المؤمن الصالح في جوار الله وذمته
عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي الله عنه ، عَنْ رَافِعٍ الطَّائِيِّ رضي الله عنه -وَكَانَ لِصًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يُعِدُ بَيْضَ النَّعَامِ فَيَجْعَلُ فِيهِ الْمَاءَ وَيَضَعُهُ فِي الْمَفَازَةَ فَلَمَّا أَسْلَمَ كَانَ الدَّلِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ.
وفي رواية: «كُنْتُ رَجُلا أُغِيرُ عَلَى النَّاسِ، وَأَدْفِنُ الْمَاءَ فِي أُدْحِيِّ النَّعَامِ( 1)، فَأَسْتَاقُهُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَيْهِ بِالْفَلاةِ، فَأَسْتَثِيرُهُ، فَأَشْرَبُ مِنْهُ.
وكُنْتُ رَجُلا هَادِيًا بِالأَرْضِ، آتِي النَّاسَ عَنْ مَيَامِنِهِمْ، فَأَسْتَاقُ غَنَمَهُمْ، فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ بِي حَتَّى صِرْتُ عَرِيفًا فِي إِمَارَةِ الْحَجَّاجِ.
فلَمَّا كَانَ غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلاسِلِ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَيْهَا قَالَ : وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَنْفِرَ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ : وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ : وَهِيَ الْغَزْوَةُ الَّتِي يَفْخَرُ بِهَا أَهْلُ الشَّامِ فَيَقُولُونَ : اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ.
قَالَ : فَمَرُّوا بِنَا فَاسْتَنْفَرْنَا مَعَهُمْ، فَقُلْتُ : لأَخْتَارَنَّ لِنَفْسِي رَجُلا أَصْحَبُهُ فَأَخْدُمُهُ وَأَتَعَلَّمُ مِنْهُ، ، فَإِنِّي لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ آتِيَ الْمَدِينَةَ كُلَّمَا شِئْتُ، فَتَخَيَّرْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ كِسَاءٌ فَدَكِيٌّ يُخِلُّهُ إِذَا رَكِبَ(2 )، وَأَلْبَسُهُ أَنَا إِذَا هُوَ نَزَلَ، وَهُوَ الْكِسَاءُ الَّذِي عَيَّرَتْهُ هَوَازِنُ فَقَالُوا : ذَا الْخِلالِ يُسْتَخْلَفُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم !
قَالَ: فَخَرَجْنَا فِي غَزَاتِنَا ثُمَّ رَجَعْنَا، فَقُلْتُ : يَا أَبَا بَكْرِ إِنِّي قَدْ صُحْبَتُكَ، وَلِلصَّحَابَةِ حَقٌّ، وَلَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ آتِيَ الْمَدِينَةَ كُلَّمَا شِئْتُ، فَعَلِّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وَلا تُطِلْ عَلَيَّ فَأَنْسَى، فَقَالَ : نَعَمْ، وَلَوْ لَمْ تَقُلْ لَفَعَلْتُ: «اعْبُدِ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَأَقِمِ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَأَدِّ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَصُمْ رَمَضَانَ، وَحُجَّ الْبَيْتَ، وَهَاجِرْ دَارَكَ فَإِنَّهَا دَرَجَةُ الْعَمَلِ، وَلا تَأَمَّرَنَّ عَلَى رَجُلَيْنِ».
فَقُلْتُ : أَمَّا اعْبُدِ اللَّهَ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ فَقَدْ عَرَفْتُهُ، وَلَكِنْ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِكَ : وَلا تَأَمَّرَنَّ عَلَى رَجُلَيْنِ؟ وَإِنَّمَا يُصِيبُ النَّاسَ الشُّرَفُ وَالْخَيْرُ بِالإِمَارَاتِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّكَ اسْتَخْبَرْتَنِي فَجَهَدْتُ لَكَ، وَإِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي الإِسْلامِ طَوْعًا وَكَرْهًا، فَأَجَارَهُمُ اللَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، وَهُمْ عُوَّاذُ اللَّهِ، وَجيران اللَّهِ، وَفِي ذِمَّةِ اللَّهِ، وَمَنْ يُخْفِرْ مِنْكُمْ أَحَدًا فَإِنَّمَا يُخْفِرُ اللَّهَ عز وجل، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُؤْخَذُ بِشُوَيْهَةِ جَارِهِ، أَوْ بَعِيرِهِ، فَيَظَلُّ نَاتِئًا عَضَلَهُ غَضَبًا لِجَارِهِ( 3 )، وَاللَّهُ مِنْ وَرَاءِ جَارِهِ.
فَلَمَّا رَجَعْنَا إِلَى دِيَارِنَا وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَخْلَفُوا أَبَو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ : مَنِ اسْتُخْلِفَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا : صَاحِبُكَ أَبُو بَكْرٍ.
فَقُلْتُ : صَاحِبِي الَّذِي نَهَانِي عَنِ الإِمَارَةِ ثُمَّ تَأَمَّرَ عَلَى النَّاسِ، لآتِيَنَّهُ.
فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ ، فَتَعَرَّضْتُ لَهُ حَتَّى لَقِيتُهُ فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَبَا بَكْرِ نَهَيْتَنِي عَنِ الإِمَارَةِ، ثُمَّ تَأَمَّرْتَ عَلَى النَّاسِ؟!
فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ، وَالنَّاسُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَحَمَلَنِي أَصْحَابِي، وَأَنَا كَارِهٌ، وَخَشِيتُ أَنْ يَرْتَدُّوا، فَلَمْ يَزَلْ يَعْتَذِرُ إِلَيَّ حَتَّى عَذَرْتُهُ».
حديث صحيح(4).
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه:
الدكتور أسامة بن عطايا العتيبي
24/ 8/ 1438 هـ
الحاشية:
(1) قال السرقسطي في الدلائل في غريب الحديث(3/ 1040): «أدحي النعامة: موضع بيضها».
(2) أي: جَمَع بَيْنَ طَرَفيْه بِخِلَال مِنْ عُود أَوْ حَديد. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 73).
(3) أي: فتظل عضلاته بارزة من الغضب. والمراد انتفاخ أوداجه من الغضب كأن عضلاته هي التي انتفخت.
(4) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني(4/ 442رقم2496)، والبغوي في معجم الصحابة(2/ 373رقم743)، وابن خزيمة-كما في الإصابة(2/ 366)-، وأبو نعيم في معرفة الصحابة(2/ 1060)، وابن عساكر في تاريخ دمشق(18/ 8)، وغيرهم من طريق طلحة بن مصرف عن سليمان الأحول عن طارق بن شهاب عن رافع الطائي رضي الله عنه به، وسنده صحيح.
ورجح بعض المحدثين أنه سليمان بن ميسرة وليس الأحوال، وكذلك رواه وكيع في الزهد(رقم130)، وابن أبي شيبة في المصنف(5/ 338رقم26668)كلاهما مختصرا، وإسحاق في مسنده-كما في المطالب العالية(9/ 580رقم2095)-، والإمام أحمد في الزهد(ص/89) مختصراً، وأبو داود في الزهد(ص/ 47رقم25)، وابن أبي خيثمة في السفر الثالث من تاريخه(3/ 45رقم3758)، والبغوي في معجم الصحابة(2/ 371)، والطبراني في المعجم الكبير(5/ 22رقم4469) مختصراً، والخطيب في تلخيص المتشابه(2/831)، من طريق الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن رافع الطائي رضي الله عنه به. وسنده صحيح. وله طرق أخرى.