مشروعية الاستعاذة بالله من جميع الفتن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن الفتن قد تسبب هلاك العبد وانحرافه عن الهدى، سواء كانت هذه الفتن من الفتن الخاصة أو العامة، في الدين أو في الدنيا، لذلك جاءت النصوص بالاستعاذة بالله عز وجل من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكذلك جاءت بالاستعاذة من شر الفتن، وسوء الفتن، ومضلات الفتن.
وقد روي عن عمر بن الخطاب، وعن ابن مسعود رضي الله عنهما التعوذ من مضلات الفتن، وكلامٌ ظاهره المنع من التعوذ من جميع الفتن، وهما أثران ضعيفا الإسناد، وقد روي حديث باطل بلفظ: «لا تكرهوا الفتنة في آخر الزمان فإنها تبير المنافقين».
وقد ثبتت الاستعاذة من عموم الفتن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأحببت التنبيه في هذا المقال على بطلان ذلك الحديث، وضعف ذينك الأثرين، وذكر جملة من النصوص الواردة في الاستعاذة بالله من الفتن.
أولاً: حديث: « لا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَإِنَّهَا تُبِيرُ الْمُنَافِقِينَ».
رواه أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان(3/541)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان(2/76)، والديلمي في مسند الفردوس(5/ 38رقم7390)، من طريق عبد الرحمن بن أحمد الزهري، قال: ثنا أبو حفص عمر بن زياد الأزدي الزعفراني، بهمذان، قال: ثنا إبراهيم بن قتيبة، قال: ثنا قيس، عن العباس بن ذريح، عن شريح بن هانئ، عن علي رضي الله عنه به.
وهذا حديث موضوع، إبراهيم بن قتيبة شيعي مجهول، وقيس بن الربيع ضعيف، عبدالرحمن بن أحمد الزهري لم أقف له على توثيق، وعمر بن زياد إن كان هو الهلالي فهو صدوق، وإن كان غيره فهو مجهول.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى(2/233): «هذا ليس معروفا عن النبي صلى الله عليه وسلم»، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(13/ 44) : «وفي سنده ضعيف ومجهول»، وهو مذكور في كتب الموضوعات كـ الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة لمرعي الكرمي(ص/109رقم109)، وتنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة لابن عراق(2/ 351)، وتذكرة الموضوعات للفتني(ص/222)، والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة(ص/381رقم586)، والجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث للغزي(ص/257رقم608)، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني(ص/509رقم119)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ الألباني(12/ 737رقم5835)، وقال فيه: «منكر».
وقال الساجي-كما في تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر(6/66)- سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت ابن وهب وقيل له: إن فلانا حدث عنك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين» فقال ابن وهب: «أعماه الله إن كان كاذباً»، فأخبرني أحمد بن عبد الرحمن أن الرجل عمي.انتهى.
وأحمد بن عبدالرحمن هو ابن أخي عبدالله بن وهب.
وذكره ابن بطال في شرح صحيح البخارى(2/ 99) بلفظ آخر حيث ذكر في شرحه لحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه استعاذة عمار رضي الله عنه من الفتن وقال: «وهذا يرد الحديث الذى روى: (لا تستعيذوا بالله من الفتنة، فإنها حصاد المنافقين)» .
والخلاصة أن الحديث باطل موضوع، مخالف للنصوص الواردة في الاستعاذة بالله من الفتن.
ثانياً: تخريج أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
رواه ابن أبي شيبة في المصنف(7/459رقم37218)، وأبو عبيد-كما في مسند الفاروق للحافظ ابن كثير (2/ 614)- من طريق مِسْعَرٍ عن أبي حَصيْنٍ عن أبي الضُّحَى قال: قال رَجُلٌ وهو عند عُمَرَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك من الْفِتْنَةِ -أو الْفِتَنِ-» فقال عُمَرُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك من الضَّفَاطَةِ! أَتُحِبُّ أَنْ َلاَ يَرْزُقَك اللَّهُ مَالاً وَوَلَدًا؟ أَيُّكُمْ اسْتَعَاذَ من الْفِتَنِ فَلْيَسْتَعِذْ من مُضلاَتِهَا».
وفسَّر أبو عبيد في غريب الحديث(3/351) الضفاطة بـ«ضعف الرأي والجهل».
ورجاله ثقات، ولكنه منقطع الإسناد، فأبو الضحى مسلم بن صبيح لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالإسناد ضعيف.
ثالثاً: تخريج أثر ابن مسعود رضي الله عنه.
عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: «لا يَقُلْ أَحَدُكُمْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا يَشْتَمِلُ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلَكِنْ مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُعْضِلاتِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}.
رواه ابن جرير في تفسيره(9/218)، وابن أبي حاتم في تفسيره(5/1685رقم8984) ، والطبراني في المعجم الكبير(9/189رقم8931)، وابن المنذر وأبو الشيخ –كما في الدر المنثور للسيوطي(4/50، 8/185)-، من طريق المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبدالله بن مسعود عن ابن مسعود رضي الله عنه به.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد(7/220) : «رواه الطبراني وإسناده منقطع وفيه المسعودي وقد اختلط».
وقد رواه عن المسعودي: وكيع وأبو نعيم، وروايتهما عنه قبل اختلاطه، فلا يعل السند به.
ولكن إسناده منقطع لأن القاسم بن عبدالرحمن لم يدرك جدَّه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
وقد وصله الطبري في تفسيره(9/224) من طريق عبدالعزيز بن أبان عن المسعودي عن القاسم عن عبدالرحمن عن ابن مسعود رضي الله عنه به.
وعبدالعزيز بن أبان: متروك.
ولفظ المطبوع من معجم الطبراني «من معضلاتها»، وفي مجمع الزوائد: «من مضلاتها»، ولفظ ابن جرير وابن أبي حاتم: «من مضلات الفتن».
فتبين مما سبق أنه لا يصح في المنع من الاستعاذة من الفتن عموما شيء يستند إليه في ذلك من كتاب أو سنة أو أثر صحيح، لكن الوارد في السنة خلاف ذلك .
* فعن عن زيد بن ثابت رضي الله عنه –ضمن حديث طويل-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن» قالوا: «نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن». رواه مسلم في صحيحه(4/ 2199رقم2867).
فهذا الحديث صريح في مشروعية الاستعاذة من الفتن كلها، ظاهرها وباطنها.
* وعن أنس رضي الله عنه: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه المسألة، فغضب فصعد المنبر، فقال: «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» فجعلت أنظر يمينا وشمالا، فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي، فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه، فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: «حذافة» ثم أنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، نعوذ بالله من الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنه صورت لي الجنة والنار، حتى رأيتهما وراء الحائط» وكان قتادة، يذكر عند هذا الحديث هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101].
رواه البخاري في صحيحه(8/ 77رقم6362).
وفي رواية عند البخاري(رقم7089): «نعوذ بالله من سوء الفتن». وفي رواية(رقم7091): «عائذا بالله من شر الفتن»
وفي رواية مسلم(رقم2359): «عائذا بالله من سوء الفتن»
* عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه، ويقول: «ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار» قال: يقول عمار: «أعوذ بالله من الفتن». رواه البخاري (1/ 97رقم447).
وهذا حديث موقوف له حكم الرفع، لكون عمار بن ياسر رضي الله عنهما قاله بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه.
وهو صريح في مشروعية الاستعاذة من الفتن كلها.
وقد رويت أحاديث فيها الاستعاذة من مضلات الفتن، لا تخلو من ضعفٍ، وأصح ما ورد في ذلك عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما موقوفاً عليه.
* عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول عند الصفا: «اللهم أحيني على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وتوفني على ملته، وأعذني من مضلات الفتن». رواه المحاملي في الأمالي(ص/289رقم296)، والبيهقي في السنن الكبرى(5/95) وهو حسن الإسناد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
* وعن بِلَالَ بْنَ سَعْدٍ رحمه الله-وهو تابعي جليل- أنه كان يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَيْغِ الْقُلُوبِ، وَمِنْ تَبِعَاتِ الذُّنُوبِ، وَمِنْ مُرْدِيَاتِ الْأَعْمَالِ، وَمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ». رواه أبو نعيم في حلية الأولياء(5/229)، والخولاني في تاريخ داريا(ص/77)، والبيهقي في شعب الإيمان(1/507رقم862)، وابن عساكر في تاريخ دمشق(10/499) وإسناده صحيح.
طرفة:
عن محمد بْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ يُمَازِحُهُ : إِنَّكَ لَتُحِبُّ الْفِتْنَةَ.فَاغْتَمَّ الرَّجُلُ لِذَلِكَ وَوَجَمَ، فَضَحِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ : وَيْحَكَ أَلَسْتَ تُحِبُّ الْمَالَ وَالْوَلَدَ؟ ثُمَّ تَلا : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}. رواه البلاذري في أنساب الأشراف(10/ 451) بسند صحيح.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي