قال ابن القيم : فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي مَشْيِهِ وَحْدَهُ وَمَعَ أَصْحَابِهِ.
الحمد لله ،
وبعد ،
فإنّه قد شدّ إنتباهي اليوم ما رأيت من أحد الإخوة طريقة مشيه في المسجد فدعاني ما استنكرته إلى نقل هذا الفصل لابن القيم رحمه الله ،
وقد قال ربنا ﷻ : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [سورة اﻷحزاب : 21]
فَصْلٌ
[فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْيِهِ وَحْدَهُ وَمَعَ أَصْحَابِهِ]
كَانَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا (تكفَّأَ في مِشيته : تبختر)
وَكَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ مِشْيَةً وَأَحْسَنَهَا وَأَسْكَنَهَا ،
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : (مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ ، وَإِنَّا لَنُجْهِدَ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ )
وَقَالَ مَرَّةً ( إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ )
قُلْتُ : وَالتَّقَلُّعُ الِارْتِفَاعُ مِنَ الْأَرْضِ بِجُمْلَتِهِ كَحَالِ الْمُنْحَطِّ مِنَ الصَّبَبِ ،
وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعَزْمِ وَالْهِمَّةِ وَالشَّجَاعَةِ ، وَهِيَ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ وَأَرْوَاحُهَا لِلْأَعْضَاءِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ مِشْيَةِ الْهَوَجِ وَالْمَهَانَةِ وَالتَّمَاوُتِ ،
فَإِنَّ الْمَاشِيَ إِمَّا أَنْ يَتَمَاوَتَ فِي مَشْيِهِ وَيَمْشِيَ قِطْعَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ مَحْمُولَةٌ ، وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ قَبِيحَةٌ ،
وَإِمَّا أَنْ يَمْشِيَ بِانْزِعَاجٍ وَاضْطِرَابٍ مَشْيَ الْجَمَلِ الْأَهْوَجِ ، وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ أَيْضًا ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى خِفَّةِ عَقْلِ صَاحِبِهَا ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ حَالَ مَشْيِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا ،
وَإِمَّا أَنْ يَمْشِيَ هَوْنًا ، وَهِيَ مِشْيَةُ عِبَادِ الرَّحْمَنِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهَا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ) [الْفُرْقَانِ : 63]
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ : بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ وَلَا تَمَاوُتٍ ، وَهِيَ مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
فَإِنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْمِشْيَةِ كَانَ كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ ، وَكَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ ، حَتَّى كَانَ الْمَاشِي مَعَهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَنَّ مِشْيَتَهُ لَمْ تَكُنْ مِشْيَةً بِتَمَاوُتٍ وَلَا بِمَهَانَةٍ ، بَلْ مِشْيَةٌ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ .
وَالْمِشْيَاتُ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ : هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْهَا ،
وَالرَّابِعُ : السَّعْيُ ،
وَالْخَامِسُ : الرَّمَلُ ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَيُسَمَّى : الْخَبَبَ ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ( خَبَّ فِي طَوَافِهِ ثَلَاثًا وَمَشَى [ ص: 162 ] أَرْبَعًا ) .
السَّادِسُ : النَّسَلَانُ ، وَهُوَ الْعَدْوُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يُزْعِجُ الْمَاشِيَ وَلَا يُكْرِثُهُ . وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ أَنَّ الْمُشَاةَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمَشْيِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ : ( اسْتَعِينُوا بِالنَّسَلَانِ ) .
وَالسَّابِعُ : الْخَوْزَلَى ، وَهِيَ مِشْيَةُ التَّمَايُلِ ، وَهِيَ مِشْيَةٌ يُقَالُ : إِنَّ فِيهَا تَكَسُّرًا وَتَخَنُّثًا .
وَالثَّامِنُ : الْقَهْقَرَى ، وَهِيَ الْمِشْيَةُ إِلَى وَرَاءٍ .
وَالتَّاسِعُ : الْجَمَزَى ، وَهِيَ مِشْيَةٌ يَثِبُ فِيهَا الْمَاشِي وَثْبًا .
وَالْعَاشِرُ : مِشْيَةُ التَّبَخْتُرِ ، وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرِ ، وَهِيَ الَّتِي خَسَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِصَاحِبِهَا لَمَّا نَظَرَ فِي عِطْفَيْهِ وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَأَعْدَلُ هَذِهِ الْمِشْيَاتِ مِشْيَةُ الْهَوْنِ وَالتَّكَفُّؤِ .
وَأَمَّا مَشْيُهُ ﷺ مَعَ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ خَلْفَهُمْ وَيَقُولُ: ( دَعُوا ظَهْرِي لِلْمَلَائِكَةِ )
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : وَكَانَ يَسُوقُ أَصْحَابَهُ . وَكَانَ يَمْشِي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا ، وَكَانَ يُمَاشِي أَصْحَابَهُ فُرَادَى وَجَمَاعَةً ،
وَمَشَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ مَرَّةً فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ وَسَالَ مِنْهَا الدَّمُ فَقَالَ :
هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيَتَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتَ
وَكَانَ فِي السَّفَرِ سَاقَةُ أَصْحَابُهُ يُزْجِي الضَّعِيفَ وَيُرْدِفُهُ وَيَدْعُو لَهُمْ ، ذَكَرَهُ أبو داود . اهـ
فاللهم صلي وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
|