عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-28-2012, 12:37 PM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي

الوقفة الثالثة / عن أدلة استحباب الدعاء بعد الانتهاء من صلاة الفريضة.

إن سبب ذهاب العلماء - رحمهم الله تعالى - إلى استحباب الدعاء عقب الانتهاء من صلاة الفريضة هو: ثبوت الدعاء في هذا الموضع عن سيّد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه البررة الأخيار -رضي الله عنهم -.
وقد أشار إلى هذا جمع من أهل العلم، ومنهم:
أولاً: العلامة أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي الشافعي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "المجموع"(3/ 465): ويستحب أن يدعو أيضاً بعد السلام بالاتفاق، وجاءت في هذه المواضع أحاديث كثيرة صحيحة في الذكر والدعاء قد جمعتها في كتاب "الأذكار".اهـ
ثانياً: العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي -رحمه الله -.
إذ قال في "الفتاوى"(ص:127-128): فإن الذي يجب الاقتداء به سيد المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم-، والذي ثبت عنه من العمل بعد الصلوات إما ذكر مجرد لا دعاء فيه، كقوله: (( اللهم لا مانع لما أعطيت )) وأشباه ذلك، وإما دعاء يخص به نفسه، كقوله: (( اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت )) وأشباهه.اهـ
ثالثاً: العلامة محمد بن الأمير الصنعاني - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "سبل السلام شرح بلوغ المرام"(ص:980-981عند رقم:1465): وقد وردت أحاديث في الدعاء بعد الصلاة معروفة.اهـ
رابعاً: الشيخ محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري الهندي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي"(2/ 169 رقم:297-299): لا ريب في ثبوت الدعاء بعد الانصراف من الصلاة المكتوبة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولاً وفعلاً.اهـ
خامساً: العلامة محمد علي آدم الإتيوبي - سلمه الله -.
إذ قال في كتابه "شرح سنن النسائي"(15/ 382 رقم:1347): اعلم أنه عقد المصنف -رحمه الله تعالى - أبواباً كثيرة لبيان الأحاديث التي تدل على مشروعية الدعاء دبر الصلاة، وأورد فيها أحاديث كثيرة مشتملة على دعوات كثيرة تقرأ عقب الصلاة.اهـ
وقال أيضاً (15/ 385 رقم:1347): قد تلخص مما ذكر من الأدلة أن الدعاء عقب الصلاة ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قولاً وفعلاً، فلا يسع أحداً إنكاره.اهـ
وقال أيضاً: فإذا ثبتت الأحاديث بذلك، وعمل بها أهل العلم أو بعضهم فلا وجه للإنكار.اهـ
سادساً: الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله -.
إذ قال كما في "فتاوى نور على الدرب"(9/ 180): والإنسان إذا أحب أن يدعو، يدعو بينه وبين نفسه، من دون رفع اليدين، ومن دون الاجتماع مع الإمام، بل كما جاءت به الأحاديث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعا بعد السلام بالذكر المعروف عنه - عليه الصلاة والسلام -.اهـ
وقال أيضاً (9/166): الدعاء بعد الصلاة لا يكره بل مستحب، كونه يدعو بينه وبين ربه في آخر الصلاة، وبعد الصلاة بعد الذكر، كل هذا جاء في الأحاديث عن النبي - عليه الصلاة والسلام -.اهـ
والأدلة الواردة في هذا الدعاء على نوعين:
النوع الأول: الأحاديث الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ودونكم ما وقفت على ثبوته منها:
أولاً: ما أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"(591) من طريق الوليد عن الأوزاعي عن أبي عمار عن أبي أسماء عن ثوبان - رضي الله عنه - أنه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًاً )).
قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: يقول: أستغفرُ الله، أستغفرُ الله، أستغفرُ الله.اهـ
قال الإمام محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - كما في "مجموع فتاوى ورسائل فضيلته"(13/ 266-267): وأما الدعاء أدبار الصلوات المكتوبة ففيه الاستغفار، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً. والاستغفار: طلب المغفرة، وهو دعاء، لكن ظاهر السنة فيه عدم الرفع.اهـ
ثانياً: ما أخرجه الإمام أحمد (22119و22126) والبخاري في "الأدب المفرد"(690) واللفظ له، وأبو داود (1522) والنسائي (1303) وابن خزيمة (751) والحاكم (1010 و 5194 ) وابن حبان (2021) عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: (( أَخَذَ بِيَدِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ، قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ، قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهَا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاتِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ )).
وقد صححه: ابن خزيمة والحاكم وابن حبان والنووي والذهبي وابن حجر العسقلاني وابن الخطيب الشربيني وابن باز والألباني والوادعي ومحمد علي آدم الإتيوبي.
وقال الهيثمي -رحمه الله -: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير موسى بن طارق وهو ثقة.اهـ
وقال عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله -: سنده جيد.اهـ
ثالثاً: ما أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"(709) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: (( كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ أَوْ تَجْمَعُ عِبَادَكَ )).
رابعاً: ما أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه"(2822) عن عمرو بن ميمون الأَوْدِيِّ أنه قال: (( كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ المُعَلِّمُ الغِلْمَانَ الكِتَابَةَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ )).
خامساً: ما أخرجه الإمام أحمد (20409و20447) والنسائي (5465و 1347) واللفظ له، وابن خزيمة (747) والحاكم (927 ) عن مسلم بن أبي بكرة أنه قال: (( كَانَ أَبِي يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، فَكُنْتُ أَقُولُهُنَّ، فَقَالَ أَبِي: أَيْ بُنَيَّ، عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا؟ قُلْتُ عَنْكَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كَانَ يَقُولُهُنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ )).
وقد صححه: ابن خزيمة والحاكم وابن حبان والذهبي والألباني ومحمد علي آدم.
وحسنه: ابن حجر العسقلاني.
سادساً: ما أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"(771-201) من طريق يوسف المَاجِشُون حدثني أَبِي عن عبد الرحمن الأعرجِ عن عبيد الله بن أبي رافعٍ عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ )).
وأخرجه مسلم (771-202) أيضاً من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عمه المَاجِشُون بن أبي سلمة عن الأعرجِ عن عبيد الله بن أبي رافعٍ عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بلفظ: ((وَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ )) إلى آخر الحديث، ولم يقل بين التشهد والتسليم. انتهى كلام الإمام مسلم.
وأخرجه أبو داود (1509) وغيره بلفظ: (( كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ )).
وصححه: ابن خزيمة وابن حبان والنووي وشُهْدة الإبري الكاتبة، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم.اهـ
وقال الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - في كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد"(2/ 287-288): وذكر أبو داود عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -: (( أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت )).
هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه - عليه الصلاة والسلام - وما كان يقوله في ركوعه وسجوده.
ولمسلم فيه لفظان:
أحدهما: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوله بين التشهد والتسليم.
وهذا هو الصواب.
والثاني: كان يقوله بعد السلام. ولعله كان يقوله في الموضعين، والله أعلم.اهـ
وقال العلامة أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي -رحمه الله - في كتابه "المجموع"(3/ 465):
ولا منافاة بين الروايتين فهما صحيحتان، وكان يقول الدعاء في الموضعين، والله أعلم.اهـ
وقال الإمام محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في كتابه"صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" (3/ 1021-1022- الأصل):
قال الحافظ: " ويُجمع بينهما بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج الطريقين واحد، وأورده ابن حبان في "صحيحه" بلفظ: (( كان إذا فرغ من الصلاة وسلم ... )) وهذا ظاهر في أنه بعد السلام. ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده ".
قلت: وهذا الاحتمال لا بد من المصير اليه، وإلا فإحدى الروايتين خطأ من بعض الرواة، أو رواية بالمعنى، والرواية التي عند ابن حبان قد أخرجها قبله أحمد في "المسند"(1/102) بإسناد صحيح، والله أعلم.اهـ
النوع الثاني: الآثار الواردة عن الصحابة - رضي الله عنهم -.
ودونكم ما وقفت عليه منها:
أولاً: ما أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة - رحمه الله - في "مصنفه"(3033) فقال:
حدثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة قال: (( كَانَ أَبُو مُوسَى إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي )). وإسناده حسن.
وقال أيضاً (29255): حدثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبي موسى أنه كان يقول إذا فرغ من صلاته: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي )).
وإسناده حسن.
ثانياً: ما أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة - رحمه الله - في "مصنفه"(29268) فقال: حدثنا عبيدة بن حميد عن الرُّكين بن الربيع عن أبيه قال: (( كَانَ عُمَرُ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْتَهْدِيكَ لِأَرْشَدِ أَمْرِي، وَأَتُوبُ إِلَيْكَ فَتُبْ عَلَيَّ، اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي فَاجْعَلْ رَغْبَتِي إِلَيْكَ، وَاجْعَلْ غِنَائِي فِي صَدْرِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقَتْنِي، وَتَقَبَّلْ مِنِّي، إِنَّكَ أَنْتَ رَبِّي )). وإسناده حسن إلى الربيع بن عُميلة الفزاري.
ولكن لم أجد من ذكر روايته عن عمر، وقد روى عن علي بن أبي طالب وحذيفة بن أسيد الغفاري وسمرة بن جندب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.
وقال الإمام البخاري -رحمه الله- في كتابه "التاريخ الكبير"(3/270رقم:922): ربيع بن عميلة الفزاري الكوفي، سمع ابن مسعود وكان فِي أهل الردة زمان خالد بن الوليد.اهـ
وابنه الرُّكين قد روى عن بعض الصحابة كأبي الطفيل عامر بن واثلة و عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب.
ثالثاً: ما أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة - رحمه الله - في "مصنفه"(29257) فقال: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمْرة عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول:
(( اللَّهُمَّ تَمَّ نُورُكَ فَهَدَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، وَعَظُمَ حِلْمُكَ فَعَفَوْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، وَبَسَطْتَ يَدَكَ فَأَعْطَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، رَبََّنَا وَجْهُكَ أَكْرَمُ الْوُجُوهِ، وَجَاهُكَ خَيْرُ الْجَاهِ، وَعَطِيَّتُكَ أَفْضَلُ الْعَطِيَّةِ وَأَهْنَؤُهَا، تُطَاعُ رَبَّنَا فَتَشْكُرُ، وَتُعْصَى رَبَّنَا فَتَغْفِرُ، تُجِيبُ الْمُضْطَرَّ، وَتَكْشِفُ الضُّرَّ، وَتَشْفِي السَّقِيمَ، وَتُنْجِي مِنَ الْكَرْبِ، وَتَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَتَغْفِرُ الذَّنْبَ لِمَنْ شِئْتَ، لَا يُجْزِئُ آلَاءَكَ أَحَدٌ، وَلَا يُحْصِي نَعْمَاءَكَ قَوْلُ قَائِلٍ )) يَعْنِي: يَقُولُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.اهـ وإسناده حسن أو صحيح.
وأخرجه الطبراني - رحمه الله - في كتاب "الدعاء"(2/ 1068 رقم:734) فقال: حدثنا عثمان بن عمر الضَّبِّي ثنا عبد الله بن رجاء أنبأ إسرائيل ح وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا أحمد بن يونس ثنا زهير بن معاوية ح وحدثنا أبو خليفة ثنا الوليد الطيالسي ثنا شعبة كلهم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمْرة عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول دبر الصلاة: (( تَمَّ نُورُكَ فَهَدَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، وَعَظُمَ حِلْمُكَ فَعَفَوْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، وَبَسَطْتَ يَدَكَ فَأَعْطَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، رَبَّنَا وَجْهُكَ أَكْرَمُ الْوُجُوهِ، وِجَاهُكَ خَيْرَ الْجَاهِ وَعَطِيَّتُكَ أَنْفَعُ الْعَطَايَا، تُطَاعُ رَبَّنَا فَتُشْكَرُ وَتُعْصَى رَبَّنَا فَتَغْفِرُ، تُجِيبُ الْمُضْطَرَّ وَتَكْشِفُ الضُّرَّ، وَتَشْفِي السَّقِيمَ، وَتُنْجِي مِنَ الْكَرْبِ، لَا يُجْزِي بِآلَائِكَ أَحَدٌ، وَلَا يُحْصِي نِعَمَكَ قَوْلُ قَائِلٍ )).

الوقفة الرابعة / عن الإجابة عن قول من ذهب إلى أن الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم محلها قبل السلام لا بعده.

مال الإمام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي -رحمه الله - إلى عدم مشروعية الدعاء بعد الانتهاء من صلاة الفريضة، وحمل الأدعية الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك على ما بعد التشهد وقبل السلام، لأنها جاءت بلفظ: (( دُبر الصلاة )).
ودُبر الشيء منه، كالحيوان فدبره منه.
ويقوي ذلك عنده أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء قبل السلام، فقد أخرج الإمام البخاري في "صحيحه"(835 ) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (( كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ، قُلْنَا: السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ تَقُولُوا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو )).
وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه"(588) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (( إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ )). وكذلك كون الدعاء في الصلاة ألصق بباب المناجاة من الدعاء بعد السلام.
فقال - رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى"(22/ 499): وأما لفظ دبر الصلاة فقد يراد به آخر جزء منه، وقد يراد به ما يلي آخر جزء منه، كما في دبر الإنسان فإنه آخر جزء منه، ومثله لفظ العقب، قد يراد به الجزء المؤخر من الشيء كعقب الإنسان، وقد يراد به ما يلي ذلك فالدعاء المذكور في دبر الصلاة: إما أن يراد به آخر جزء منها ليوافق بقية الأحاديث، أو يراد به ما يلي آخرها، ويكون ذلك ما بعد التشهد كما سمي ذلك قضاء للصلاة وفراغاً منها حيث لم يبق إلا السلام المنافي للصلاة، بحيث لو فعله عمداً في الصلاة بطلت صلاته، ولا تبطل سائر الأذكار المشروعة في الصلاة.
أو يكون مطلقاً أو مجملاً.
وبكل حال فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك، ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة.اهـ
وقال أيضاً (22/ 519): بل إنما كان دعاؤه في صلب الصلاة، فإن المصلي يناجي ربه، فإذا دعا حال مناجاته له كان مناسباً، وأما الدعاء بعد انصرافه من مناجاته وخطابه فغير مناسب، وإنما المسنون عقب الصلاة هو الذكر المأثور عن النبي -صلى الله عليه و سلم- من التهليل والتحميد والتكبير.اهـ
وقال أيضاً (22/ 513): ولو دعا الإمام والمأموم أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعد هذا مخالفاً للسنة كالذي يداوم على ذلك، والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام، ويأمر بذلك، كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضع.اهـ
وقال أيضاً (22/517-518): ومنهم: من استحبه إدبار الصلوات كلها، وقال: لا يجهر به إلا إذا قصد التعليم، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم، وليس معهم في ذلك سنة إلا مجرد كون الدعاء مشروعاً، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة، وهذا الذي ذكروه قد اعتبره الشارع في صلب الصلاة، فالدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء في آخرها واجب، وأوجبوا الدعاء الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- آخر الصلاة بقوله: (( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال )) رواه مسلم وغيره.
وكان طاووس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة، وهو قول بعض أصحاب أحمد، وكذلك في حديث ابن مسعود: (( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه )) وفي حديث عائشة وغيرها أنه كان يدعو في هذا الموطن، والأحاديث بذلك كثيرة.
والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة فإن المصلي يناجي ربه فما دام في الصلاة لم ينصرف فإنه يناجي ربه، فالدعاء حينئذ مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله لم يكن موطن مناجاة له ودعاء، وإنما هو موطن ذكر له وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه في الصلاة، أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى.اهـ
وقال الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله - في كتابه "زاد المعاد"(1/295): ودُبُر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا - يعني به: ابن تيمية - يرجِّح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه، كدبر الحيوان.اهـ
وقال أيضاً (1/249-250): وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة، و زال ذلك الموقف بين يديه، والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه ثم يسأله إذا انصرف عنه؟.
ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي، إلا أن هاهنا نكتة لطيفة وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة استحب له أن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استحب له الدعاء عقيب ذلك، كما في حديث فضالة بن عبيد: (( إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ليدع بما شاء )) قال الترمذي: حديث صحيح.اهـ
وقد أجيب عن هذا الكلام أو الاستدلال بعدة أمور:
الأول: ما أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله - في "صحيحه"(709) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: (( كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ أَوْ تَجْمَعُ عِبَادَكَ )).
وهو صريح في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بعد السلام من صلاته، وأن ما بعد السلام من مواطن دعاء الله - عز وجل - كقبله.
الثاني: ما أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة -رحمه الله- في "مصنفه"(3033) فقال:
حدثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة قال: (( كَانَ أَبُو مُوسَى إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي )). وإسناده حسن.
وقال أيضاً (29255): حدثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبي موسى أنه كان يقول إذا فرغ من صلاته: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي )).
وإسناده حسن. وهما صريحان في أن أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - كان يدعو بعد الفراغ من صلاته، وأن ما بعد السلام من مواطن دعاء الله - عز وجل - كقبله.
الثالث: ما أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة -رحمه الله - في "مصنفه"(29268) فقال:حدثنا عبيدة بن حميد عن الرُّكين بن الربيع عن أبيه قال: (( كَانَ عُمَرُ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْتَهْدِيكَ لِأَرْشَدِ أَمْرِي، وَأَتُوبُ إِلَيْكَ فَتُبْ عَلَيَّ، اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي فَاجْعَلْ رَغْبَتِي إِلَيْكَ، وَاجْعَلْ غِنَائِي فِي صَدْرِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقَتْنِي، وَتَقَبَّلْ مِنِّي، إِنَّكَ أَنْتَ رَبِّي )). وإسناده حسن إلى الربيع بن عُميلة الفزاري.
وهو صريح في أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يدعو بعد الانصراف من صلاته، وأن ما بعد السلام من مواطن دعاء الله - عز وجل - كقبله.
الرابع: ما أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة - رحمه الله - في "مصنفه"(29257) فقال:
حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أنه كان يقول: (( اللَّهُمَّ تَمَّ نُورُكَ فَهَدَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، وَعَظُمَ حِلْمُكَ فَعَفَوْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، وَبَسَطْتَ يَدَكَ فَأَعْطَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ، رَبَّنَا وَجْهُكَ أَكْرَمُ الْوُجُوهِ، وَجَاهُكَ خَيْرُ الْجَاهِ، وَعَطِيَّتُكَ أَفْضَلُ الْعَطِيَّةِ وَأَهْنَؤُهَا، تُطَاعُ رَبَّنَا فَتَشْكُرُ، وَتُعْصَى رَبَّنَا فَتَغْفِرُ، تُجِيبُ الْمُضْطَرَّ، وَتَكْشِفُ الضُّرَّ، وَتَشْفِي السَّقِيمَ، وَتُنْجِي مِنَ الْكَرْبِ، وَتَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَتَغْفِرُ الذَّنْبَ لِمَنْ شِئْتَ، لَا يُجْزِئُ آلَاءَكَ أَحَدٌ، وَلَا يُحْصِي نَعْمَاءَكَ قَوْلُ قَائِلٍ )) يعني: يقول بعد الصلاة.اهـ وإسناده حسن أو صحيح. وقد تقدم ذكر بعض من تابع سفيان على روايته عن أبي إسحاق، وأن منهم: شعبة بن الحجاج. وهو صريح في أن ما بعد السلام من مواطن دعاء الله - عز وجل - كقبله.
الخامس: أن جملة من الأذكار التي تقال بعد السلام قد جاءت في الأحاديث الثابتة بلفظ: (( دُبر كل صلاة )).
ومن أمثلتها:
1- التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين.
2- قراءة المعوذات.
3- قراءة آية الكرسي.
4- قول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، لا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ". وقد حملها العلماء جميعاً على ما بعد السلام، فتعامل الأدعية التي جاء فيها: (( دبر كل صلاة )) نفس معاملتها، حتى يخرجها دليل صحيح صريح.
كيف والدعاء بعد الانصراف من الصلاة قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، كما في حديث البراء بن عازب، وأثر أبي موسى الأشعري، وأثر عمر بن الخطاب، وأثر علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم -.
وفي تقرير هذا يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي - رحمه الله - في كتابه "فتح الباري"(11/ 137-138رقم:6329و6330):
فإن قِيل: المراد بدُبُر كل صلاة قُرب آخرها، وهو التشهد.
قُلنا: قد ورد الأمر بالذكر دُبُر كل صلاة، والمراد به بعد السلام إجماعاً، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه.اهـ
وقال العلامة صديق حسن القَنوجي البخاري الهندي - رحمه الله - في رسالة له طبعت في كتابه "دليل الطالب على أرجح المطالب"(ص:525-526) بعنوان: " الفاكهة العريضة في جواز رفع اليدين عند الدعاء بعد الفريضة ": لكن فيه نظر، لأن لفظ "الدبر" كما يطلق على ما يكون من جنس المضاف، كما في قوله تعالى: { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ }، هكذا يطلق على ما لا يكون من جنس المضاف، نحو قوله تعالى: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } أي: آخر الليل عقب غروبها، ومثل عتق التدبير.
فهذا اللفظ مشترك بين كلا الإطلاقين، وعندما لا يصح حمل اللفظ المشترك على معنى أو معنيين بدون دليل، فسبيل التحكيم هنا الرجوع إلى الاستعمال الشرعي.
وبيانه أنه جاء في البخاري: (( تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين )).
والمراد بالخلف هنا دبر الصلاة، وهو عقب الخروج منها، وهذا دليل على أن المراد بالدبر خلف الصلاة يعني: عقبها.
ويزيده بياناً حديث أبي داود بلفظ: (( يعني إثر كل صلاة )) أي: بعده.
ويزيده بياناً حديث: (( من سبح دبر صلاة الغداة مائة تسبيحة، وهلل مائة تهليلة، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر )).
والمراد بالدبر هنا عقب الصلاة بعد الخروج بالتسليم.
ويزيده بياناً حديث أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (( من قال دبر الصلاة وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلى الله وحده لا شريك له )) إلخ، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.وهذا نص في محل النزاع، لأنه لو كان المراد بدبر الصلاة هنا قبل السلام لم يبق لقيد: (( وهو ثان رجليه ))، وقيد: (( قبل أن يتكلم )) أيُّ فائدة، فثبت الدعاء بعد الفريضة، وانتهى تخصيص الحافظ ابن القيم بـ"قبل الصلاة.اهـ
وقال العلامة محمد علي آدم الإتيوبي - سلمه الله - في "شرح سنن النسائي"(15/385 رقم:1347):
وأما تأويل قوله: (( دبر الصلاة )) بأنه قبل السلام، لأن دبر الحيوان منه، فغير مُسَلَّم، لأنه -صلى الله عليه وسلم- علمهم الأذكار والدعوات، وأمرهم أن يجعلوها دبر كل صلاة، فلا يصح حمل بعضها على ما قبل السلام كالدعوات، وبعضها على بعده كالتسبيح وقراء آية الكرسي، إذ لا دليل على التفريق، ولا سيما وبعضها فيه التصريح بأنه بعد السلام.اهـ
السادس: أن ُعامة أهل العلم من فقهاء ومحدثين قد حملوا لفظ: (( دبر كل الصلاة )) في هذه الأدعية على ما بعد التسليم لا ما قبله، ولا ريب أن فهمهم وفقههم أولى بالقبول والتقديم والعمل.
ويؤكد ذلك أمران:
أحدهما: استحبابهم للدعاء بعد الانتهاء من صلاة الفريضة، واستدلال كثير منهم بهذه الأحاديث أو بعضها عند تقرير هذا الحكم.
وقد قال فقيه الشافعية أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي - رحمه الله - في كتابه "المجموع"(3/ 465):
ويستحب أن يدعو أيضاً بعد السلام بالاتفاق، وجاءت في هذه المواضع أحاديث كثيرة صحيحة في الذكر والدعاء قد جمعتها في كتاب "الأذكار"، منها: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - ...اهـ
وقال الحافظ ابن رجب البغدادي الحنبلي - رحمه الله - في كتابه "فتح الباري"(5/ 254): واستحب أيضاً أصحابنا وأصحاب الشافعي الدعاء عقب الصلوات، وذكره بعض الشافعية اتفاقاً.اهـ
وقال العلامة عبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي - رحمه الله - في كتابه "الإحكام شرح أصول الأحكام"(1/ 241):
فصل في الذكر بعدها أي: في الدعاء والذكر المشروع بعد الصلاة، وقد أجمع العلماء على استحبابه بعدها.اهـ
وقال العلامة السلفي الشهير سليمان بن سحمان - رحمه الله - كما في "الدرر السنية في الأجوبة النجدية"(4/ 317): وأما الدعاء بعد المكتوبة، فإن كان بالألفاظ الواردة في الأحاديث الصحيحة من الأذكار، من غير رفع اليدين، كما ورد في "الصحيحين" وغيرهما من الكتب، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يمنعه، ولا أحد من أتباعه، ولا أحد من أهل الحديث.اهـ
والثاني: تبويبات أئمة الحديث على هذه الأحاديث أو بعضها أو نحوها بالدعاء بعد السلام.
كما فعل الإمام البخاري وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان - رحمهم الله - وغيرهم.
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .

التعديل الأخير تم بواسطة بلال الجيجلي ; 08-28-2012 الساعة 01:39 PM
رد مع اقتباس