المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رد: نظرات وتعقبات على كلام الحلبي في مسألة الجرح المفسر


أبو عمر عبد الباسط المشهداني
08-07-2010, 10:24 AM
نظرات وتعقبات على كلام الحلبي في مسألة الجرح المفسر



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم وأقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وبعد:
فقد اطلعت على ما كتبه علي الحلبي في كتابه المسمى(( منهج السلف الصالح في ترجيح المصالح وتطويح المفاسد والقبائح في أصول النقد والنصائح)) فقد ذكر في المسألة: ((الحادية عشرة (الجرح المفسر) وأراد في هذه المسألة أن يحقق القول فيها لأنها كما قال مسألة اليوم من أهم المسائل المفضية إلى النزاع والخصام والإلزام بسبب سوء التصور أو خلل التصرف)) إلى آخر كلامه.

لكنه في الحقيقة لم يحقق القول في المسألة ولم يبين قوله الذي أراد بيانه بل ذكر عبارات وأقوال مفادها عدم قبول الجرح المفسر على الإطلاق وعدم الإلزام به مشيرا إلى الطعن والتنقص ممن تصدى إلى الجرح والتعديل في هذا العصر وحمل لوائه في نصرة السنة وأهلها ومحاربة البدع وأصحابها, وكان علي الحلبي يلمز لمزا ويشير إشارة إلى هذا الطعن والتنقص ولو أنه صرح بذلك وذكر ما يراه عيبا لكان أسلم له لكنه التشويش والتشغيب على السلفيين في الأصول التي استقرت عندهم خلال دعوة الأئمة الكبار ومن سار على دعوتهم ومنهجهم.

ولذلك فإن الناظر في كلام علي الحلبي في باب الجرح المفسر لا يفهم من كلامه شيئا سوى أنه يريد أن الجرح المفسر لا يقبل على إطلاقه لكنه متى وكيف ولماذا كل هذا لم يذكره الحلبي ولم يشر إليه ولو بأدنى عبارة, ولذلك يجزم الناظر في كلامه أنه لم يرد البيان والتحقيق وإنما أراد التشويش والتشغيب حتى تسلم تزكياته لمن زكاهم من النقد والقدح بدعوى أن الجرح المفسر لا يقبل على هذا الإطلاق, وفي نظري أن هذا ليس من التحقيق العلمي في شيء بل هو مخالف للأمانة العلمية والنصيحة للأمة وللمنتسبين للدعوة السلفية المباركة, بل هو لم يذكر حد (الجرح المفسر) ومتى يعتبر مفسرا وماهو فرقه عن المبهم مما أجزم بأنه لم يرد البيان والتحقيق, وإلا فإن العلماء ذكروا كل ما يتعلق بالجرح والتعديل مفصلا ومن ضمنها المسألة التي يدندن حولها الحلبي في كتابه هذا.

ولذلك فإني من خلال النظرات والتأملات في كتاب الحلبي هذا رأيت أن أقف معه وقفات للوصول إلى الحق والبيان في مسألة الجرح المفسر والإلزام به, لكن قبل البدأ في هذه الوقفات أحببت ذكر بعض المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي:

المسألة الأولى: لا يتصدى للجرح والتعديل إلا أهله

من المقرر عند علماء الحديث أن ليس كل مشتغل بعلم الحديث هو من أهل الجرح والتعديل بل أن للجرح والتعديل أهله في كل زمان ومكان يعرفون بعلمهم ونصحهم وآثارهم في المحافظة على السنة النبوية والدفاع عنها والتصدي لمن حاربها والرد عليهم ولذلك كانوا علماء الجرح والتعديل هم أئمة السنة في كل زمان ومكان, إليهم يرجع الناس في معرفة دينهم وفهم منهجهم, وإليهم يفزع الناس في وقت النوازل والفتن والمحن , والمقصود هنا أن للجرح والتعديل أهله ولذلك ذكر العلماء شروطا لمن تصدى لهذا الباب فقد ذكر غير واحد من أهل الحديث بأن الجارح والمعدل لابد أن يكون عدلا وأن يكون ورعا تقيا وأن يكون يقظا متثبتا وأن يكون عالما بأسباب الجرح والتعديل.

قال الذهبي – رحمه الله -: ((ولا سبيل إلى أن يصير العارف-الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم-جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والإتقان)) [تذكرة الحفاظ 1/4].

وقال النووي – رحمه الله -: (((إنما يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه، أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام في أحد من الناس فان تكلم كان كلامه غيبة محرمة)) [شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 124].

وقال ابن حجر – رحمه الله -: ((وينبغي أن لا يقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ؛ فلا يقبل جرح من أفرط فيه؛ فجرح بما لا يقتضي رد حديث المحدث، كما لا تقبل تزكية من أخذ بمجرد الظاهر؛ فأطلق التزكية)) [نزهة النظر تحقيق الرحيلي ص177].

وقال أيضا – رحمه الله -: ((وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل؛ فإنه إن عدل بغير تثبت كان كالمثبت حكما ليس بثابت، فيخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثا وهو يظن أنه كذب ، وإن جرح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك، ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبدا.
والآفة تدخل في هذا تارة من الهوى والغرض الفاسد. وكلام المتقدمين سالم من هذا، غالبا. وتارة من المخالفة في العقائد، وهو موجود كثيرا، قديما وحديثا)) [المصدر السابق ص 178].

والمقصود بذلك أن للجرح والتعديل أهله فلا يتصدى له كل واحد ولو كان ممن يشتغل بعلم الحديث لأنه باب خطير عليه يتوقف قبول ورد السنة النبوية والمنهج الحق.

المسألة الثانية: حد الجرح المفسر وأحكامه

قسم علماء الحديث الجرح إلى قسمين هما:

أولا: الجرح المبهم.

والثاني: الجرح المفسر.

والفارق بينهما هو ذكر سبب الجرح وتبيينه بالأدلة الصحيحة, فعلى هذا فإن الجرح المبهم هو الجرح الذي لا يذكر فيه الجارح السبب الذي جرح به الراوي ولا يبينه فيكتفي بعبارات تدل على جرح الراوي وتضعيفه سواء أكان الضعف في عدالته أم في ضبطه وإتقانه.

أما الجرح المفسر فهو الجرح الذي يبين فيه الجارح السبب الذي جرح الراوي به سواء أكان هذا التبيين ابتداء أم بعد سؤال يوجه للجارح.

والأسباب التي يجرح بها الرواة كثيرة ذكرها ابن حجر في نخبة الفكر وقسمها إلى عشرة أقسام منها ما يرجع إلى عدالة الراوي ومنها ما يرجع إلى ضبطه.

والمقصود هنا أن الجرح إما أن يعارضه تعديل من إمام معتبر وإما أن لا يعارضه تعديل.

فإن لم يعارضه تعديل فيجرح الراوي سواء أكان الجرح فيه مفسرا أم مبهما على القول الصحيح من أقوال الأئمة على خلاف ما رجحه السرخسي في أصوله وأقره الحلبي في كتابه.

قال ابن حجر -رحمه الله-: ((فإن خلا المجروح عن تعديل قبل الجرح فيه مجملا غير مبين السبب، إذا صدر من عارف على المختار، لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول، وإعمال قول المجرح أولى من إهماله.
ومال ابن الصلاح في مثل هذا إلى التوقف فيه)) [نزهة النظر 180].

وقال المعلمي -رحمه الله- بعد أن ذكر كلام ابن الصلاح والنووي في التوقف فيمن جرح جرحا مجملا ولم يعدل : ((وذكر العراقي في ( ألفيته ) و ( شرحها ) بعض الذين أشار ابن الصلاح إلى أن صاحبي ( الصحيحين ) احتجا بهم وقد جرحوا فذكر ممن روى له البخاري عكرمة مولى ابن عباس وعمرو بن مرزوق الباهلي وممن روى له مسلم سويد بن سعيد ، وهؤلاء قد سبق جرحهم ممن قبل صاحبي ( الصحيحين ) وكذلك سبق تعديلهم أيضا فهذا يدل أن التوقف الذي ذكره ابن الصلاح والنووي يشمل من اختلف فيه فعدله بعضهم وجرحه غيره جرحاً غير مفسر وسياق كلامهما يقتضي ذلك ، بل الظاهر أن هذا هو المقصود فإن من لم يعدل نصاً أو حكما ولم يجرح يجب التوقف عن الاحتجاج به ، ومن لم يعدل وجرح جرحاً مجملا فالأمر فيه أشد من التوقف والارتياب .
فالتحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل نصاً ولا حكماً ، ويوجب التوقف فيمن قد عدل حتى يسفر البحث عما يقتضي قبوله أو رده ، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى)) [التنكيل 1/ 154].

أما أن يترك الجرح ولا يقبل مع عدم التعديل فهذا ليس على طريقة المحدثين فليتنبه.

أما إذا عارض الجرح تعديل إمام معتبر فينظر إلى الجرح هل هو جرح مبهم أم مفسر, فأن كان الجرح مبهم فيبحث في أقوال المجرحين والمعدلين حتى يتوصل إلى الراجح من ذلك, لكن لا يحكم للمجرح على الإطلاق بل يقدم التعديل عليه غالبا لأن الجرح غير المفسر لا يقدح فيمن ثبتت عدالته فيقدم حينئذ التعديل.

وأما إن كان الجرح مفسر مبين السبب فالأصل في ذلك أن يقدم الجرح على التعديل إلا إذا منع من قبول الجرح مانع, والموانع على ثلاثة أقسام:

الاول: الموانع الراجعة إلى الجارح: كأن يكون الجارح ضعيفا, أو أن يكون الحامل له على الجرح التعصب المذهبي, أو أن يكون من جرح الأقران إلى غير ذلك من الموانع الكثيرة.

الثاني: الموانع الراجعة إلى الجرح: كأن يكون اللفظ لا يجرح بمثله, أو أن يكون الناقل للجرح ليس بثقة إلى غير ذلك.

الثالث: الموانع الراجعة إلى المجروح: كأن يكون الجرح لا يثبت فيه, أو أن يكون ممن استفاضت عدالته فلا يؤثر فيه الجرح إلى غير ذلك.

وقد ذكر هذه الموانع الشيخ عبد العزيز العبد اللطيف –رحمه الله - في ضوابطه فليرجع إليها فإنها مهمة لا يستغنى عنها في هذا الباب.

والذي يدندن حوله الحلبي أن ليس كل جرح مفسر مقبول بل هناك من الجرح المفسر ما لا يقبل واستدل لذلك بعكرمة مولى ابن عباس.

والجواب عليه من وجوه:

الوجه الأول: لا بد من ذكر الأصل في هذا الباب وعدم إغفاله أو التهوين منه وهو أن الأصل في تعارض الجرح والتعديل أن يقدم الجرح بشرط أن يكون مفسرا مبينا السبب كما أصل ذلك كثير من أئمة أهل الحديث, وأن عدم قبول الجرح لمانع معين لا ينقض القاعدة أو يلغيها بل تبقى هذه القاعدة حتى يثبت بالأدلة الصحيحة ما يخالفها من ثبوت المانع من قبول الجرح.

الوجه الثاني: إن إثبات المانع من قبول الجرح لا بد أن يكون ثابتا بالأدلة الصحيحة لا بمجرد الظن والتوهم, وعلى هذا فلا يكون هذا هو الأصل بل الأصل ما تقدم, والمانع مستثنى من الأصل, فعلى من أراد أن يطعن في جرح الجارح في راو معين أن يقدم الأدلة التي بها يعرف ضعف الجرح وعدم ثبوته, لا أن يدندن في التشكيك في هذه القاعدة المهمة التي عليها عمل الأئمة, ولا يعترض على من أطلق قبول هذه القاعدة أو أن يلمز به, بل يعترض على من اعترض على هذه القاعدة وأراد أن يشكك فيها, ومن أراد التثبت من ذلك فليراجع كلام الأئمة في تحقيقاتهم, ومن ذلك كلام الشيخ الألباني رحمه الله فقد أطلق هذه القاعدة في عشرات المواضع من كتبه بل واعترض على من أغفل هذه القاعدة ولم يعمل بها.

ذكر الشيخ الألباني -رحمه الله- في كتابه الكبير( ضعيف أبي داود – الأم) (2 / 151) تضعيف الأئمة لخصيف بن عبد الرحمن الجزري, ثم ذكر قول الشيخ أحمد شاكر في توثيقه حيث قال:((فقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فيه (3/244- مسند) :" والحق أنه ثقة؛ وثقه ابن معين وابن سعد... والظاهر أن ما أنكر عليه من الخطأ، إنما هو من الرواة عنه من الضعفاء"!)).

ثم تعقبه بقوله: ((فهذا منه وهم فاحش! لأنه قائم رداً للقاعدة العلمية: أن الجرح المفسر مقدم على التوثيق، وما استظهره غير ظاهر؛ بل فيه اتهام غير مقصود لأولئك الأئمة! بأنهم يجرحون الثقة بسبب الراوي الضعيف! ولو فتح هذا الباب من الاستظهار؛ لاختل ميزان الجرح والتعديل- كما لا يخفى-. فالحق أن خصيفاً ضعيف لسوء حفظه. فتنبه)).

الوجه الثالث: أن الاختلاف بين العلماء في جرح الرواة وتعديلهم لا يكون سببا للتهوين من هذه القاعدة أو التهوين من قبولها, فإن هذا الموطن موطن اختلاف بين علماء الحديث ولذلك فإن باب الجرح المفسر هو باب ( تعارض الجرح والتعديل) فلا يتوصل بهذا الاختلاف إلى نقض القواعد العلمية أو إلى التشكيك فيها, بل الواجب حماية هذه القواعد من كيد المنحرفين والمتعصبين.

وأن الاختلاف بين العلماء في الجرح والتعديل راجع إلى معرفتهم واطلاعهم بأحوال الرواة فتكون أحكامهم على حسب ذلك وعلى هذا فإن القواعد العلمية هي المنظمة لهذا الاختلاف والمبينة للحق والصواب فيه, وبهذه القواعد كان الأئمة المحققون يعرفون القول الصحيح في الراوي ويخرجون بذلك من الخلاف الحاصل بين الأئمة.

والمقصود من ذلك أن قاعدة (الجرح المفسر مقدم على التعديل) قاعدة عظيمة لا يعتريها النقض بما يوجد فيها من بعض الاستثناءات التي يتضح فيها بالأدلة خطأ المجرح, وأن من الخطأ الجسيم أن تنزل هذه الاستثناءات مقام القاعدة فيتوصل بذلك إلى هدم القاعدة أو التشكيك فيها فليحذر.

المسألة الثالثة: لا يرد قول الجارح إلا إذا تبين خطأه

الأصل في هذا الباب أن قول الجارح معتبر لا يصح إلغائه أو رده من غير أن يتبين أن قوله هذا قد أخطأ فيه, فإذا تبين أن الجارح قد أخطأ في جرحه فيجوز الاعتراض عليه ورد جرحه بما تبين بالأدلة الصحيحة, أما مجرد الاعتراض بدعوى أن ليس كل جرح مفسر مقبول لجواز خطأ الجارح في جرحه من غير بيان لوجه الخطأ بالأدلة الصحيحة فهذا ليس على قواعد المحدثين, بل مشابه لعمل المتعصبة والمقلدين.

وذكر المعلمي اليماني -رحمه الله- الأوجه التي يدخل فيها الخطأ على الجارح مع أنها خلاف الظاهر فقال: ((إعلم أن الجرح على درجات :
الأولى : المجمل وهو ما لم يبين فيه السبب كقول الجارح : (ليس بعدل) ، (فاسق) ؛ ومنه - على ما ذكره الخطيب في (الكفاية) (ص108) عن القاضي أبي الطيب الطبري - قول أئمة الحديث : (ضعيف) أو (ليس بشيء) ؛ وزاد الخطيب قولهم (ليس بثقة) .
الثانية : مبيَّن السبب ، ومثَّل له بعضُ الفقهاء بقول الجارح : (زان)،(سارق)،(قاذف) .
ووراء ذلك درجات بحسب احتمال الخلل وعدمه ؛ فقوله : (فلان قاذف) قد يحتمل الخلل :
من جهة أن يكون الجارح أخطأ في ظنه أن الواقع قذف.
ومن جهة احتمال أن يكون المرميُّ [أي المقذوف] مستحقاً للقذف.
ومن جهة احتمال أن لا يكون الجارح سمع ذلك من المجروح وإنما بلغه عنه.
ومن جهة أن يكون إنما سمع رجلاً آخر يَقذِف فتوهم أنه الذي سماه.
ومن جهة احتمال أن يكون المجروح إنما كان يحكي القذفَ عن غيره.
أو [كان] يَفرض أن قائلاً قاله فلم يسمع الجارح أول الكلام.
إلى غير ذلك من الاحتمالات.
نعم إنها خلاف الظاهر ، ولكن قد يقوى المعارض جداً فيغلب على الظن أن هناك خللاً وإن لم يتبين)).أ.هـ

والمقصود أن جرح المجرح الأصل فيه القبول وعدم الرد خاصة إذا كان الجرح مبين السبب, إلا إذا تبين خطأه وأن جرحه فيه خلل من جهة ما فحينئذ يجوز رد كلام الجارح بما ظهر من الأدلة التي تبين خطأه وخلل جرحه.

لكن المصيبة العظمى أن يرد كلام الجارح بالظنون وبالاحتمال فيقال: يحتمل أن الجارح قد أخطأ, ويحتمل أن يكون الجارح لم يطلع على حال المجروح وهكذا فيبنون كلامهم في رد كلام الجارح على سوء الظن بالعالم المجرح وبالظن والوهم الموافق لما يروونه من عدم جرح المجروح, لكن الواجب عليهم إظهار الأدلة التي تبين خطأ كلام الجارح وإثبات عدالة المجروح وإلا فعليهم قبول كلام الجارح وعدم رده , إلى غير ذلك من المسائل .

والآن سأذكر بعض الوقفات مع كلام الحلبي فيما يتعلق بكلامه في الجرح المفسر:
الوقفة الأولى:
قوله: (( فكل من جرح شخصا نراه يلزم الآخرين به, بحجة أن جرحه له مفسر, وأنه (واجب) قبول الجرح المفسر)).

ولا أريد أن أدخل في موضوع الإلزام الآن, لكن الذي أريد الوقوف معه في هذا الكلام فيما يتعلق بالجرح المفسر ووجوب قبوله.

فانا أتساءل هل أن علي الحلبي يعترض على وجوب قبول الجرح المفسر, أم أنه يرى وجوبه من غير إلزام, لكن الظاهر أن الحلبي يريد التشكيك في القضيتين معا, في قضية وجوب قبول الجرح المفسر وفي قضية الإلزام به.

واستدل على ذلك بما وجد من اختلاف بين العلماء في جرح الرواة وتعديلهم, وأن هذا الاختلاف ناشئ عن جرح مفسر مما يدل على أنه لا يجب قبول الجرح المفسر.

مع أن الأئمة متفقون على قبول الجرح المفسر بشرط أن لا يظهر مانع من موانع القبول, أما أن يطلق القول في عدم وجوب قبول الجرح المفسر فهذا ليس على قواعد لمحدثين.

وبهذا القول ( عدم وجوب قبول الجرح المفسر) لا يمكن الرد على كثير من أهل البدع الذين يتمسكون بحديث معين بحجة أن هناك من عدل رواته وصحح الحديث فتموت السنة وتحيى البدعة والله المستعان.

قال الشيخ عبد العزيز العبد اللطيف في ذكره للتفصيل في قبول الجرح على حسب قول ابن حجر: ((أ ـ إن كان مَنْ جُرِحَ مجملاً قد وثقه أحد من أئمة هذا الشأن لم يُقبل الجرح فيه من أحد كائناً من كان إلّا مفسراً؛ لأنه قد ثبتت له رتبة الثقة فلا يزحزح عنها إلّا بأمر جلي.
وهذا مأخوذ من قول الإمام أحمد: (( كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه )).
وذلك لأن أئمة هذا الشأن لا يوثقون إلّا من اعتبروا حاله في دينه ثم في حديثه ونقدوه كما ينبغي وهم أيقظ الناس، فلا ينتقض حكم أحدهم إلّا بأمر صريح)) [ضوابط الجرح والتعديل ص 28].

فعلى هذا أن من جرح جرحا مفسرا يجب قبوله ما لم يتبين خطأه في جرحه ولا يجوز لأحد أن يعترض على الجارح بالظنون والاحتمالات ولا أن هذا من باب الاجتهاد الذي يجوز فيه الخلاف بل الواجب قبول قول الجارح بالشرط المذكور.

ولو قلنا بعدم وجوب قول الجارح لهدمت قواعد علم الحديث ولتركت أقوال العلماء في الجرح والتعديل ولاختل تصحيح الحديث وتضعيفه ولقال كل قائل ما يوافق هواه ودعواه ولاضطربت السنة ولما استطاع أحد أن يدافع عنها, لكن القول الذي عليه عمل الأئمة وقواعد لمحدثين أنه لا يجوز لأحد أن يعترض على قول الجارح فضلا عن أن يرد قوله بغير حجة ولا برهان صحيح يبين فيه خطأ قول الجارح لسبب من الأسباب.

وذكرت فيا سبق كلام المعلمي في حكم الجرح فهو رحمه الله ذكر أن الجرح المجمل يجب قبوله وعدم طرحه فيمن لم يعدل, ويوقع الريبة ويوجب التوقف فيمن عدل وذلك على قاعدة إعمال قول الجارح وعدم إهماله لأن مع الجارح زيادة علم.

فإن كان الحلبي يرى وجوب قبول قول الجارح فيمن جرحه بالشروط المذكورة فكان عليه أن يصرح بذلك ولا يشكك في هذه القاعدة المهمة وإن كان كلامه لا يدل على ذلك بل هو يرى جواز قبول قول الجارح لا وجوبه كما يدل عليه سياق كلامه ولذلك عنده لا يجوز الاعتراض على المخالف لقول لجارح والله اعلم.

وإن كان لا يرى وجوب ذلك فهذه المصيبة العظمى التي تتوالى بعدها المصائب في التشكيك بالقواعد العلمية السلفية, وهو بهذا القول يخالف ما عليه أئمة أهل الحديث وعملهم في مصنفاتهم وما استقر عليه علم قواعد لحديث, وهذا يدل عليه المثال الذي استدل به كما سيأتي.

وله كلام في غير كتابه هذا ما يدل على ذلك وهو قوله: (( ثم موقف عامة طلبة العلم إذا أجمع أهل العلم على تبديع واحد لا يسعهم أن يخالفوه)) [جلسة مسجلة بصوت الحلبي ].

ولذلك بنى الحلبي قوله بعدم الإلزام على قوله بعدم وجوب قبول قول الجارح فصرح بأنه لا إلزام إلا بإجماع أو اقتناع, ولو كان يرى وجوب قبول قول الجارح لما قال بعدم الإلزام.

وأنا أسأل وأتساءل من قال بقول الحلبي هذا من المتقدمين والمعاصرين فعليه أن يسوق كلام العلماء الموافقين له في كلامه هذا, لا أن يجمع أقوالا عدة مختلفة المقاصد والمطالب فيخرج بذلك بمذهب لم يصرح بعينه إمام من أئمة أهل السنة, ولذلك فهو قد جرى في كتابه هذا على هذا النهج إضافة إلى النقولات المبتورة والمقالات الموضوعة في غير موضعها كما سأبينها لاحقا إن شاء الله تعالى.

الوقفة الثانية:
واستدل الحلبي بمنهجه هذا بوقوع الاختلاف بين أئمة الحديث ونقاده في جرح وتعديل الرواة, ورأى جواز عدم قبول الجرح المفسر على هذا الأساس وضرب لذلك مثالا وهو الاختلاف الحاصل بين الأئمة في عكرمة مولى ابن عباس حيث أن البخاري احتج به, وأن مسلما لم يحتج به, وأن هذا الإختلاف ناشئ عن جرح مفسر غير مبهم رضيه واحد ورده غيره, فاستدل بذلك على جواز مخالفة الجرح المفسر وعدم وجوب قبوله والإلزام به وسأقف مع استدلاله هذا وأبين خطأه واضطرابه من عدة وجوه:

الوجه الأول: إن الاختلاف بين الأئمة في جرح وتعديل الرواة إنما نشأ عن مطابقة قول الجارح والمعدل للرواة فمن جرح راويا لا يختلف العلماء في قبول جرحه وعدم طرحه لكنهم قد يختلفون في مطابقة هذا الجرح للراوي فالذي لم يقبل جرح الراوي لم يقبله لأنه رأى أن هذا الراوي لا يوجد فيه ما جرحه به الجارح, لا على أصل قبول قول الجارح ولذلك يطالب من رد قول الجارح بمبرر يجعله يخالف قول الجارح في الراوي هذا, لا كما صوره الحلبي في كلامه واستدلاله.

ولذلك وكما قدمت في أول كلامي أنَ قول الجارح يجب قبوله وعدم طرحه حتى يظهر مانع من الموانع التي تقدح في الجرح, وهذا هو عمل النقاد والحذاق من الأئمة فمتى ظهر مانع رد قول الجارح وعمل بقول المعدل للراوي.

والعجيب أن الحلبي صور أن الخلاف بين العلماء في جرح الرواة وتعديلهم مبني على اختلاف الأفهام والأنظار وهذا أمر خطير جدا كما سأبين بطلانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: استدل الحلبي باختلاف صاحبي الصحيحين البخاري ومسلما في حال عكرمة مولى ابن عباس على عدم الوجوب والإلزام وأن هذا الاختلاف مسوغ لرد كلام الجارح وعدم الإلزام به حتى ولو كان الجرح مفسرا, مع أنه غض الطرف على عادته عن سبب الخلاف هذا وعدم قبول الجرح المفسر لمن لم يقبله وحجة من قبله مع أن هذا هو صلب الموضوع

لكن الحلبي لم يبينه ولم يشر إليه وهذا يخالف حقيقة البحث العلمي.

ومثل المثال الذي ضربه الحلبي واستدل به, ما ذكره الصنعاني في كتابه (إرشاد النقاد) لكنه ليس على طريقة الحلبي في الاستدلال إنما على طريقة أئمة أهل الحديث مع أن الحلبي أخذ من كلام الصنعاني ما ينفعه في الاستدلال وترك ما يخالف قوله ونهجه وهذا في الحقيقة انحراف كبير في الاستدلال بكلام العلماء لا يصلح أن يقوم به ويفعله مثل الحلبي الذي ينتسب إلى مدرسة الإمام الألباني رحمه الله الذي عرف بقوة البحث والاستدلال كما سيأتي بيانه لاحقا, لكني أريد أن أبين الفرق في الاستدلال والفهم من الاختلاف بين العلماء في جرح وتعديل الرواة.

قال الصنعاني -رحمه الله-: فصل في سبب اختلاف الأقوال في الجرح والتعديل: ((أما ما أشار إليه السائل دامت إفادته من أنه قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث فيضعف هذا حديثا وهذا يصححه ويرمي هذا رجلا من الرواة بالجرح وآخر يعدله.
فهذا مما يشعر بأن التصحيح ونحوه من مسائل الاجتهاد الذي اختلفت فيه الآراء.
فجوابه أن الأمر كذلك أي أنه قد تختلف أقوالهم فإنه قال مالك في ابن إسحاق (إنه دجال من الدجاجلة) وقال فيه شعبة (إنه أمير المؤمنين في الحديث).
وشعبة إمام لا كلام في ذلك وإمامة مالك في الدين معلومة لا تحتاج إلى برهان فهذان إمامان كبيران اختلفا في رجل واحد من رواة الأحاديث.
ويتفرع على هذا الاختلاف في صحة حديث من رواية ابن إسحاق, وفي ضعفه فإنه قد يجد العالم المتأخر عن زمان هذين الإمامين كلام شعبة وتوثيقه لابن إسحاق فيصحح حديثا يكون من رواية ابن إسحاق قائلا قد ثبتت الرواية عن إمام من أئمة الدين وهو شعبة بأن ابن إسحاق حجة في روايته وهذا خبر من شعبة يجب قبوله.
وقد يجد العالم الآخر كلام مالك وقدحه في ابن اسحاق القدح الذي ليس وراءه ورواء ويرى حديثا من رواية ابن إسحاق فيضعف الحديث لذلك قائلا قد روى لي إمام وهو مالك بأن ابن إسحاق غير مرضي الرواية ولا يساوي فلسا فيجب رد خبر فيه ابن إسحاق.
فبسبب هذا الاختلاف حصل اختلاف الأئمة في التصحيح والتضعيف المتفرعين عن اختلاف ما بلغهم من حال بعض الرواة وكل ذلك راجع إلى الرواية لا إلى الدراية فهو ناشىء عن اختلاف الأخبار فمن صحح أو ضعف فليس عن رأي ولا استنباط كما لا يخفى بل عمل بالرواية وكل من المصحح والمضعف مجتهد عامل برواية عدل فعرفت أن الاختلاف في ذلك ليس مداره على الرأي ولا هو من أدلة أن مسألة التصحيح وضده اجتهاد.
نعم وقد يأتي من له فحولة ونقادة ودراية بحقائق الأمور وحسن وسعة اطلاع على كلام الأئمة فإنه يرجع إلى الترجيح بين التعديل والتجريح.
فينظر في مثل هذه المسألة إلى كلام الجارح ومخرجه فيجده كلاما خرج مخرج الغضب الذي لا يخلو عنه البشر ولا يحفظ لسانه حال حصوله إلا من عصمه الله.
فإنه لما قال ابن إسحاق اعرضوا علي علم مالك فأنا بيطاره فبلغ مالكا فقال تلك الكلمة الجافية التي لولا جلالة من قالها وما نرجوه من عفو الله من فلتات اللسان عند الغضب لكان القدح بها فيمن قالها أقرب إلى القدح فيمن قيلت فيه.
فلما وجدناه خرج مخرج الغضب لم نره قادحا في ابن إسحاق فإنه خرج مخرد جزاء السيئة بالسيئة على أن ابن إسحاق لم يقدح في مالك ولا في علمه غاية ما أفاد كلامه أنه أعلم من مالك وأنه بيطار علومه وليس في ذلك قدح على مالك.
ونظرنا كلام شعبة في ابن إسحاق فقدمنا قوله لأنه خرج مخرج النصح للمسلمين ليس له حامل عليه إلا ذلك.
وأما الجامد في ذهنه الأبله في نظره فإنه يقول:
قد تعارض هنا الجرح والتعديل فيقدم الجرح لأن الجارح أولى وإن كثر المعدلون وهذه القاعدة لو أخذت كلية لم يبق لنا عدل إلا الرسل فإنه ما سلم فاضل من طاعن من ذلك لا من الخلفاء الراشدين ولا أحد من أئمة الدين كما قيل:
** فما سلم صديق من رافض ** ولا نجا من ناصبي علي **

** ما سلم الله من بريته ** ولا نبي الهدي فكيف أنا **

القاعدة ظاهرية يعمل بها فيما تعارض فيه الجرح والتعديل من المجاهيل على أنه لك أن تقول كلام مالك ليس بقادح في ابن إسحاق لما علمت أنه خرج مخرج الغضب لا مخرج النصح للمسلمين فلم يعارض في ابن إسحاق جرح واعلم أن ذكرنا لابن إسحاق والكلام فيه مثال وطريق يسلك منه إلى نظائره)) [إرشاد النقاد 108- 114].

فذكر الصنعاني – رحمه الله- أن الإمام مالكا وشعبة اختلفا في محمد بن إسحاق فجرحه مالك وعدله شعبة, وهذا الاختلاف تبعه الاختلاف في صحة حديثه وضعفه, فإن الذي يأتي بعدهما سيقرأ كلامهما فيه فيختلفون في حديثه تبعا لاختلاف مالك وشعبة في جرحه وتعديله.

لكن الصنعاني خرج من هذا الاختلاف بمسائل مهمة يمكن تلخيصها في عدة أمور:

الأول: أن الاختلاف بين الأئمة في جرح الرواة وتعديلهم ليس بناتج عن الاختلاف في الدراية أو الاجتهاد كما قرر ذلك الحلبي وتبعه تلاميذه ومن تأثر بمنهجه, وإنما هو ناتج عن الاختلاف في الرواية واختلاف الأخبار, فمن صحح أو ضعف فليس عن رأي ولا استنباط, بل عمل بالرواية فليس مدار الاختلاف على الرأي ولا هو من أدلة مسألة ((التصحيح وضده)) اجتهاد كما خفي على كثير ممن كتب في هذا الموضوع.

الثاني: أن الواجب فيمن قرأ كلام الأئمة المختلفين في جرح الرواة وتعديلهم أن ينظر في أسباب ذلك والحامل على الجرح والتعديل وهذا هو عمل النقاد من أئمة أهل الحديث, لا أن ينظر إلى مجرد الاختلاف وجوازه وعدم الإلزام كما هو نظر الحلبي من اختلاف الأئمة في جرح الرواة وتعديلهم.

الثالث: أن الواجب هو السعي إلى الترجيح بين كلام الأئمة من حيث تتبع الحقائق ومحل صدورها والباعث على التكلم بها, وأن هذا كله من باب قبول الأخبار فيكون بذلك أقوم قيلا وأحسن دليلا وأوفق نظرا وأجل قدرا كما قرر ذلك الصنعاني -رحمه الله-.
إلى غير ذلك من المسائل المهمة التي لا يستغنى عنها.

أما الحلبي فخرج من الاختلاف بين الأئمة في عكرمة مولى ابن عباس بجواز الاختلاف وعدم وجوب قبول قول الجارح والإلزام به على خلاف ما خرج به الصنعاني من مثال شديد الشبه بمثال الحلبي الذي استدل به على منهجه.

مع أن الحلبي وقع في خطأ كبير لا يقع فيه صغار طلبة علم الحديث وهو أنه جعل الخلاف بين البخاري ومسلما في تهمة عكرمة بالكذب وان مسلما رضي تهمته بذلك فلم يخرج له على سبيل الاحتجاج في صحيحه, وهذا الكلام شديد الخطأ بعيد الوقوع وذلك لان مسلما تبع مالكا في جرح عكرمة وعدم توثيقه وأن مالكا إنما جرح عكرمة بموافقته لكلام الخوارج لا بتهمته بالكذب كما صرح بذلك غير واحد من الأئمة.

قال ابن حجر -رحمه الله- : ((وأما ذم مالك فقد بين سببه وأنه لأجل ما رمي به من القول ببدعة الخوارج وقد جزم بذلك أبو حاتم قال بن أبي حاتم سألت أبي عن عكرمة فقال ثقة قلت يحتج بحديثه قال نعم إذا روى عنه الثقات والذي أنكر عليه مالك إنما هو بسبب رأيه على أنه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه كان يرى ذلك وإنما كان يوافق في بعض المسائل فنسبوه إليهم وقد برأه أحمد والعجلي من ذلك فقال في كتاب الثقات له عكرمة مولى بن عباس رضي الله عنهما مكي تابعي ثقة برئ مما يرميه الناس به من الحرورية وقال بن جرير لو كان كل من ادعى عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعى به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه)) [هدي الساري ص671].

ثم كيف يخرج مسلما لراو مقرونا أو في المتابعات وهو يتهمه بالكذب لا يقول ذلك من له أدنى معرفة بشرط مسلم في صحيحه حيث صرح –رحمه الله- في مقدمة صحيحه بأنه لا يتشاغل برواية من أتهم وكذلك من الغالب على حديثه المنكر حيث قال: (( فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن مسور أبى جعفر المدائنى وعمرو بن خالد وعبد القدوس الشامى ومحمد بن سعيد المصلوب وغياث بن إبراهيم وسليمان بن عمرو أبى داود النخعى وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار. وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثهم)) [مقدمة الصحيح ص 2].

ومع ذلك أراد الحلبي أن يموه على القارئ حيث قال ان أصل هذا الاستدلال في هذا السياق إنما هو لفضيلة الشيخ ربيع في بعض كتبه.

مع أن استدلال الشيخ ربيع يخالف استدلال الحلبي في هذا المثال حيث أن الشيخ الربيع استدل بحال عكرمة في احتجاج البخاري به مع أن هناك من جرحه, فلم يمنع جرح من جرحه أن يحتج به أمير المؤمنين في كتابه الصحيح وذلك لعدم ثبوت الجرح وأن ما قيل فيه لا يؤثر على روايته, وأراد الشيخ أن يبين قاعدة مهمة يحاول الحلبي التشكيك فيها وهو وجوب قبول الجرح إذا كان مفسرا, وسبب اشتراط التفسير والتبيين هو أن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح .

أما الحلبي فأراد من الاستدلال بهذا المثال جواز الخلاف في الجرح لمفسر وجواز عدم قبوله وعدم الإلزام به كما بينته آنفا.

فشتان بين الاستدلالين فليحذر.

الوقفة الثالثة: ذكر الحلبي كلام الصنعاني في الاستدلال على وقوع الاختلاف بين أئمة الجرح والتعديل في جرح الرواة وتعديلهم وفي تصحيح الأحاديث وتضعيفها فقال أي الحلبي: (( وقد نقل الإمام الصنعاني في ( إرشاد النقاد) (ص 13-14/ ج1- من مجموع الرسائل المنيرية) قول من قال:
(( قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد, وفي الحديث الواحد, فيضعف هذا حديثا, وهذا يصححه, ويرمي هذا رجلا من الرواة بالجرح, وآخر يعدله)) ثم قال – عقبه – مقرا-:
(( إن الأمر كذلك, أي أنه قد تختلف اقوالهم)) [منهج السلف ط2,ص 218].

ووقع الحلبي في أخطاء عدة في هذا لموضع من أهمها:

أولا: أنه لم ينصف في نقله عن الإمام الصنعاني, حيث أنه قطع الكلام ولم ينقله بتمامه مما يؤثر في فهم كلامه فليس من الأمانة العلمية أن يقطع كلام العالم بما يوافق رأي الناقل له, فلو أن الحلبي نقل كلام الصنعاني بتمامه لهدم جميع ما أصله في هذا الباب, وقد نقلت كلام الصنعاني بتمامه قبل قليل فلينظر وليطابق مع نقل ومراد الحلبي هنا.
ثم إن الحلبي علق بكلام الصنعاني هذا في حاشية كتابه على ما ذكره في الأصل حيث نقل كلام أحمد بن صالح –رحمه الله- حيث قال: (( لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه)).

فأراد أن يبين من الأصل والحاشية أن الذي يجب تركه وجرحه هو من اجتمع الأئمة على جرحه وتركه, أما من اختلف فيه العلماء فيجوز الجرح كما يجوز التعديل للاختلاف الحاصل في ذلك وأتى بكلام الصنعاني على هذا التأصيل.

مع أن كلام الصنعاني يرد ذلك ردا قويا وينسف قاعدة الحلبي هذه من أصولها.

ولهذا السبب لم ينقل الحلبي كلام الصنعاني بتمامه, وإنما اكتفى من كلام الصنعاني بجملة واحدة وهي (( أن الأمر كذلك – أي أنهم قد تختلف أقوالهم)).
وحملها على ما أراد من كلامه وتأصيله.

مع أن الصنعاني أراد بهذه الكلمة وقوع ما ذكر له من الاختلاف ثم مثل له بمثال وهو اختلاف الأئمة في محمد بن إسحاق, أما تأصيله في هذه المسألة فذكرها بعد ذكره للمثال وهو ما ذكرته قبل قليل.

ثانيا: أن الحلبي وقع في خطأ جسيم في الطبعة الأولى من كتابه هذا حيث نقل كلام الصنعاني فقال: (( قال الإمام الصنعاني في (إرشاد النقاد) (ص13): قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث فيضعف هذا حديثا وهذا يصححه ويرمي هذا رجلا من الرواة بالجرح وآخر يعدله.
وذلك مما يشعر بأن التصحيح ونحوه من مسائل الاجتهاد الذي اختلفت فيه الآراء)).

فجعل الحلبي كلام السائل على أنه كلام الصنعاني لأنه يوافق ما يراه في هذه المسألة.

فلما نبه على ذلك وانتشر خطأه وعرف طلاب العلم ما فعله الحلبي من التمويه في نقله لكلام العلماء صحح في الطبعة الثانية بتمويه أخر لا يقل عن تمويهه الأول, فهو أولا لم يبين ما وقع فيه من الخطأ في الطبعة الأولى على عادته من عدم الاعتراف بالخطأ, فكان الواجب عليه أن يبين ما وقع فيه.

ثانيا أنه لم ينقل كلام الصنعاني بتمامه في الطبعة الثانية, ونقل منه جملة تموه على طلاب العلم تأصيل المسالة, إلى غير ذلك من الأخطاء التي سأبينها تباعا إن شاء الله تعالى.

الوقفة الرابعة:
نقل علي الحلبي كلمة للشيخ ربيع بعد أن ذكر بعض أقوال الأئمة في جرحهم لبعض الرواة بما لا يجرح الراوي فقال:ومثل ذلك ما قاله فضيلة الشيخ ربيع بن هادي في بعض أجوبته:(( .... نحن نطلب من الجارحين: التفسير, إذا تبينوا ( أسباب الجرح الصحيحة ), فيجب إتباعهم , لأن هذا إتباع للحق, ورد ما عندهم من الحق رفض للحق)).

ثم عقب بقوله:
أقول: فليس تفسير الجرح – فقط – هو الموجب لقبوله, وإنما الموجب لذلك هو تفسيره ب – ( أسباب الجرح الصحيحة ), والتي لم يطلب تفسير الجرح – أصلا – إلا من أجلها!

وأراد أن يبين الحلبي بكلامه هذا أن ما ذكره العلماء من الجرح في المجروحين هو ليس من الجرح المقبول وذلك لأنه لم يكن عن طريق الأسباب الصحيحة, فعلى هذا لم يقبل هو جرح العلماء في المجروحين بل دافع عنهم وزكاهم, بل إن كتابه هذا هو في حقيقته منزل على الدفاع عنهم وتأصيل القواعد التي ذكرها من أجل ذلك.

وكان الواجب عليه أن يذكر جرح العلماء لهم ويبين أسبابه ثم يدفع هذا الجرح بما ملك من الأدلة التي تبين خطأ الجارح لمن جرحه هذا لو أراد أن يسلك طريق المحدثين في هذا الباب لكنه سلك غير طريقهم فأتى بأمور مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.

فسلك الحلبي مسلك الطعن واللمز بالأئمة المجرحين فينسبهم إلى التشدد والغلو في الجرح من غير بينة ولا برهان صحيح, ويعرض هو ويصرح تلاميذه بأنواع الطعن الصريح في كبار الأئمة الذين عرفوا بالدفاع عن السنة ومنهج أهل السنة والجماعة والرد على المخالفين والمبتدعين وهذا من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى, فوقع الحلبي وتلاميذه في ظلم عظيم بما ارتكبوه من الطعن في العلماء فبدل أن يوقروا العلماء ويحسنوا فيهم الظن ويدافعوا عنهم طعنوا فيهم ونسبوهم مما هم بريئون منه.

فهو يطالب الجارح بان يكون جرحه مفسرا بأسباب الجرح الصحيحة, ويفهم من كلامه هذا أن جرح العلماء للمخالفين ليس من هذا الباب, ويعني ذلك بأن جرحهم لم يكن بأسباب أصلا, أو كان بأسباب غير صحيحة وهذا بحد ذاته طعن في علمائنا الأكابر.

فهل جرح العلماء للمأربي مثلا الذي لا يرى أن لفظ الغثائية لفظ سب وتنقص من الصحابة الكرام لم تكن بأسباب صحيحة, أم محمد حسان الذي لا يرى فرق بين دعوة الإخوان المسلمين وبين الدعوة السلفية, ولا يرى الفرق بين جماعة التبليغ وبين الدعوة السلفية المباركة لم يكن بأسباب صحيحة, أم المغراوي أم عدنان عرور وغيرهم.

لكن الحلبي أراد أن يساوي بين جرح شعبة لمن سمع في بيته صوت الطنبور وجرحه لمن رآه يركض على برذون وبين جرح العلماء لمن قال: نريد منهجا واسعا أفيح يسع أهل السنة والأمة كلها, وجرح العلماء لمن قال بمنهج الموازنات ومن قال: نصحح ولا نجرح, وجرح العلماء لمن يثني على سيد قطب ومنهجه إلى غير ذلك.

فأراد الحلبي أن يقول أن كلا الجرحين ليس بجارح في الحقيقة, بل هو من الجرح الذي لم يعتمد على أسباب الجرح الصحيحة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذا من أعظم الظلم لأن فيه رد للحق بغير دليل ولا بينة, بل الواجب قبول كلام العلماء لأنه إتباع للحق.

ولذلك ما زال العلماء يطالبون الحلبي بذكر الأدلة التي اعتمد عليها في تزكية هؤلاء ورده لكلام العلماء, فلم يذكر شيئا بل لوى النصوص والقواعد السلفية حتى توافق كلامه ودعواه والأمر يزداد ويكبر يوما بعد يوم, والفتنة تفرق السلفيين في مختلف بلاد المسلمين بسبب تأصيلات الحلبي الجديدة.

ولذلك فإني أُذكّر السلفيين جميعا بموقف الأئمة من المخالفين بل وأذكرهم بمواقف الأئمة الكبار من المخالفين أمثال الألباني وابن باز والعثيمين والفوزان والنجمي والعباد والربيع والجابري وغيرهم من أئمة أهل السنة.

فعلى السلفيين جميعا الرجوع إلى كلام العلماء وقبوله والانتفاع منه, والإعراض عن المخالفين لمنهجهم.

وعلى كل من خالف شيئا من أصول المنهج السلفي أن يتوب إلى الله تعالى ويتبرأ من قوله ويحذر الناس منه فإن في هذا رفعة له في الدنيا ونجاة يوم القيامة.

والله أسأل أن يرد الأمة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة, وأن يجمع شمل السلفيين ويوحد كلمتهم على منهجهم الحق إنه سميع عليم.



كتبه

أبو محمد الهاشمي البغدادي


حمل من هنا (http://www.albaidha.net/vb/attachment.php?attachmentid=586&stc=1&d=1281074130)