سفيان الجزائري
12-02-2012, 01:03 PM
الشَّيخ علي بن عمارة البُرْجِي: صَلاَبةٌ في الحَقِّ، وتَفَانٍ في خِدْمَةِ العِلْمِ والدَّعْوَةِ
بقلم : الشَّيخ الباحث : سمير سمراد - حفظه الله
[ نُشر في مجلّة «الإصلاح»، السنة الرابعة، العدد(18)، المحرم-صفر 1431هـ/جانفي- فيفري2010م. (ص:52-61) ]
الشيخ علي بن عمارة البرجي، نسبةً إلى«البُرْج»: قرية مِنْ قرى «الزِّيبَان»، تبعد عن«طولقة» بنحوِ(04)كلم، وعن«بسكرة» بنحو(40)كلم، وتُعرف بـ«برج-طولقة» و«برج بن عزوز»، وهي بلدية من بلديات دائرة طولقة ولاية بسكرة.
هو واحدٌ من علماء الوطن الجزائري، طارت شهرته وذاع صيتُهُ في أرجاء «بسكرة»، في منتصف العشرينيات، وكان معدودًا في الطبقة العالمة العاملة، وفي جملة الأساتيذ النَّابغين، حتّى لُقِّبَ بِـ: «نِحْرِير البُرج»؛ فقد جاء على لسان أحد رؤساء زاوية الشيخ علي بن عمر(الزاوية العثمانية)-بـ:«طولقة»: الشيخ عبد المجيد بن إبراهيم (سنة:1926م)، وهو يستحِثُّ علماء الوطن على التصدي للإجابة على مشكلات المسائل الدينيّة ومهمّاتها، قولُه[1]:
«...وحيثما كانت هاته المسائل من المهمات الدينية اقترحتُ على عامة علمائنا الجواب عن عللها للحاجة إليها فَسَنُلْفِتُ أنظارَ....نِحْرِير البُرْج علي بن عمارة...»، في جماعةٍ سمَّاهُم من مختلف جهات الوطن.
مولده وتعلمه:
ـ ولد الشيخُ في بلدة «برج بن عزوز» سنة1895م. يقول الأستاذ سليمان الصيد-رحمه الله-:
«منذ صغره اتجه الوجهة الصحيحة؛ إذ اغترف من منهل العلم وقد قرأ كتاب الله العظيم في برج بن عزوز على طلبة البرج وشيوخها الأجلاء، وبعد حفظه القرآن الكريم، وأخذه للمبادي العلمية التي كونته على علماء بلده ونواحيها. تاقت نفسه إلى التزود بالعلم فانتقل في ظرف صعب لم يُثْنِهِ عن طلب العلم إلى تونس. والتحق بجامع الزيتونة وبقي عدة سنوات في الدراسة»[2].
تخرّجه من جامعة الزيتونة(1925م):
ـ تخرَّج الشيخُ عامَ(1925م)من الجامعة الزيتونيّة وكان من رفقائه فيها: الشيخ محمد بن خير الدين الفرفاري(من «فرفار»-طولقة)، وقد فازا معًا في العامِ نفسِهِ في امتحان شهادة «التطويع»(العالِميّة)، ورجعا إلى الوطنِ عالِمَين عاملَين، ليُشاركا في نهضته العلميّة الدينيّة: وقد كتبت «النجاح»[3] -لصاحبها الشيخ عبد الحفيظ بن الهاشمي(عثماني)- تهنِّئُ المذكورَيْنِ وغيرَهما من الجزائريين؛ فقالت:
«العُلماء الجُدُد» من الكلّيّة الزيتونية:
«فاز في امتحان الكلية الزيتونية هذه السنة العلماءُ الأجلاءُ المشايخُ السادة:
....علي بن عمارة من البرج - طولقة....محمد بن خير الدين الفرفاري من فرفار - طولقة...فنُهَنِّيهِمْ بالدرجة العلمية التي حصلوا عليها بفضل كَدِّهِمْ وأَلْمَعِيَّتِهِمْ كما نُهَنِّي القطر الجزائري بهم».
ـ وكتبَ الإمامُ ابن باديس صاحبُ: «المنتقِد»[4] كلمةً تحملُ أسمى المعاني، وتنضحُ بغيرةٍ دينيَّةٍ عظيمة لا يحملها إلاَّ صدرٌ مثلُ صدرِه، وهي صالحةٌ لأنْ يُخاطَبَ بها: كلُّ مؤهَّلٍ في العلم ومَن هو معدودٌ في أهلِهِ. فنوجِّهُ عنايةَ إخواننا إليها، وندعوهم إلى الإصغاءَ إليها، عسى أن تعيَها قلوبُهم، وتنشطَ للأخذِ بها هممُهم، فما أشبهَ الحالَ بالحال، وما أحوجنا إلى أمثالِ أولئك الرجال!:
«التهنئةُ الحقَّة: رجالُ العلم
في كل عام منذ سنوات يفوزُ بشهادة العالمية «التطويع» من جامع الزيتونة المعمور جماعة من أبناء الجزائر، وقد فاز هذا العام هؤلاء السادة الفضلاء على الترتيب:
....محمد خير الدين/فرفار -طولقة
...علي بن عمارة/ البرج -طولقة...
فنُهَنِّيهِمْ ونُهَنِّي بهم الوطن مُذَكِّرِينَ لهم بأنَّ إحياءَ اللغة وقتلَ الضلالات ونَشْرَ المعارف هُمْ وَأَمْثَالُهُمْ المسؤولون عَنْهُ والمضطلعون للقيام به فَعَلَيْهِمْ أن يجاهدوا في سبيله مع امتزاجهم بطبقات الأمّة وإطلاعهم على جميع شؤونها العامّة وصبرهم على كلِّ بلاء يلحقهم من جهل الجاهلين واستبداد الظالمين وكيد الخائنين فإنهم جنودُ الحق وأشرفُ حالات الجنديِّ أن يموتَ في خطِّ الدِّفاع. ولَكُمْ«بِحَمْدِ الله» مِنْ ثَاقِبِ الفِكْرِ وصحيحِ العلم ونشاطِ الشباب ما يُؤَهِّلُكُمْ للنُّهُوضِ بِكُلِّ عظيم».
انتصابُهُ للعمل الإصلاحي في بلدتهِ:
ـ لقد اضطلع الشيخ علي بن عمارة بالمسؤولية، وعرف خطر المهمة، فانتصبَ للعمل الإصلاحي، وشرع فيما هو واجبٌ على أمثاله، من نشر العلم والتعليم والدعوة إلى الحقّ والتحذير من الباطل، واستصلاحِ ما فسد من حال هذه الأمة المغبونة، الجاهلةِ بدينها والمغرَّرِ بها، وتحريرِها ممّن تسلّطوا عليها من الدجاجلة والطمّاعين!
ـ يقول الشيخ محمد بن خير الدين: الذي انتصب للتدريس في بلدتِهِ: «فرفار» وما جاورها من قرى واحات الزيبان، بعد عودته من تونس سنة(1925م): «كنت أقوم خلال هذا النشاط التعليمي بالتنقل إلى قرى الزاب وما حولها من أجل التنسيق مع إخواني ببسكرة أمثال الشيخ الطيب العقبي، وزميلي في الدراسة بالزيتونة الشيخ علي بن عمارة البرجي، والشيخ محمد العيد آل خليفة والأستاذ الأمين العمودي رحمهم الله، وكانوا يبادلونني الزيارة أفرادا وجماعات في المناسبات المختلفة الخاصة والعامة»[5].
إلى جانبِ الشيخ ابن باديس، والشيخ الطيب العقبي:
ولبيانِ مدى الالتحام والاتحاد بين المصلحين السَّلفيِّين، أنقلُ هنا مُكَاتبةً-على طولها- نُشِرَت في«صدى الصحراء» عن«الوفد العلمي القسنطيني: يوم الخميس11فيفري[1926م] قَدِمَ وفدٌ علمي من مدينة قسنطينة إلى حاضرة بسكرة....يتألف هذا الوفد من علاَّمة القطر الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديسوالكاتب الكبير...الشهير الشيخ مبارك الميلي...»، «وبهذه المناسبة أيضًا قدم من الزيبان حضرة الشيخ علي بن عمارة البرجي والشيخ محمد بن خير الدين الفرفاري والشيخ الصديق بن عريوة الزيتونيون..»، «ذهب إلى المحطة لملاقاة ذلك الوفد الفخيم جمعٌ من الأدباء والفضلاء وفي مقدمتهم الرجل الوحيد والمصلح الكبير والكاتب القدير والسياسي الشهير الأستاذ الطيب العقبي..»[6].
«ومن الغد ذهبوا إلى بلدة «سيدي عقبة» لأداء صلاة الجمعة...»،
«راجعين إلى «بسكرة»..يوم السبت..».
«ويوم الأحد سافر هذا الوفد الفخيم إلى طولقة باستدعاء من العلاَّمتين الفاضلين الشيخ علي بن عمارة والشيخ محمد بن خير الدين الزّيتونيَّيْن.....توجه الوفد إلى بلدة «البرج» باستدعاء من العلامة الشيخ «علي بن عمارة» فنزل بمحلِّهِ ثم قصد «جامع الشيخ بن عزوز» لتأدية صلاة العصر ومنه إلى جامع الجمعة وقد ألقى فيها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس درسًا فسر فيه قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس:62]، إلى قوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾[يونس:63].
وقد أبدع وأجاد فيه وبين حقيقة الولي وما يعتقد فيه. ثمَّ اقترح الشيخ علي بن عمارة على الشيخ الطيِّب بأن يُلْقِيَ على الحاضرين كلمات ليبرئ نفسه مما أشيع عنه من نكران(الولاية) و(الكرامة) و(الزيارة) لقبور الأولياء. فتكلم في الموضوع بإسهاب وبين للناس أنه لا ينكر الولاية من أصلها والكرامة والزيارة بشرطهما الشرعيين وما كاد يتم درسه حتى رجع الحاضرون عن كل ما كانوا يسمعونه عنه من الأراجيف والأباطيل وقد حصل التفاهم والحمد لله.... »اهـ.
ـ يبدو أن الشيخ ابن باديس كان يولي الاهتمام الكبير لدعوة الشيخ العقبي في«بسكرة» ولدعوةِ إخوانه وأنصاره في«الزيبان»، وجاءت هذه الرحلة أو الزيارة :دليلاً على ذلك، كما جاءت للتأكيد على المؤازرة والنصرة، وشدّ عضدهم بإخوانهم في حاضرة قسنطينة، كما قد تكونُ لأجل التخفيف من حدّة الصراع بين الفريقين (السلفيين والطرقيين)، والتدخل لإيجاد سبيلٍ للتفاهم، بإيجاد خطابٍ ليّن وهادئ؛ بعد تلكم الثورة الجامحة، والهجوم العنيف!؛ وإحداث توازنٍ دون الإيغال والإسراف في الهجوم! ويشهدُ لهذا أن ابن باديس كان قد أَوْقَفَ في مجلته «الشهاب» الكتابات الهجومية، مما أغضب عليه الشيخَ العقبي، الذي لم يُرْضِهِ أن يكون-حسْبَهُ- لأهل الضلال هذا الامتياز!
والمقصودُ: أن هذه الزيارة نَفَعَت الشيخَ العقبي وإخوانه العلماء، وأعطت نجاحًا ودفعًا أكثر لدعوتهم[7].
محاربته للطُّرُقيِّين:
نشر الشيخ السعيد الزاهري في جريدته «البرق»[8] ، مكاتبةً ظريفةً عن: «وفد الشعراء يزور طولقة-فرفار-البرج»، الذي ضمَّ: (الأمين العمودي، الطيب العقبي، محمد العيد، السعيد الزاهري)، وهؤلاء أعمدةُ الإصلاح وزعماؤُهُ في«بسكرة»، وبعد زيارة طولقة ثم فرفار، يقول الزاهري: «...مشينا إلى«البرج» فنزلنا في ضيافة الأستاذ الشيخ علي بن عمارة فظللنا عنده عامة يومنا. وقد قرأ الأستاذ العقبي بعد صلاة العصر درسًا هائلاً حضره أهل البلاد كافة؛ ولقد فتحنا بذلك فتحًا مبينًا، فأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وإن كانوا قبل ذلك من المسلمين»، ثم رجعوا إلى فرفار، يقول الزاهري: «ثم ركبنا عند الزوال قطار بسكرة وشايعنا إلى محطة «ليشانة» حضرات الأساتذة السادة: محمد خير الدين، علي بن عمارة، بلقاسم الميموني، وكان الشيخ السعدوني[9] ركب وتبوأ مقعده قبلنا ولم أكن رأيته قبل اليوم...وقد حيَّاهُ الجماعة قبلي، وسبقوه بالسلام عليه. وما كدنا نتبوأ مقاعدنا حتى أخرج سيدي علي بن عمارة العدد السادس من جريدة «البرق» وكلفني أن أقرأه أنا بالجهر على القوم وهم يسمعون فقرأت أكثره وقرأ هو ما بقي كذلك ثم ودعونا في محطة «ليشانة» ولم يتكلم الشيخ السعدوني في أثناء هذه المدة بكلمة مع أننا جميعًا نكلمه ونقبل عليه بكل أدب...».
ـ ونشر صاحب«البرق»[10] أيضًا مكاتبةً لـ«سائح» تحت عنوان: (سياحة)، وصَدْرُ هذه المكاتبة يُشعرُ بأنّها لصاحب«البرق» نفسِه؛ الشيخ السعيد الزاهري، يقول: «ثم رحلنا منها[أي: طولقة] إلى بلدة«البرج» بلدة ذلك الأستاذ الحكيم شديد اللهجة على الطرقيين الخرافيين وأذنابهم المتملقين الشيخ علي بن عمارة فقابلني مع جمع من تلامذته وهو يبتسم قائلا ليعيش حزب الله المؤمنون الصالحون ولنسقط ليعيش حزب الله المؤمنون ولنسقط. تبين لي أني قابلت أسدا من أسد الله فقلت له: سبحان الله؛ يا ويل الطرقيين ويا ويح أذنابهم منك. ثم التفتُّ إلى جماعة تلامذته المصلحين فوجدتهم كالأشبال حولنا يتَّقدون غيرة على الدين والوطن والإنسانية ويمقتون كل طرقي كيفما كانت صبغته وبأي شكل تشكل ومن أي نوع خرج وأنشدني بعض تلامذة الأستاذ المذكور قصيدة يهجو بها فَرُّوج «أورلال»[11] الطرقي ومطلعها: (بين «بيقو» و«بن طيوس» سراب) وسينشرها في «البرق» الخاطف لأهل الزيغ والضلال الذين يقولون الرجوع إلى الكتاب والسنة ضلالة أبدية وشقاوة سرمدية اليوم وقبل اليوم.....وقد صفى جوُّ بلدهم «البرج» من خرافات الطرقيين بسبب ما يلقيه فيهم أستاذهم الشيخ علي من الدروس المتوالية والأفكار الطيبة السديدة فبتنا ليلة عندهم وما أجملها ليلة نتحادث فيها على أحسن الطرق التي توصل لرقي أمتنا وما فيه صلاحها ومن جملة ما ذكرنا تعليم الناشئة الجديدة بطرق صالحة مفيدة وبهذه المناسبة ذكر لي أنه عزم على إنشاء مكتب للأولاد الصغار لتعليم القرآن وشيء من المبادئ العلمية لأن المكتب القديم صار غير صالح لما فيه من القاذورات والرطوبات...»اهـ.
قصّةُ «مطبعة الإصلاح» ودورهُ فيها:
وكما قام الإمام ابن باديس في «قسنطينة» بتأسيس جريدته: «المنتقِد» ثمَّ «الشهاب»، لتكون لسان الشبّان الناهضين، ومنبرًا لأقلام المصلحين السلفيين، تجولُ وتصولُ تعْرِضُ «الإسلام الصحيح»، وتَشُنُّ الهجوم على الباطل والمبطلين، قامت الجماعةُ المصلحة في «بسكرة» بتأسيس صحافة حرّة، فكانت«صدى الصحراء» (سنة:1925م) لصاحبها الشيخ أحمد بن العابد العقبي، وقد شاركهُ في التأسيس والتحرير، الزعيم: الطيّب العقبي، والشيخ علي بن عمارة، وغيرهما من العلماء والكتّاب الأدباء[12].
ثمَّ أسَّسَ الطيب العقبي جريدتَهُ «الإصلاح»؛ وقد شاركه في تأسيسها الشيخ علي بن عمارة وغيره من المصلحين[13]:
ـ صدر العددُ الأول منها: في8سبتمبر1927م، طَبَعَهُ في تونس، بعد أن عجز عن طبعه في مطبعة جزائرية! وقفت الإدارة الفرنسية في وجه «الإصلاح»، ومَنَعَتْهَا من الصدور وعطَّلَتْ طبعَهَا في تونس! وبعد عناءٍ كبير، «تمكَّنَ العقبيُّ من إصدار العدد الثاني من جريدته بتاريخ5سبتمبر1929م، أي بعد سنتين كاملتين من صدور العدد الأول»![14].
طُبعت «الإصلاح» هذه المرَّة!..ليسَ في قسنطينة ولا في الجزائر ولا في تونس! وإنّما طبعت في بسكرة.
ـ يحدثنا الشيخ محمد بن خير الدين(1/91)عن «مطبعة الإصلاح»، وقد سميت: «المطبعة العلمية»، واشتراك جماعة من المصلحين(منهم: الشيخ علي بن عمارة) لشرائها، «وذلك بهدف إصدار جريدة «الإصلاح» التي أدارها الشيخ الطيب العقبي، والقيام ببعض الأعمال التجارية التي خُصص عائدُهَا للإنفاق في سبيل الحركة الإصلاحية، وقد جعلناها وَقْفًا على خدمة الحركة الدينية الإصلاحية راجين بذلك ثواب الله»، وانظر صورةَ العقد[المخطوط] بأسماء المشاركين، في«مذكرات الشيخ خير الدين» (1/93-94)؛ وبدايتُهُ: «نحن الممضين أسفل هذا نشهد على أنفسنا أنَّنَا أقرضنا الشيخ الطيب العقبي عدد32500اثنين وثلاثين ألفا وخمسمائة فرنك وهذا العدد دفعه أصحاب الأسماء أسفله:
السيد خير الدين محمد....السيد علي بن عمارة....السيد محمد العيد حم علي....وهذا القرض على سبيل الإحسان فقط أي بغير فائدة ولأجلٍ غيرِ مُسَمَّى والغرض منه إنشاء مطبعة ببسكرة تحت إدارة الشيخ الطيب العقبي وإن الشيخ الطيب العقبي لا يُلْزَمُ بأداء العدد المذكور أعلاه إلا إذا سلم المطبعة إلى غيره ....1جوان سنة1929....»اهـ.
لقد سَخَّر المصلحون أموالهم لأجل الدعوة ولضمانِ استمرارها وبقاءِ قوَّتِهَا، وساندوا الزعيمَ الكبير ووقفوا إلى جانبه في محنته ومحنتهم بتعثُّرِ«الإصلاح»، وأبَتْ عليهم همَّتُهُمْ وأنفتُ غيرتُهم الدينيَّة أن تبقى مكتوفةَ الأيدي تتفرَّجُ على ما أصاب «الإصلاح»!
فأين السلفيُّون اليوم!من مثلِ هذه المؤازرة؟! ولا يزالُ أهلُ العلم يشكون من فقدِ النَّصِير، وعدم الظَّهير، ويناسبُ هنا نقلُ ما حدَّث به الجمال القاسمي الدمشقي(سنة1329هـ) عن الطاهر الجزائري أنه كان يقول لهم: «أما يكفي فلانًا أن يُنْفِقَ من زمانه وقُوَّتِهِ لتقوية الحق ومقاومة الجمود حتى يحمل همَّ النَّفقة لإظهاره؟ فأين الإنصاف؟ وبالجملة فالحالة عندنا عجيبة جدًا، والعَتْبُ كُلُّهُ على عدم مؤازرة مُثْرِي السَّلَفِيِّين لأهل مَشْرَبِهِمْ والمستعان بالله»[15].
ـ وقد كتب الشيخ علي بن عمارة[16] ، مقالاً بعنوان: «جريدة الإصلاح»، تكلَّم فيه عن محنة
«الإصلاح»، ثمَّ انتصاره، قال: «ولا تحسب أن عملهم هذا أو وقوفهم هذا الموقف الإصلاحي الخطير، قد تُرِكُوا فيه وشأنهم حتى ينتبه الغافل ويستيقظ النائم، فناوشتهم الأقلام الفاجرة من كل ناحية، وسلقتهم الألسن بكل نقيصة، ففسقوهم وكفروهم ونسبوهم للإلحاد والزندقة......فعادانا القريب والبعيد حتى أُسْرَتُنَا وأصدقاؤنا، ولو لم نصبر على ذلك السيل الجارف، ونتلقاه بالتدرع والثبات، فنشتد ساعة الشدة، ونلين وقت اللين، لما كانت عاقبتنا الفوز والنجاح، ولما تجلت الحقائق وسطعت واضحة الجبين...»، وختم مقاله بقوله: «ونشكر كل من آزرنا على إنشاء المطبعة العلمية ببسكرة، فإنهم أحسنوا وأحسنوا وأحسنوا جزاهم الله بأحسن الجزاء...فلقد أحيوا الإصلاح وبإحيائه، فكأنهم أحيوا الناس جميعا، ولولاهم لبقي أبد الدهر مقبورًا مهضوم الجانب...»اهـ.
ـ لم تقف مَكْرُمَاتُ الشيخ «علي بن عمارة» عند الاشتراك في تأسيس«المطبعة العلميّة»، فقد روى الأستاذ الصيد مكرمةً أخرى له، تنبئُ: «عن إخلاص الشيخ علي بن عمارة وتفانيه في حب الخير لفائدة اللغة والدين والوطن»، فإنه كلما وقع عجز مادي لجريدة «صدى الصحراء»، والشيء نفسه لجريدة «الإصلاح»، «بسبب محاصرة الاستعمار لهما وترتبت مصاريف كبيرة على المطبعة وأراد البعض التنصل من ذلك(!). الشيخ علي بن عمارة المؤمن المخلص استطاع أن يضحي برزقه في سبيل المبدأ، إذ باع – جنان النخيل-الذي ورثه من أبيه وسدَّدَ المصاريف بشجاعة وإخلاص»[17].
مِن مواقفه الإصلاحيّة في كتاباتِهِ:
أُبرزُ من خلال هذا الفصل مواقفَ الشيخ علي بن عمارة الإصلاحية، وجولاته في جدال المخالفين وتنوير التَّائهين، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، ممَّا يبيّنُ أنه كان من أعمدة الإصلاح في «بسكرة» الزِّيبَان وما حوالَيْها، كما يتّضحُ من خلال ما أسوقُهُ أسلوبُ الشيخ في الكتابة:
1ـ قال في مقالته: «قطع بدعة شنيعة بقُرَى الزَّاب»، نشرها له ابن باديس في«الشهاب» [العدد(97)، (ص:9-10): 17ذي القعدة1345هـ/20ماي1927م]، وقال تحتها: (للعلامة المرشد صاحب الإمضاء):
«اعتاد الكثير من نساء الزاب «طولقة» وما حولها من القرى السفر للشيخ عبد الرحمن الأخضري وشد الرحال لقبره على رأس كل سنة مع بعض الرجال الذين لا همة لهم ولا مروءة فتتهيأ النساء لذلك اليوم المشهود ويتزينَّ بأفخر اللباس ويتطيبن بأذكى الروائح. يوم عظيم حره شديد وقعره بعيد تختمر فيه عقول الزائرين والزائرات والراقصين والراقصات يومٌ يرفع فيه التكليف وتسقط فيه أوراق الخريف ضربُ طار وشطحٌ وبندير ومزمار ولا أزيدك أيها القارئ بيانا لهذه المناظر المخجلة المميتة للشعور المخدرة للأعصاب وغيرها من البدع التي يمجُّها السمع وتأباها الطبيعة ورضي بها أهل الأغراض وألصقوها بالشريعة وصيروها جزءً منها لا يتجزأ في نظرهم حتى إنك لو أردت البحث معهم فيها أو مع أذنابهم لحكموا بفسقك وكفرك وزندقتك قبح الله سعيهم وأغراضهم لأني اليوم لست بصدد تعداد البدع ولأن الأرض غير الأرض والهواء غير الهواء كل هذا والعلماء ساكتون صامتون جامدون ملجمون بلجام الدينار والدرهم ويملؤ بطونهم من أيدي الذين ينتسبون لهذا الدين بالعمائم وفخفخة اللباس وشقشقة الكلام الفارغة طهر الله منهم ساحة هذا الدين القويم دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها وتبًّا لفعالهم...».
2ـ وقد ردَّ الشيخ «علي بن عمارة» على الشيخ المولود الحافظي الأزهري في مقالةٍ طويلة نُشرت في«الشهاب» على أجزاء، ذلك أنَّ :الحافظيَّ رمى العقبيَّ بالتكفير، ونعى عليه أسلوبه الدعويّ، في مقالةٍ لهُ نشرها في «النجاح» [العدد(270)، (ص:2-3)].
ومن الأخطاء الفاحشة أن يُسطر صاحبُ كتاب: «الشيخ المولود الحافظي، حياته وآثاره» (ص:86)، كلامًا ينبئُ عن قصورٍ بالغٍ في فهمِ وتصوّرِ الخلاف بين الحافظي والعقبيّ، إذْ قال عن المناظرة بينهما: «موضوع المناظرة يدور حول القصيدة العاشورية التي مدح فيها الشاعر الشيخ عاشور آل البيت رضي الله عنهم وأثنى عليهم مما جعل الشيخ العقبي يقول بكفر الشاعر وينعى عليه حب آل البيت. فكتب الحافظي مقالاً بعنوان: القلم أحد اللسانين، احفظ لسانك تنج من العثرات. كما كانت بينه وبين ابن عمارة مناظرات»اهـ.
كلاَّ! إن «عاشور» الذي لقَّبَ نفسَهُ: «كُلَيْب الهامل» قال ما قالَ: في مدح «ابن عبد الرحمن»، وقال عنه: «أنا لا أقول أنه عرش أو فرش كرسي أو سدرة المنتهى، بل أقول هو الله! هو الله؟» إلى غيرها من كلماته الكفرية التي تنضح بعقيدة الحلول والاتحاد-عياذًا بالله!-. هذا! وعاشور يقررُ فضل عُصَاة الأشراف بمثل قوله:
«يأتون يوم الحشر مغفورًا لهم/من غير كسْبٍ بل على الشرف الأغر!».
فحاشا العقبي وإخوانه أن ينعوا على أحدٍ حبَّ آل البيت! فالحافظي يريدُ الكفَّ عن هؤلاء وما يعتقدونه من الكفر! وإقرارَهُمْ عليه بالسكوت!!
وقد وقف إلى جنب العقبيّ جلّةٌ من العلماء والكتّاب منهم: الشيخ أبو يعلى الزواوي[18] -وكانت تربطه صداقة بالحافظي من أيام إقامتهما بمصر-، وقد حَكَمَ بين الرجلين بعدلٍ وإنصافٍ؛ قال: «فبأي وجه يرد على الشيخ العقبي؛ أبي ذر، ويدافع عن أصحاب الحلاج الغلاة الذين أهانوا العلم وابتذلوا الشعر وتلقبوا بالكلاب المصغرة وأباحوا للشرفاء أن يعملوا ما يشاءون.. »اهـ.
بقلم : الشَّيخ الباحث : سمير سمراد - حفظه الله
[ نُشر في مجلّة «الإصلاح»، السنة الرابعة، العدد(18)، المحرم-صفر 1431هـ/جانفي- فيفري2010م. (ص:52-61) ]
الشيخ علي بن عمارة البرجي، نسبةً إلى«البُرْج»: قرية مِنْ قرى «الزِّيبَان»، تبعد عن«طولقة» بنحوِ(04)كلم، وعن«بسكرة» بنحو(40)كلم، وتُعرف بـ«برج-طولقة» و«برج بن عزوز»، وهي بلدية من بلديات دائرة طولقة ولاية بسكرة.
هو واحدٌ من علماء الوطن الجزائري، طارت شهرته وذاع صيتُهُ في أرجاء «بسكرة»، في منتصف العشرينيات، وكان معدودًا في الطبقة العالمة العاملة، وفي جملة الأساتيذ النَّابغين، حتّى لُقِّبَ بِـ: «نِحْرِير البُرج»؛ فقد جاء على لسان أحد رؤساء زاوية الشيخ علي بن عمر(الزاوية العثمانية)-بـ:«طولقة»: الشيخ عبد المجيد بن إبراهيم (سنة:1926م)، وهو يستحِثُّ علماء الوطن على التصدي للإجابة على مشكلات المسائل الدينيّة ومهمّاتها، قولُه[1]:
«...وحيثما كانت هاته المسائل من المهمات الدينية اقترحتُ على عامة علمائنا الجواب عن عللها للحاجة إليها فَسَنُلْفِتُ أنظارَ....نِحْرِير البُرْج علي بن عمارة...»، في جماعةٍ سمَّاهُم من مختلف جهات الوطن.
مولده وتعلمه:
ـ ولد الشيخُ في بلدة «برج بن عزوز» سنة1895م. يقول الأستاذ سليمان الصيد-رحمه الله-:
«منذ صغره اتجه الوجهة الصحيحة؛ إذ اغترف من منهل العلم وقد قرأ كتاب الله العظيم في برج بن عزوز على طلبة البرج وشيوخها الأجلاء، وبعد حفظه القرآن الكريم، وأخذه للمبادي العلمية التي كونته على علماء بلده ونواحيها. تاقت نفسه إلى التزود بالعلم فانتقل في ظرف صعب لم يُثْنِهِ عن طلب العلم إلى تونس. والتحق بجامع الزيتونة وبقي عدة سنوات في الدراسة»[2].
تخرّجه من جامعة الزيتونة(1925م):
ـ تخرَّج الشيخُ عامَ(1925م)من الجامعة الزيتونيّة وكان من رفقائه فيها: الشيخ محمد بن خير الدين الفرفاري(من «فرفار»-طولقة)، وقد فازا معًا في العامِ نفسِهِ في امتحان شهادة «التطويع»(العالِميّة)، ورجعا إلى الوطنِ عالِمَين عاملَين، ليُشاركا في نهضته العلميّة الدينيّة: وقد كتبت «النجاح»[3] -لصاحبها الشيخ عبد الحفيظ بن الهاشمي(عثماني)- تهنِّئُ المذكورَيْنِ وغيرَهما من الجزائريين؛ فقالت:
«العُلماء الجُدُد» من الكلّيّة الزيتونية:
«فاز في امتحان الكلية الزيتونية هذه السنة العلماءُ الأجلاءُ المشايخُ السادة:
....علي بن عمارة من البرج - طولقة....محمد بن خير الدين الفرفاري من فرفار - طولقة...فنُهَنِّيهِمْ بالدرجة العلمية التي حصلوا عليها بفضل كَدِّهِمْ وأَلْمَعِيَّتِهِمْ كما نُهَنِّي القطر الجزائري بهم».
ـ وكتبَ الإمامُ ابن باديس صاحبُ: «المنتقِد»[4] كلمةً تحملُ أسمى المعاني، وتنضحُ بغيرةٍ دينيَّةٍ عظيمة لا يحملها إلاَّ صدرٌ مثلُ صدرِه، وهي صالحةٌ لأنْ يُخاطَبَ بها: كلُّ مؤهَّلٍ في العلم ومَن هو معدودٌ في أهلِهِ. فنوجِّهُ عنايةَ إخواننا إليها، وندعوهم إلى الإصغاءَ إليها، عسى أن تعيَها قلوبُهم، وتنشطَ للأخذِ بها هممُهم، فما أشبهَ الحالَ بالحال، وما أحوجنا إلى أمثالِ أولئك الرجال!:
«التهنئةُ الحقَّة: رجالُ العلم
في كل عام منذ سنوات يفوزُ بشهادة العالمية «التطويع» من جامع الزيتونة المعمور جماعة من أبناء الجزائر، وقد فاز هذا العام هؤلاء السادة الفضلاء على الترتيب:
....محمد خير الدين/فرفار -طولقة
...علي بن عمارة/ البرج -طولقة...
فنُهَنِّيهِمْ ونُهَنِّي بهم الوطن مُذَكِّرِينَ لهم بأنَّ إحياءَ اللغة وقتلَ الضلالات ونَشْرَ المعارف هُمْ وَأَمْثَالُهُمْ المسؤولون عَنْهُ والمضطلعون للقيام به فَعَلَيْهِمْ أن يجاهدوا في سبيله مع امتزاجهم بطبقات الأمّة وإطلاعهم على جميع شؤونها العامّة وصبرهم على كلِّ بلاء يلحقهم من جهل الجاهلين واستبداد الظالمين وكيد الخائنين فإنهم جنودُ الحق وأشرفُ حالات الجنديِّ أن يموتَ في خطِّ الدِّفاع. ولَكُمْ«بِحَمْدِ الله» مِنْ ثَاقِبِ الفِكْرِ وصحيحِ العلم ونشاطِ الشباب ما يُؤَهِّلُكُمْ للنُّهُوضِ بِكُلِّ عظيم».
انتصابُهُ للعمل الإصلاحي في بلدتهِ:
ـ لقد اضطلع الشيخ علي بن عمارة بالمسؤولية، وعرف خطر المهمة، فانتصبَ للعمل الإصلاحي، وشرع فيما هو واجبٌ على أمثاله، من نشر العلم والتعليم والدعوة إلى الحقّ والتحذير من الباطل، واستصلاحِ ما فسد من حال هذه الأمة المغبونة، الجاهلةِ بدينها والمغرَّرِ بها، وتحريرِها ممّن تسلّطوا عليها من الدجاجلة والطمّاعين!
ـ يقول الشيخ محمد بن خير الدين: الذي انتصب للتدريس في بلدتِهِ: «فرفار» وما جاورها من قرى واحات الزيبان، بعد عودته من تونس سنة(1925م): «كنت أقوم خلال هذا النشاط التعليمي بالتنقل إلى قرى الزاب وما حولها من أجل التنسيق مع إخواني ببسكرة أمثال الشيخ الطيب العقبي، وزميلي في الدراسة بالزيتونة الشيخ علي بن عمارة البرجي، والشيخ محمد العيد آل خليفة والأستاذ الأمين العمودي رحمهم الله، وكانوا يبادلونني الزيارة أفرادا وجماعات في المناسبات المختلفة الخاصة والعامة»[5].
إلى جانبِ الشيخ ابن باديس، والشيخ الطيب العقبي:
ولبيانِ مدى الالتحام والاتحاد بين المصلحين السَّلفيِّين، أنقلُ هنا مُكَاتبةً-على طولها- نُشِرَت في«صدى الصحراء» عن«الوفد العلمي القسنطيني: يوم الخميس11فيفري[1926م] قَدِمَ وفدٌ علمي من مدينة قسنطينة إلى حاضرة بسكرة....يتألف هذا الوفد من علاَّمة القطر الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديسوالكاتب الكبير...الشهير الشيخ مبارك الميلي...»، «وبهذه المناسبة أيضًا قدم من الزيبان حضرة الشيخ علي بن عمارة البرجي والشيخ محمد بن خير الدين الفرفاري والشيخ الصديق بن عريوة الزيتونيون..»، «ذهب إلى المحطة لملاقاة ذلك الوفد الفخيم جمعٌ من الأدباء والفضلاء وفي مقدمتهم الرجل الوحيد والمصلح الكبير والكاتب القدير والسياسي الشهير الأستاذ الطيب العقبي..»[6].
«ومن الغد ذهبوا إلى بلدة «سيدي عقبة» لأداء صلاة الجمعة...»،
«راجعين إلى «بسكرة»..يوم السبت..».
«ويوم الأحد سافر هذا الوفد الفخيم إلى طولقة باستدعاء من العلاَّمتين الفاضلين الشيخ علي بن عمارة والشيخ محمد بن خير الدين الزّيتونيَّيْن.....توجه الوفد إلى بلدة «البرج» باستدعاء من العلامة الشيخ «علي بن عمارة» فنزل بمحلِّهِ ثم قصد «جامع الشيخ بن عزوز» لتأدية صلاة العصر ومنه إلى جامع الجمعة وقد ألقى فيها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس درسًا فسر فيه قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس:62]، إلى قوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾[يونس:63].
وقد أبدع وأجاد فيه وبين حقيقة الولي وما يعتقد فيه. ثمَّ اقترح الشيخ علي بن عمارة على الشيخ الطيِّب بأن يُلْقِيَ على الحاضرين كلمات ليبرئ نفسه مما أشيع عنه من نكران(الولاية) و(الكرامة) و(الزيارة) لقبور الأولياء. فتكلم في الموضوع بإسهاب وبين للناس أنه لا ينكر الولاية من أصلها والكرامة والزيارة بشرطهما الشرعيين وما كاد يتم درسه حتى رجع الحاضرون عن كل ما كانوا يسمعونه عنه من الأراجيف والأباطيل وقد حصل التفاهم والحمد لله.... »اهـ.
ـ يبدو أن الشيخ ابن باديس كان يولي الاهتمام الكبير لدعوة الشيخ العقبي في«بسكرة» ولدعوةِ إخوانه وأنصاره في«الزيبان»، وجاءت هذه الرحلة أو الزيارة :دليلاً على ذلك، كما جاءت للتأكيد على المؤازرة والنصرة، وشدّ عضدهم بإخوانهم في حاضرة قسنطينة، كما قد تكونُ لأجل التخفيف من حدّة الصراع بين الفريقين (السلفيين والطرقيين)، والتدخل لإيجاد سبيلٍ للتفاهم، بإيجاد خطابٍ ليّن وهادئ؛ بعد تلكم الثورة الجامحة، والهجوم العنيف!؛ وإحداث توازنٍ دون الإيغال والإسراف في الهجوم! ويشهدُ لهذا أن ابن باديس كان قد أَوْقَفَ في مجلته «الشهاب» الكتابات الهجومية، مما أغضب عليه الشيخَ العقبي، الذي لم يُرْضِهِ أن يكون-حسْبَهُ- لأهل الضلال هذا الامتياز!
والمقصودُ: أن هذه الزيارة نَفَعَت الشيخَ العقبي وإخوانه العلماء، وأعطت نجاحًا ودفعًا أكثر لدعوتهم[7].
محاربته للطُّرُقيِّين:
نشر الشيخ السعيد الزاهري في جريدته «البرق»[8] ، مكاتبةً ظريفةً عن: «وفد الشعراء يزور طولقة-فرفار-البرج»، الذي ضمَّ: (الأمين العمودي، الطيب العقبي، محمد العيد، السعيد الزاهري)، وهؤلاء أعمدةُ الإصلاح وزعماؤُهُ في«بسكرة»، وبعد زيارة طولقة ثم فرفار، يقول الزاهري: «...مشينا إلى«البرج» فنزلنا في ضيافة الأستاذ الشيخ علي بن عمارة فظللنا عنده عامة يومنا. وقد قرأ الأستاذ العقبي بعد صلاة العصر درسًا هائلاً حضره أهل البلاد كافة؛ ولقد فتحنا بذلك فتحًا مبينًا، فأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وإن كانوا قبل ذلك من المسلمين»، ثم رجعوا إلى فرفار، يقول الزاهري: «ثم ركبنا عند الزوال قطار بسكرة وشايعنا إلى محطة «ليشانة» حضرات الأساتذة السادة: محمد خير الدين، علي بن عمارة، بلقاسم الميموني، وكان الشيخ السعدوني[9] ركب وتبوأ مقعده قبلنا ولم أكن رأيته قبل اليوم...وقد حيَّاهُ الجماعة قبلي، وسبقوه بالسلام عليه. وما كدنا نتبوأ مقاعدنا حتى أخرج سيدي علي بن عمارة العدد السادس من جريدة «البرق» وكلفني أن أقرأه أنا بالجهر على القوم وهم يسمعون فقرأت أكثره وقرأ هو ما بقي كذلك ثم ودعونا في محطة «ليشانة» ولم يتكلم الشيخ السعدوني في أثناء هذه المدة بكلمة مع أننا جميعًا نكلمه ونقبل عليه بكل أدب...».
ـ ونشر صاحب«البرق»[10] أيضًا مكاتبةً لـ«سائح» تحت عنوان: (سياحة)، وصَدْرُ هذه المكاتبة يُشعرُ بأنّها لصاحب«البرق» نفسِه؛ الشيخ السعيد الزاهري، يقول: «ثم رحلنا منها[أي: طولقة] إلى بلدة«البرج» بلدة ذلك الأستاذ الحكيم شديد اللهجة على الطرقيين الخرافيين وأذنابهم المتملقين الشيخ علي بن عمارة فقابلني مع جمع من تلامذته وهو يبتسم قائلا ليعيش حزب الله المؤمنون الصالحون ولنسقط ليعيش حزب الله المؤمنون ولنسقط. تبين لي أني قابلت أسدا من أسد الله فقلت له: سبحان الله؛ يا ويل الطرقيين ويا ويح أذنابهم منك. ثم التفتُّ إلى جماعة تلامذته المصلحين فوجدتهم كالأشبال حولنا يتَّقدون غيرة على الدين والوطن والإنسانية ويمقتون كل طرقي كيفما كانت صبغته وبأي شكل تشكل ومن أي نوع خرج وأنشدني بعض تلامذة الأستاذ المذكور قصيدة يهجو بها فَرُّوج «أورلال»[11] الطرقي ومطلعها: (بين «بيقو» و«بن طيوس» سراب) وسينشرها في «البرق» الخاطف لأهل الزيغ والضلال الذين يقولون الرجوع إلى الكتاب والسنة ضلالة أبدية وشقاوة سرمدية اليوم وقبل اليوم.....وقد صفى جوُّ بلدهم «البرج» من خرافات الطرقيين بسبب ما يلقيه فيهم أستاذهم الشيخ علي من الدروس المتوالية والأفكار الطيبة السديدة فبتنا ليلة عندهم وما أجملها ليلة نتحادث فيها على أحسن الطرق التي توصل لرقي أمتنا وما فيه صلاحها ومن جملة ما ذكرنا تعليم الناشئة الجديدة بطرق صالحة مفيدة وبهذه المناسبة ذكر لي أنه عزم على إنشاء مكتب للأولاد الصغار لتعليم القرآن وشيء من المبادئ العلمية لأن المكتب القديم صار غير صالح لما فيه من القاذورات والرطوبات...»اهـ.
قصّةُ «مطبعة الإصلاح» ودورهُ فيها:
وكما قام الإمام ابن باديس في «قسنطينة» بتأسيس جريدته: «المنتقِد» ثمَّ «الشهاب»، لتكون لسان الشبّان الناهضين، ومنبرًا لأقلام المصلحين السلفيين، تجولُ وتصولُ تعْرِضُ «الإسلام الصحيح»، وتَشُنُّ الهجوم على الباطل والمبطلين، قامت الجماعةُ المصلحة في «بسكرة» بتأسيس صحافة حرّة، فكانت«صدى الصحراء» (سنة:1925م) لصاحبها الشيخ أحمد بن العابد العقبي، وقد شاركهُ في التأسيس والتحرير، الزعيم: الطيّب العقبي، والشيخ علي بن عمارة، وغيرهما من العلماء والكتّاب الأدباء[12].
ثمَّ أسَّسَ الطيب العقبي جريدتَهُ «الإصلاح»؛ وقد شاركه في تأسيسها الشيخ علي بن عمارة وغيره من المصلحين[13]:
ـ صدر العددُ الأول منها: في8سبتمبر1927م، طَبَعَهُ في تونس، بعد أن عجز عن طبعه في مطبعة جزائرية! وقفت الإدارة الفرنسية في وجه «الإصلاح»، ومَنَعَتْهَا من الصدور وعطَّلَتْ طبعَهَا في تونس! وبعد عناءٍ كبير، «تمكَّنَ العقبيُّ من إصدار العدد الثاني من جريدته بتاريخ5سبتمبر1929م، أي بعد سنتين كاملتين من صدور العدد الأول»![14].
طُبعت «الإصلاح» هذه المرَّة!..ليسَ في قسنطينة ولا في الجزائر ولا في تونس! وإنّما طبعت في بسكرة.
ـ يحدثنا الشيخ محمد بن خير الدين(1/91)عن «مطبعة الإصلاح»، وقد سميت: «المطبعة العلمية»، واشتراك جماعة من المصلحين(منهم: الشيخ علي بن عمارة) لشرائها، «وذلك بهدف إصدار جريدة «الإصلاح» التي أدارها الشيخ الطيب العقبي، والقيام ببعض الأعمال التجارية التي خُصص عائدُهَا للإنفاق في سبيل الحركة الإصلاحية، وقد جعلناها وَقْفًا على خدمة الحركة الدينية الإصلاحية راجين بذلك ثواب الله»، وانظر صورةَ العقد[المخطوط] بأسماء المشاركين، في«مذكرات الشيخ خير الدين» (1/93-94)؛ وبدايتُهُ: «نحن الممضين أسفل هذا نشهد على أنفسنا أنَّنَا أقرضنا الشيخ الطيب العقبي عدد32500اثنين وثلاثين ألفا وخمسمائة فرنك وهذا العدد دفعه أصحاب الأسماء أسفله:
السيد خير الدين محمد....السيد علي بن عمارة....السيد محمد العيد حم علي....وهذا القرض على سبيل الإحسان فقط أي بغير فائدة ولأجلٍ غيرِ مُسَمَّى والغرض منه إنشاء مطبعة ببسكرة تحت إدارة الشيخ الطيب العقبي وإن الشيخ الطيب العقبي لا يُلْزَمُ بأداء العدد المذكور أعلاه إلا إذا سلم المطبعة إلى غيره ....1جوان سنة1929....»اهـ.
لقد سَخَّر المصلحون أموالهم لأجل الدعوة ولضمانِ استمرارها وبقاءِ قوَّتِهَا، وساندوا الزعيمَ الكبير ووقفوا إلى جانبه في محنته ومحنتهم بتعثُّرِ«الإصلاح»، وأبَتْ عليهم همَّتُهُمْ وأنفتُ غيرتُهم الدينيَّة أن تبقى مكتوفةَ الأيدي تتفرَّجُ على ما أصاب «الإصلاح»!
فأين السلفيُّون اليوم!من مثلِ هذه المؤازرة؟! ولا يزالُ أهلُ العلم يشكون من فقدِ النَّصِير، وعدم الظَّهير، ويناسبُ هنا نقلُ ما حدَّث به الجمال القاسمي الدمشقي(سنة1329هـ) عن الطاهر الجزائري أنه كان يقول لهم: «أما يكفي فلانًا أن يُنْفِقَ من زمانه وقُوَّتِهِ لتقوية الحق ومقاومة الجمود حتى يحمل همَّ النَّفقة لإظهاره؟ فأين الإنصاف؟ وبالجملة فالحالة عندنا عجيبة جدًا، والعَتْبُ كُلُّهُ على عدم مؤازرة مُثْرِي السَّلَفِيِّين لأهل مَشْرَبِهِمْ والمستعان بالله»[15].
ـ وقد كتب الشيخ علي بن عمارة[16] ، مقالاً بعنوان: «جريدة الإصلاح»، تكلَّم فيه عن محنة
«الإصلاح»، ثمَّ انتصاره، قال: «ولا تحسب أن عملهم هذا أو وقوفهم هذا الموقف الإصلاحي الخطير، قد تُرِكُوا فيه وشأنهم حتى ينتبه الغافل ويستيقظ النائم، فناوشتهم الأقلام الفاجرة من كل ناحية، وسلقتهم الألسن بكل نقيصة، ففسقوهم وكفروهم ونسبوهم للإلحاد والزندقة......فعادانا القريب والبعيد حتى أُسْرَتُنَا وأصدقاؤنا، ولو لم نصبر على ذلك السيل الجارف، ونتلقاه بالتدرع والثبات، فنشتد ساعة الشدة، ونلين وقت اللين، لما كانت عاقبتنا الفوز والنجاح، ولما تجلت الحقائق وسطعت واضحة الجبين...»، وختم مقاله بقوله: «ونشكر كل من آزرنا على إنشاء المطبعة العلمية ببسكرة، فإنهم أحسنوا وأحسنوا وأحسنوا جزاهم الله بأحسن الجزاء...فلقد أحيوا الإصلاح وبإحيائه، فكأنهم أحيوا الناس جميعا، ولولاهم لبقي أبد الدهر مقبورًا مهضوم الجانب...»اهـ.
ـ لم تقف مَكْرُمَاتُ الشيخ «علي بن عمارة» عند الاشتراك في تأسيس«المطبعة العلميّة»، فقد روى الأستاذ الصيد مكرمةً أخرى له، تنبئُ: «عن إخلاص الشيخ علي بن عمارة وتفانيه في حب الخير لفائدة اللغة والدين والوطن»، فإنه كلما وقع عجز مادي لجريدة «صدى الصحراء»، والشيء نفسه لجريدة «الإصلاح»، «بسبب محاصرة الاستعمار لهما وترتبت مصاريف كبيرة على المطبعة وأراد البعض التنصل من ذلك(!). الشيخ علي بن عمارة المؤمن المخلص استطاع أن يضحي برزقه في سبيل المبدأ، إذ باع – جنان النخيل-الذي ورثه من أبيه وسدَّدَ المصاريف بشجاعة وإخلاص»[17].
مِن مواقفه الإصلاحيّة في كتاباتِهِ:
أُبرزُ من خلال هذا الفصل مواقفَ الشيخ علي بن عمارة الإصلاحية، وجولاته في جدال المخالفين وتنوير التَّائهين، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، ممَّا يبيّنُ أنه كان من أعمدة الإصلاح في «بسكرة» الزِّيبَان وما حوالَيْها، كما يتّضحُ من خلال ما أسوقُهُ أسلوبُ الشيخ في الكتابة:
1ـ قال في مقالته: «قطع بدعة شنيعة بقُرَى الزَّاب»، نشرها له ابن باديس في«الشهاب» [العدد(97)، (ص:9-10): 17ذي القعدة1345هـ/20ماي1927م]، وقال تحتها: (للعلامة المرشد صاحب الإمضاء):
«اعتاد الكثير من نساء الزاب «طولقة» وما حولها من القرى السفر للشيخ عبد الرحمن الأخضري وشد الرحال لقبره على رأس كل سنة مع بعض الرجال الذين لا همة لهم ولا مروءة فتتهيأ النساء لذلك اليوم المشهود ويتزينَّ بأفخر اللباس ويتطيبن بأذكى الروائح. يوم عظيم حره شديد وقعره بعيد تختمر فيه عقول الزائرين والزائرات والراقصين والراقصات يومٌ يرفع فيه التكليف وتسقط فيه أوراق الخريف ضربُ طار وشطحٌ وبندير ومزمار ولا أزيدك أيها القارئ بيانا لهذه المناظر المخجلة المميتة للشعور المخدرة للأعصاب وغيرها من البدع التي يمجُّها السمع وتأباها الطبيعة ورضي بها أهل الأغراض وألصقوها بالشريعة وصيروها جزءً منها لا يتجزأ في نظرهم حتى إنك لو أردت البحث معهم فيها أو مع أذنابهم لحكموا بفسقك وكفرك وزندقتك قبح الله سعيهم وأغراضهم لأني اليوم لست بصدد تعداد البدع ولأن الأرض غير الأرض والهواء غير الهواء كل هذا والعلماء ساكتون صامتون جامدون ملجمون بلجام الدينار والدرهم ويملؤ بطونهم من أيدي الذين ينتسبون لهذا الدين بالعمائم وفخفخة اللباس وشقشقة الكلام الفارغة طهر الله منهم ساحة هذا الدين القويم دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها وتبًّا لفعالهم...».
2ـ وقد ردَّ الشيخ «علي بن عمارة» على الشيخ المولود الحافظي الأزهري في مقالةٍ طويلة نُشرت في«الشهاب» على أجزاء، ذلك أنَّ :الحافظيَّ رمى العقبيَّ بالتكفير، ونعى عليه أسلوبه الدعويّ، في مقالةٍ لهُ نشرها في «النجاح» [العدد(270)، (ص:2-3)].
ومن الأخطاء الفاحشة أن يُسطر صاحبُ كتاب: «الشيخ المولود الحافظي، حياته وآثاره» (ص:86)، كلامًا ينبئُ عن قصورٍ بالغٍ في فهمِ وتصوّرِ الخلاف بين الحافظي والعقبيّ، إذْ قال عن المناظرة بينهما: «موضوع المناظرة يدور حول القصيدة العاشورية التي مدح فيها الشاعر الشيخ عاشور آل البيت رضي الله عنهم وأثنى عليهم مما جعل الشيخ العقبي يقول بكفر الشاعر وينعى عليه حب آل البيت. فكتب الحافظي مقالاً بعنوان: القلم أحد اللسانين، احفظ لسانك تنج من العثرات. كما كانت بينه وبين ابن عمارة مناظرات»اهـ.
كلاَّ! إن «عاشور» الذي لقَّبَ نفسَهُ: «كُلَيْب الهامل» قال ما قالَ: في مدح «ابن عبد الرحمن»، وقال عنه: «أنا لا أقول أنه عرش أو فرش كرسي أو سدرة المنتهى، بل أقول هو الله! هو الله؟» إلى غيرها من كلماته الكفرية التي تنضح بعقيدة الحلول والاتحاد-عياذًا بالله!-. هذا! وعاشور يقررُ فضل عُصَاة الأشراف بمثل قوله:
«يأتون يوم الحشر مغفورًا لهم/من غير كسْبٍ بل على الشرف الأغر!».
فحاشا العقبي وإخوانه أن ينعوا على أحدٍ حبَّ آل البيت! فالحافظي يريدُ الكفَّ عن هؤلاء وما يعتقدونه من الكفر! وإقرارَهُمْ عليه بالسكوت!!
وقد وقف إلى جنب العقبيّ جلّةٌ من العلماء والكتّاب منهم: الشيخ أبو يعلى الزواوي[18] -وكانت تربطه صداقة بالحافظي من أيام إقامتهما بمصر-، وقد حَكَمَ بين الرجلين بعدلٍ وإنصافٍ؛ قال: «فبأي وجه يرد على الشيخ العقبي؛ أبي ذر، ويدافع عن أصحاب الحلاج الغلاة الذين أهانوا العلم وابتذلوا الشعر وتلقبوا بالكلاب المصغرة وأباحوا للشرفاء أن يعملوا ما يشاءون.. »اهـ.