ إلاّ ما يُزهِّدُهُ فيهِ ويُيَئِّسُهُ من عَوْدِ الحياةِ فيهِ، وهو القائلُ:
«ماتت السُّنَّة في هذي البلاد/قبر العلمُ وسَادَ الجَهْلُ سَاد
وقال: لستُ منهم لا ولا منِّي هم/وَيْلَهُمْ يا ويلهم يوم المعاد.
وقال: كلّما فكّرتُ في أمرهم/طال حزني وتغشّاني السّهاد».


وجدَ رُكُودًا وأيُّ ركود، وجدَ جمودًا وأيُّ جمُود، وجدَ انحطاطًا وحياةً شبهَ منعدِمَةٍ. فماذا عساهُ يفعلُ، وكيفَ يَطِيبُ لهُ مَقَامٌ ويَهْنَأُ لهُ عيشٌ.
دخلَ «العقبيُّ» في حالةٍ نفسيَّةٍ رهيبةٍ وأصابَهُ همٌّ وغمٌّ فآثرَ الانطواءَ، وانزوَى في بلدتِهِ منعزلاً ريثَمَا يُبصرُ بصيصًا يحضُّ على العمل ويفكُّ العزلةَ، وهو القائلُ عن نفسِهِ سنةَ (1926م): «غادرتُ تلك البلاد المقدّسة إلى هذه البلاد الجزائريّة بنيّةِ قضاء مآربي هنا وعمل ما يجبُ عمله في قضيّة أملاكنا مع المعتَدِي عليها، ثمّ الرّجوع إلى الحجاز إذا رجعت المياهُ إلى مجاريها. وها أنا ذا الآنَ أسكنُ منذ ستّ سنوات بلدة بسكرة من يوم قدومي إلى هذه البلاد وهو يوم 4 مارس سنة 1920 إلى هذا اليوم، ومن حين قدومي إلى هذه الدّيار لم أشتغل بعملٍ عموميّ ذي بال كما أنّي لم أتعاطَ الكتابةَ والنّشر في الصّحف لأنّي أعتبرُ نفسي منذ رجوعي من الحجاز وبعدما وقع من الحوادث المقلقة السّالبة لكلّ أسباب الرّاحة (بل المفقدة للحياة) وبعدما مرّ على رأسي من اللّيالي المزعجات، قد خرجت عن الحياة السّياسيّة بالكلّيّة وبعدتُ عن العلم وأسبابه بعد ما بين المشرق والمغرب....ولكنّي منذ أشهر أبديتُ بواسطةِ صحافتنا الجديدة بعض آراء وأفكار في مسائل تخصّ العلم والدِّين....»إلخ[محمد الطاهر فضلاء: «الطّيّب العقبيّ... »، (ص21-22)]
إِخْوَانٌ في الفِكْرَةِ وأعوانٌ في العَمَل:
وجدَ «العقبيُّ» ضالَّتَهُ، ولاحَ لهُ ذلكَ النُّورُ الّذي انتظرَهُ، فلبسَ لأْمَتَهُ، وخاضَ معاركَ الحقِّ ضدَّ الباطلِ، وقادَ جولاتِ العلم تُغيرُ على معاقلِ الظَّلامِ، وركِبَ مطايَا الإصلاح تَقُضُّ صروحَ الفسَاد وتُقرِّعُ من يأوي إليها. عرفَ النّاسُ مَن «العقبيُّ»، وأدركُوا أيَّ رجلٍ يكونُ، وعهِدُوا منهُ ما لم يعهدُوا من غيرِهِ، جنديًّا بل زعيمًا وقائدًا في مُقدَّمِ الصُّفوف والزُّحُوف يُقبِلُ ولا يُدبرُ، ولا يرجعُ إلاّ منتصِرًا غانِمًا.
تَغَاضُبُ الأَخَوَينِ وتَبَايُنٌ في الفِكْرَتَيْنِ:
يُحدّث الأستاذ «الطاهر فضلاء» عن الشيخ «محمد العيد» الشّاعر يقولُ: «كان الشيخ «الطّيّب العقبي» من الكتّاب البارزين في جريدتي «المنتقد» و«الشهاب» وهما معا للأستاذ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، وكان يكتب مقالاته عن السلفيّة والسّنة والبدعة، مبينا بعد الأمّة عن جوهر دينها تحت وطأة الطّرقيّة...وكانت هذه المقالات تهدم معاقل هذه الطّرقيّة معقلاً فمعقلاً، ممّا جعل بعض مشائخ الطرق وأتباعهم ومريديهم يفزعون إلى بعضهم ويهرعون إلى الشيخ عبد الحميد وإلى والده بالذّات (السّيّد الفاضل محمد المصطفى بن باديس) ليعملا على وقف هذا السيل الجارف عليهم وعلى نفوذهم من مقالات الشيخ «الطيّب العقبيّ»... وكانت ظروف العمل آنذاك تقتضي أن يكون اسم الشيخ ابن باديس وراء كواليس هذه الجريدة وتلك، ولكن الجميع يعلمون أنّه هو الّذي أسّس الجريدتين...وتسبّب المسعى من مشائخ الطّرق والمتعاطفين معهم إلى صدور بيان يحمل عنوان: «في سبيل الوفاق»، جاء فيه ما معناه: «بما أنّ هذا الموضوع قد أخذ حظّه من البحث والنّقاش فإنّ الجريدة تعتذر لقرّائها عن اضطرارها لإغلاق هذا الباب،... وعلى كتّابها الأكارم أن يواصلوا مراسلاتهم في غير هذا الموضوع، فالمواضيع واسعة وخدمة المجتمع فيها أجدى وأنفع...»إلخ.... وقرأ الشيخ «الطيّب العقبيّ» هذا البيان في حينه، فأدرك أنّ الباطل هو الّذي دبّر، وهو الذّي كادَ كيده الآثم، وهو الّذي بدا منتصرًا في المعركة – فثار ثورة عارمة وأعلن أنّ البيان فيه استخذاء للباطل وأهله، وأنّه ضعف من أهل الحقّ يؤدّي إلى ضعف الحقّ أمام جحافل الباطل... ثمّ أعلن مقاطعته للجريدة الّتي كان يكتبُ فيها.... وحاول الشيخُ ابن باديس استرضاءَ الشيخ «العقبيّ» وإقناعه بضرورةِ العودة إلى الكتابة في مواضيع مختلفة، فلم يجد من وسائلِ إقناعهِ واسترضائِهِ غير الانتقال إليه في بسكرة. وقال الأستاذ محمد العيد (رحمه الله): وبعث الشيخ عبد الحميد إلى والدي يُخبره بأنّه سينزل في بسكرة بالقطار يوم كذا، وهو يودّ الاجتماع بالشّيخ الطّيّب العقبيّ عندهُ.....وحاول الشيخ عبد الحميد إقناع الشيخ الطيب بوجهة نظر الجريدة في غلق باب الموضوع الذي كان يكتب فيه (ضدّ الطرقية المبتدعة)، وأنّه إجراء مؤقّت لابدّ من العودة إليه حينما تتوفّر الظّروف الملائمة... ولكنّ الشيخ العقبيّ أصرّ على رأيِهِ وساق من الحجج ما اقتنع به الشيخ ابن باديس فَوَعَدَ خيرًا ولم يزِدْ. ولكنّه عندما وصل إلى قسنطينة، أعلن فتح باب النّقاش مرّة ثانية، ودعا في إعلانه هذا إلى عودةِ الشّيخ الطّيّب العقبيّ....ومن هذا الموقف، نعلم كيف كان هؤلاء الأخيار من علمائنا الأحرار يقدرون الشيخ العقبيّ حقّ قدره ويهتمُّون الاهتمام كلّه بضرورة احترام آرائِهِ». [محمد الطاهر فضلاء: «الطّيب العقبي... »(ص46-51)].
فَوْرَةُ غَضَبٍ وتَأْنِيبٌ قَاسٍ!:
أسَّس «العقبيُّ» جريدتَهُ «الإصلاح» لكن بعد أن صدر العدد الأول منها لم يجد من يطبعها، فاستنجدَ بالمطبعة الإسلاميّة الجزائريّة فاعتذرت، فكالَ لها «العقبيُّ»مكاييلَ السّخط وصبَّ عليها جامَ غضبِهِ، ورآها إساءةً إليهِ وتضييعًا لحقِّهِ والحقِّ الّذي يدعو إليهِ، واستخفافًا بشأنِهِ وشأنِ جريدتِهِ. وحيكت المؤامراتُ على «العقبيِّ» وعلى إصلاحه في مكتب الإدارة الاستعماريّة، فاعتمدَ وكيلاً لها لتُطبعَ بتونس، لكنْ اسمُ «العقبيِّ» واسمُ «الإصلاح» لم يكن ليُرضى لا هنا ولا هناك.
أَعوانُ الإصلاح وإخوانُ الشِّدَّة:
أشفقَ الإخوانُ المصلحون في «بسكرة» على الزّعيم وعلى إصلاحه وإصلاحهم فاندفعوا بإبائهم وشموخهم وبطولتهم واستبسالهم فأسّسوا «المطبعة العلميّة» واشتروها من خالص مالهم ووضعوها في تصرّف «العقبيِّ» مؤازرين لهُ وللإصلاحِ الّذي يتزعَّمُهُ. وانجلت المحنة وانكشفت الغُمَّة وصدر العدد الثّاني من «الإصلاح» في السّنة الثّالثة!
نَجَاحٌ بَاهِرٌ وقُوَّةٌ مُخِيفَةٌ:
انتقلَ «العقبيُّ» إلى عاصمةِ الجزائر سنة (1929م) فأحدثَ بها انقلابًا عظيمًا وكوَّنَ جيشًا من الأنصارِ وفُتحَت على يديهِ الفتُوحُ ورهِبَتهُ فرنسا وأعوانُها، إذ لو قالَ «العقبيُّ» للجماهيرِ اخرُجُوا لحربِ فرنسَا لخرجُوا عن بكرةِ أبيهِم، فأحسُّوا بِخَطَرِهِ، فتمالؤُوا على كَسْرِِهِ، وتحالَفُوا على إصابةِ مقتلٍ في «جمعيَّة العلماء الجزائريِّين» وطَعْنِها في قلبِها النَّابِض، فكانَ لهم شيءٌ ممَّا أرادُوا ودُبِّرت مكيدةُ اغتيال المفتي المالكيّ محمود كحّول الّذي كان من الموظّفين الرّسميِّين ومن أضدادِ المصلحين والمعارضينَ لدعوتهم ولدعوةِ «العقبيِّ» على الخصوص.
كَسْرُ الزَّعِيم وضَرْبَةٌ في الصَّمِيم:
واتُّهم «العقبيُّ» بقتلِ الإمامِ المفتي، فاقتَحموا عليه «نادي التّرقّي» حيثُ كانَ يُرابطُ، وأهانوه إهانةً عظيمةً وساقوهُ كما يُساق المجرمون، «في جوّ يدعو إلى الاستفزاز، وخرج مكبّلاً بالأغلال وسط كوكبةٍ من البوليس السّرّي المحاط بالحرس المدنيّ وقوّات السّنغال بمُعدَّاتِها»[مريوش، «الشّيخ الطّيّب العقبيّ ودوره في الحركة الوطنيّة»،(ص217)] وبإخراجهم لهُ حاسِرَ الرَّأسِ، فكأنَّهم أصابُوا شُمُوخَهُ وطعنوا كبرياءَهُ وداسُوا عظمَتَه، بإلقائهم عمامتَهُ ونزعِهِم رداءَهُ!
يقول ابنُ الشيخ العقبيّ: «إنّ الشرطة الفرنسيّة داست بأقدامِها برنوس الشيخ أثناء خروجه من النَّادي، كما خاطبته بأسلوبٍ جافّ وشتمته أمام الملأ، وقد حزنَ الشيخُ حزنًا عميقًا لذلك»اهـ.[أحمد مريوش، (ص217)].
بعد الاستنطاق، «سيق العقبيُّ إلى سجن بربروس وسط رجال البوليس موبّخا بالكلمات السّفيهة، وسلّطت عليه إهاناتٌ منكرة، وعُومِلَأسوأ معاملة للحطِّ من قيمتِه وعزمِهِ في ميدانِ الإصلاح»[المصدر السابق].
وقال الشّاعر محمّد العيد عن الحادث:
«من رأى «العقبي» وهو وحيد/ موثق في «بربروس» عليل».
ستّة أيَّام رهيبة في سجن «بربروس»،«عامل المستعمرون الشيخ العقبيَّ في سجنه أسوأَ معاملةٍ، وسلَّطوا عليه إهاناتٍ منكرة ومنُّوا أنفسهم أن يروهُ يتدلَّى في المشنقَةِ»[محمد دبوز، «نهضة الجزائر الحديثة»، (ج2/ص118)]
ثمّ أطلق سراح «العقبيّ»، ونجا من الامتحان العسير الّذي ذاق فيهِ مرارة الحرمان وذلّ الهوان، ولكن إطلاقه كان مقيّدًا بشريطةِ أن تكونَ إقامته في العاصمة ريثما يتمّ التّحقيق والبحث النِّهائيّ[مريوش، (ص240)].
إِرْهَابٌ نَفْسِيٌّ يُفَتِّتُ العزائم!
لم يزل «العقبيّ» تحت طائلة الاتِّهام، ولم يزل تحت التّحقيق واستمرّ العناء والبلاء والضّغط النّفسيّ طيلةَ (18) شهرًا، إلى أن خلص القضاء إلى البراءة التّامّة في 26 فيفري 1938م[مريوش، (ص244)]. لكن سرعانَ ما نُقِضَتْ هذه البراءة، وأَلصقت الإدراة الفرنسيّة التّهمةَ بالعقبيّ من جديد، وعادت قضيّةُ «العقبيّ» إلى النَّظر والمداولة، وظلّ الاتّهام معلّقًا حتّى يكونَ أقوى أثرًا في انهيارِ أعصابِ ومعنويَّاتِ «العقبيِّ»، لأنّ القضيَّة قد تُسفِرُ عن السِّجن أو الإعدام، «لجأت غرفة الاتِّهام إلى حرب الأعصابِ مع «العقبيِّ» لإضعافِهِ نفسيًّا وحدّدت موعد المحاكمة النّهائيّة بتاريخ 20 مارس 1939م، لكنّها تراجعت من جديد وأعلنت عن تأجيلها لموعد المحاكمة إلى 20 جوان من السنة نفسها لأسباب تبقى مجهولة»[مريوش، (ص247-248)].
وكانت البراءة التّامّة في 28 جوان 1939م، «ورغم أنّ «العقبيّ» ظلّ من 1936م إلى 1939م تحت الملاحقة القضائيّة فقد بقي يُواصلُ إلقاءَ دروسه الدّينيّة في «نادي التّرقيّ»».
نعم! لم يزل «العقبيُّ» ثابتًا صامدًا واثقًا بربِّه شأن المؤمن الصّادِق لم يُؤثّر ذلكَ فيهِ ضعفًا، وهو القائلُ: «قد ابتلانا اللهُ تعالى بهذا ليمتحنَ إيماننَا وصدقنَا، وهذه سُنّةُ اللهِ فيمن سبقنا من الأنبياءِ والعظماء»[مريوش، (ص248)].
لكن الّذي أثَّرَ فيهِ وخَيَّبَ ظنَّهُ إخوانُ الرَّخاء.
الزَّعِيمُ يُصَابُ بخَيْبَةٍ ويُصْدَمُ في إخوانِ الرَّخَاء!
تأثَّرت تلكَ النَّفسُ الكبيرةُ؛ نفسُ «العُقبيِّ» أيَّما تأثُّرٍ. وكيفَ لا يتأثَّرُ من طُبِعَ على الشَّهامةِ والإباءِ والصِّدقِ في الأخوَّةِ والوَفاءِ، وهو يرى أنفسًا طُبِعَت على التَّنكُّر للإخوانِ في شدائدِ المِحَنِ وفي الضَّرَّاء، وعلى الخيانةِ وعدَمِ الوفاء، فما أعظمَها غُرْبَةً: غربةٌ بينَ الإخوان!... نَشَرَ الزَّعيمُ المنكسِرُ المصدُومُ هذه المقطوعةَ الشِّعريَّةَ في زاويةٍ من زوايا جريدةِ «البصائر» (في مارس 1937م)، يقولُ فيها:
«أَسَفِي عَلَى الآدَابِ والأَخْلاَقِ/أَسَفِي عَلَى الذَّوْقِ السَّلِيمِ الرَّاقِي
أَسَفِي على بَعْضِ الرِّفَاقِ فإِنَّهُمْ/فَقَدُوا سَجِيَّةَ كَامِلِي الأَذْوَاقِ
عَهْدِي بِهِمْ والرِّفْقُ مِنْ أَخْلاَقِهِمْ/فَإِذَا بِهِمْ خَلْقٌ بِدُونِ خَلاَقِ
لاَ يُؤْثِرُونَ رَفِيقَهُمْ وَلَوْ اقْتَضَى/حَالُ الرِّفَاقِ الرِّفْدُ بالإِرْفَاقِ
فَتَرَاهُمْ يَسْتَأْثِرُونَ وإِنْ عَدوا/نَهْجَ الهُدَى ومَكَارِمِ الأَخْلاَقِ
حَسِبُوا الزَّعَامَةَ في الظُّهُورِ ومَا دَرَوْا/أنَّ الظُّهُورَ وَسِيلَةُ الإِخْفَاقِ
مَا سَادَ مَنْ لَمْ يَحْتَفِظْ لِرَفِيقِهِ/ بِحُقُوقِهِ وبِعَهْدِ وُدٍّ بَاقِ
كَلاَّ ولاَ نَالَ الزَّعَامَةَ غَيْرُ مَنْ/ضَحَّى بِصَالِحِ نَفْسِهِ لِرِفَاقِ».[«البصائر»، عدد (60)، 26/03/1937م]
الزَّعِيمُ يَفْقِدُ صَبْرَهُ ويُظْهِرُ مُعاناتَهُ:
تخلّى «العقبيُّ» عن إدارةِ جريدةِ «البصائر» مُرغَمًا! في ديسمبر 1937م، لأسبابٍ منها المتاعب الّتي تحمَّلها في تسيرِ الجريدةِ، يقولُ هُوَ عنها: «فلم تطاوعني نفسي على تعطيلِ الجريدةِ.. وكافحتُ جهدي حتّى أوصلتُها إلى الاجتماع العامّ، واستعملتُ كلّ الوسائل لتعديلِ ميزانيّتِها فلم أقدر على ذلك، كما أنّني لم أقدر وأنا معَ ما أنا عليهِ من شواغب وشواغل أنْهَكَت قوايَ وأضعفَت جسمي أن أقومَ بعملِ جماعةٍ وحدي...»[مريوش، (ص263)].
خِلاَفُ الإخوان ونِهايةٌ مُؤسِفةٌ:
فرنسا لا تُقاوَمُ بشعبٍ ضعيفٍ أعزل، بشعبٍ جاهلٍ أمّيٍّ، بشعبٍ يجهلُ توحيدَ ربِّهِ ولا يزالُ خاضعًا للخُرَافاتِ وأربابِها. ذلكَ ما كان يقوله «العقبيُّ» منذُ حلَّ بالجزائر. لم يزل على هذه الفكرةِ لم يتزحزَح عنها، ولم يكن مواكبًا لإخوانه الزّعماء في تطوّرهم الفكريِّ وتخطيطهم الإعداديِّ، ففي الحينِ الّذي بدأَ فكرهم الثّوريُّ يظهرُ شيئًا فشيئًا، ويُظهرون العصيانَ لفرنسا ويعترضونَ عليها في سياستِها، كانَ العقبيُّ لا يزالُ يَنْأَى بنفسِهِ عن السّياسةِ ويرى أنّهُ لا قِبَلَ لهُ ولإخوانِهِ بها! ويُلحُّ عليهم بأن لا يزجُّوا «جمعيَّة العلماء» الّتي كوَّنها هو وإخوانُهُ في هذا المرتقى الخطير!
وهو القائلُ: «قد تأسّست «جمعيّةُ العلماء» علميّة دينيّة لا غير، ولكنّ أعداءها كثرت أصنافهم وتنوّعت مكائدهم، واتّحدت مقاصدهم للقضاءِ عليها، وأوّلُوا بعض إجراءاتِها بما هي بريئة من مقصدها وبعيدة عن إرادتها، ولقد كنتُ دائمًا معارضًا لها، وفي اعتقادي أنّ البلاءَ انصبَّ على جمعية العلماء من بعض إجراءاتها أوّلها المضادُّون لها بصور غير لائقة، وكم كنتُ أتألّم لمثل هذه الإجراءات، وكم كنتُ أحذِّر وأُنذر لأنّني أعلمُ كثيرًا ممّا لا يعلمُون، ولكنَّها كانت تقعُ رغم أنفي لأنّ الأغلبيَّةَ كانت على خلافِ رأيي...»اهـ.
وكان «العقبيُّ» يودُّ لو أنَّ إخوانَهُ يأخُذُون بفِكْرتِهِ ويسمعونَ لنصحه وتحذيرِهِ، فقالَ: «وأخيرًا أُصرّح بأنّني ما عدتُ أتحمّلُ مثلَها وقد قامَ بسببِ ذلك خلافٌ بيني وبين الأعضاءِ وقد اجتهدتُ أن أقنعهم برأيي ولكن لم أستَطِع...». والظَّاهرُ أنّهذا الاختلافَ في الأفكارِ والتّبايُنَ في خطَّةِ العملِ لم يستطع «العقبيُّ» أن يتحمَّلَهُ كثيرًا، وجاءت ساعةُ الفراقِ والانفصالِ وهي حتميَّةٌ بالنِّسْبَةِ للعقبيِّ (رحمه الله تعالى). وهي حادثةُ البرقيَّةِ! وما أدراك ما البرقيَّة!
أرادَ «العقبيُّ» عشيَّة اندلاع الحرب العالميّة الثّانيّة أن تُوجِّهَ الجمعيّةُ كباقي الجمعيّات والهيئات برقيَّةَ مساندةٍ لفرنسا وتضامُنٍ، فقوبلَ بالرّفضِ التّامّ وأَصَرَّ هُوَ على رأيِهِ، وأصرَّ ابنُ باديس والبقيَّةُ على رأيِهِم. ومن المهمِّ أن نذكرَ أنّ «العقبيّ» نفى عن نفسهِ أن يكونَ رأى هذا الرّأي وحبّذ هذا الصّنيع بإيعازٍ من جهةٍ، ونفى أن يكون من المتملّقينَ للحكومة! وإنَّما رأى أنّ اتّقاءَ شرِّ الحكومةِ وأنَّ مصلحةَ الجمعيَّة وضمانَ سَيْرِ واستمرارِ أعمالها لصالحِ الأمّة إنّما يكونُ بذلك، وأنّ المعاكسَةَ للحكومةِ يعني القضاءَ على الجمعيَّة وزيادة متاعب وعراقيل هم في غنًى عنها.
انفصلَ «العقبيُّ» عن مجلس الإدارة (في سبتمبر 1938م) واحتفظَ بعضويَّتِهِ في الجمعيَّة، ليُواصلَ العملَ كما هو يرى وكما هو يُقَدِّرُ بعد أن لم يجِد استجابةً من إخوانِهِ.
لَوْمٌ وعِتَابٌ مَرِيرَانِ:
ويُضافُ إلى ما سبقَ أنّ «العقبيَّ» كَرِهَ تصرّفاتِ (بعضِ) إخوانهِ المصلحين وهو يُصارعُ المحنةَ الّتي كادت لولا لطفُ الله أن تُودي بحياتِهِ، وكانَ يرى أنّهم يُضِرّون به من حيثُ يُريدون نفعَهُ، وكانَ يرى أنّ ما أصابَهُ هو نتيجةٌ لما كان حذّرهم منه من قبلُ، فها هو –دون غيرِهِ- يَجْنِي ثمرةَ صنيعِهم الّذي كان يُعارضِهم ويختلفُ معهم فيهِ. انتقدَ «العقبيُّ» طريقةَ تعاملِ (بعضهم) مع محنتِهِ، فقيلَ إنّهُ كانَ يقولُ: «أمّا رجالُ الجمعيّةِ فقد كانوا يزيدُونَ عليّ الحَطَب، ويصبُّون اللّيسانس(البنزين)... اتركوني وخلُّوا سبيلي...»[مريوش، (ص262)]. وهو الّذي قالَ لهم في الاجتماع العامّ يطلبُ منهم أن يُوافقوا على طلبِهِ وأن يُلايِنوا الحكومةَ: «إنّ رأسه معرّضٌ للخطر، وأنَّهُ سيُحاكمُ أمام مجلس المحكمة الجنائيَّة، وأنَّهُ يخافُ على نفسِهِ وَأولادِهِ».
تَضْحِيَةٌ لأَجْلِ الإخوان:
ومن أَنْبَلِ خِصَالِ «عُقْبِيِّنَا»، أَنَّهُ تَخَلَّى عن عُضْوِيّتهِ كَمُسْتَشَارٍ في المجلسِ الإداريِّ تَفَادِيًا للاصطدامِ بينهُ وبينَ إخوانِهِ. يقولُ: «أؤكّد لكلّ إخواني إنّي وقفتُ هذا الموقف وأنا غير متأثّر مطلقًا بأيِّ إيعاز من الإيعازات الحكوميّة ولا قاصد علمَ الله وهو العليمُ بما في الضّمائر المطّلع على ما في الصُّدُور إلى تملُّقِ أيّ ناحيةٍ إداريّةٍ، ولكن شفقتي على البقيّة من ثمراتِ هذه الأمّةِ وحرصي على المصلحةِ العامَّةِ، مع تقديري للظُّروف والوضعيَّةِ الحاضرةِ، كلّ أولئك حملني على الإصاخةِ لصوتِ ضميري فقط... غيرَ آبهٍ بما قيلَ وبما عسَى أَن يُقَالَ»اهـ. فيظهر أنّ هذه الاستقالة ما أرادَ بها «العقبيُّ» الشّقاق! وإنّما أرادَ بها المحافظةَ على الجمعيَّة والحرصَ على قُوَّتها؛ بأنْ تفادَى الاصطِدامَ المحتومَ بينه وبين بعضِ أعضائِها[مريوش، (ص270)].
مُحاولاتٌ للصُّلح وتجديد الاجتماع:
تأثّر رجالُ الجمعيّة ورجال الإصلاح لهذا الانفصالِ، وحاولَ الكثيرون إقناعهُ بالعُدولِ عن موقفهِ، ولكنّ «العقبيَّ» أصرَّ على تركِ الجمعيَّةِ، لا سيَّما «بعد أن ضاقت نفسُهُ من ويلاتِ الحرب الكلاميّةِ الّتي روَّجها المغرضونَ»[مريوش، (ص269)]. فهؤلاءِ الّذين تركَ لأجلهم «العقبيُّ» الجمعيَّةَ وأرادَ أن يستقلَّ بنفسِهِ، وهو القائلُ: «وقد آليتُ على نفسي أن لا أعودَ إليها كعضوٍ إداريٍّ ما دمتُ حيًّا، هذا مع إيماني بأنّ مبادئَ هذه الجمعيّة الّتي أسّست للعمل بها والسّير عليها إنّما هي مبادئُ الإسلام الحقَّة... وإنّ أعضاءها هم إخوانٌ لي في الحركة الإصلاحيّة، والمبدأ الحقّ الّذي عاهدنا اللهَ على العملِ به والتّضامنِ فيه حتّى النّفس الأخير من حياتِنا... ولْتَقَرَّ أَعْينُهُمْ ببُعْدِ العُقبيِّ عن إدارةِ هذه الجمعيّةِ الّتي ترَكَها والأستاذُ –رحمه الله- ابن باديس قويٌّ يعمَلُ مُتَوَدِّدًا ومُتقرّبًا إليَّ بكُلِّ ما في وُسعهِ من أسبابِ التّودُّدِ والتّقرّبِ...»[مريوش، (ص274)].
وَبَقيَت نقائِصُ البَشَر ومِن وَرَائِهَا الحَزَازَاتُ والأَغْرَاضُ...!
ولتبقَى نقطةُ الضّعفِ في «العقبيِّ» سمةً ظاهرةً، إنَّها حساسيَّتُهُ المُفرِطة، وتأثُّرُهُ العميق، وطِيبتُهُ الّتي استُغِلَّت، فغرُّوهُ وخَدَعُوهُ فانخَدَعَ لهم، فباعَدُوا بينَهُ وبين إخوانه وزادُوا في عمقِ الشّقّة، وقطعوا طريقَ الاجتماع وحالُوا بين المصلحين وبين مُبْتَغَاهُمْ في تجاوزِ الخلافات، وللهِ الأَمْرُ مِن قبلُ ومِن بعدُ، يقولُ «العقبيُّ» على أَثَرِ وفاةِ أخيهِ وصديقِهِ الإمامِ ابن باديس (رحمهما الله) وبعدَ أن تحدَّثَ النَّاسُ لمَ لم يحضر «العقبيُّ» الجنازة؟ وظنُّوا أنّ ذلكَ لأجلِ الخلافِ الشّخصيّ القديم، وبعدَ أن أَبَانَ «العُقْبِيُّ» عن عُذْرِهِ قالَ: «ماتَ ابن باديس ودفن مبكيًّا مأسوفًا عليه؛ فلتمت ولتدفن حفائظ وحزازات وأحقاد كوّنتها أغراض شخصيّة ومقاصد سيّئة لمن يلذّ لهم دائمًا الاصطياد في الماء العكر، وليتّقوا اللهَ في أنفسِهِم وفي إخوانهم المسلمين الّذين هم في هذا الوقت أحوج ما يكونون إلى الاتِّحاد والاتّفاق وجمع الكلمة وليعلمُوا أنّ بلادَنا الفقيرة من الرّجال العاملين كلّما فقد منها رجل من رجالها القليلين تفقد معه ناحية من الكمال لا يقدر غيره على تعويضها؛ وسدّ الفراغ الّذي يترك من وراء فقدها. وبعد هذا كلّه فلينته المرجفون في المدن والقرى عن إرجافهم وباطلهم وليعلموا أنّا وهم ميّتون؛ وإنّا إلى الله جميعًا راجعون!!..»اهـ.
وهو الّذي قال يومًا لأحد تلاميذه: «يَهْرِفُ النَّاسُ ويُثَرْثِرُونَ بِمَا بَيْنِي وبَيْنَ الشّيخِ عبدِ الحميد من خلافٍ وخصامٍ وسوف لا ينتهي كلامُ النّاس ما دامُوا عبيدَ أنفسهم ومختلف أهوائِهِم...»[محمد الطاهر فضلاء، (ص74)].
ومن نقائصِ البَشَر: ولا سيَّمَا الزُّعماء؛ أنّهُ «لا بدَّ أن يقعَ في نفوسِ بعضِهم أو كلّهم ما هو عادةٌ في العلماء العظماء، لا يرضى أحدهم أن يسبق أو يتقدّمه سواهُ، أو بشار إليه بالبنان دونهُ». «وهذا ما جعلَ الإناءَ يطفحُ على الأيّامِ، فضاقَ قلبُ الشّيخِ العقبيِّ...»[محمد دبوز، (2/120)].
ومن نقائصِ البَشَر، ولا سيّما الزّعماء: الاعتداد بالنَّفس، وبخصوصِ العقبيِّ فقد «كان رحمه الله معتدًّا بنفسِهِ كلَّ الاعتداد. وهذا الاعتدادُ هو الّذي أورثهُ الثقة التّامّة بالنّفس فكان على الشجاعة والإقدامِ والثّباتِ والأهوالُ فاغرةٌ عليه من كلِّ جانبٍ، وأورثه الاعتدادُ بالنّفس الثّقة برأيه ثقةً زائدةً في مقاماتِ المداولةِ، وذلكَ هو طبعُ كلِّ الزّعماء، إنَّهُ المزيَّةُ الّتي تكونُ أحيانًا من العيوب»[محمد دبوز، (2/114)].
ومن النّقائصِ الّتي تعتري البشَر، أنّهم ليسُوا في منعَةٍ من تسلُّطِ قرناءِ السُّوء وبطانةِ الفسَاد، يُوغرون للصُّدُور ويُفسدُون بينَ الأحِبَّة –إلاّ من عَصَمهُ اللهُ تعالى-، فهؤلاء تسلَّطوا على «العقبيِّ» فأفسَدُوهُ على إخوانِهِ وأفسَدُوا إخوانَهُ عليهِ، ووسَّعوا هوَّةَ الخلاف: «بعض تلاميذِ الشيخ «العقبيّ» وحاشيتِهِ وبعض تلاميذ زملائه وحاشيتهم، كانوا يوسوسون لهم فأفسدُوا قلبَ الشيخ الطّيّب على زملائِهِ، وأفسدَ الآخرونَ قلوبَ المشائخ عليهِ»[محمد دبوز، (2/121)].
وقد كتبَ أحدُ أصدقاءِ «العقبيِّ» إليهِ بكتابٍ محَّضَ لهُ فيهِ النَّصيحةَ وحذَّرَهُ من الانسياقِ وراءَ أقاويلِ المغرِضِين، فقالَ لهُ (سنة 1940م):
«إلى الشّيخ الطّيّب العقبيّ، بعد السّلام. سيّدي! أعوذُ بالله من شياطينِ الإنس الّذين أفسدُوكَ على إخوانِكَ وأفسدُوا إخوانَكَ عليكَ وكادُوا ووشَوا ودسُّوا ووسوسُوا حتّى كدَّرُوا بينكَ وبينهم جوًّا ما كانَ أصفاهُ! وبَنَوْا بينك وبينهم سَدًّا أُناشدكَ اللهَ أن تقولَ معي: تَبَّت يدَا مَنْ بَنَاهُ!...»اهـ.[«محمد الأمين العمودي الشخصية المتعددة الجوانب»، (ص96)].
ومن نقائصِ البشر: الحِدَّةُ وشدّةُ الانفعالِ الّتي قد تعتري بعضَهم، فيكونُ التّأثُّرُ وانحرافُ المزاجِ سريعًا، وكذا كانَ «العقبيُّ»(رحمه الله تعالى)، وقد زادَ من حِدَّتِهِ وسُرْعَةِ غَضَبِهِ وجعلَهُ عَصَبِيَّ المزاجِ أكثرَ ما اعتراهُ أخيرًا من مرض (السُّكَّري)، من شدّة الهمومِ والأهوالِ التّي مرّت بهِ، واستمرَّ معهُ إلى أن أَرْدَاهُ طريحَ الفراش، ليقضى عليهِ سنةَ (1960م).
وأزيدُ على ما ذكرتُ، أنّ «العقبيَّ» خاصَّةً حِيكَتْ مؤامَرَةٌ ضدَّهُ، فكانَ مُستَهْدَفًا «مِن (دهاقينِ) الاستعمار وخبرائه في علم النّفسِ»، ومُحاطًا بجواسيس من مسلمين ونصارى ويهود وصهاينة، [مريوش، (ص264)]. فكأنَّهُ كانَ يعلمُ بمكانِ هؤلاء وما يكيدون ويُدبِّرُونَ، ولا يعلمُ بذلكَ إخوانُهُ، وكأنَّهُ كانَ يرى ما لا يرونَ. هذا إذا كانَ يعلمُ، وإلاَّ فقد أَخَذُوهُ على غِرَّةٍ وجهلٍ بما يمكُرُونَ.
وأخيرًا: فالعُقْبِيُّ: «بعدَ كُلِّ هذا بَشَرٌ وإنسانٌ، يَعْتَرِيهِ ما يَعْتَرِي النّاسَ من الضّعفِ والقوّة ومن الخطأ والصّواب، ولكنّه في كلا الحالين مأجورٌ غير مأزور...»[محمد الطاهر فضلاء، (ص68)].
ولعلَّ الّذي لا يَعرفُهُ كثيرٌ من النّاسِ أنّ الّذينَ عَمِلُوا على كَتْمِ كُلِّ فضيلةٍ للشّيخِ وسَعَوا لمَحْوِ جهادِهِ وطمسِ نضالِهِ وأرادُوا أن يُفرِّقوا بينه وبين الأمَّة الّتي لم يَأْلُ جُهْدًا لخدمتِها، كانَ غيرُ قليلٍ منهُم ممّن يُنسَبُ إلى الإصلاحِ! وهو من جملةِ أنصَارِهِ ومعدودٌ في المُصلِحين! فنَخَرت الفُرْقةُ بينَ أصحابِ الفكرةِ الواحدةِ وتصدَّعَ الجمعُ، وتبدّلت المودَّةُ حِقْدًا وإِحْنَةً، ورَجعت المصافاةُ حَرْبًا وإلْبًا، وتحرّكت السِّعَايةُ الكاذبةُ، وفشت الإشاعةُ المُغرضة، وانتشرت النَّميمةُ المُفسِدةُ، فساءت الظُّنُون ومرضت القلوبُ مِن أثرِ ما نُفِثَ فيها من السُّمُوم، وصارت الألسنُ تَلُوكُ الفِرَى والبُهتان، وتمضغُ الباطلَ وتُشِيعُ الهَذَيان، واللهُ المستَعَانُ.