عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-12-2010, 03:54 PM
أبو الحسين الحسيني أبو الحسين الحسيني غير متواجد حالياً
طالب علم - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Oct 2010
المشاركات: 154
شكراً: 1
تم شكره 5 مرة في 4 مشاركة
افتراضي المخالفة والتعليل في الحديث الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
أما بعد:
فلا يخفى على أحد ما لعلم الحديث من أهمية عظيمة ومكانة مرموقة ومنزلة شريفة من بين العلوم الأخرى؛ فإن شرف العلم من شرف المعلوم ؛ كيف لا وهو المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم؛ بل القرآن الكريم بحاجة للحديث فهو المبين له والشارح؛ وقد يكون مخصصا ومقيدا وناسخا لعموماته وإطلاقاته ومحكماته؛ وقد يستقل بحكم ما عنه. والله جل وعلا قد تكفل بحفظ كتابه من التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وكذلك سلّم كتابه من خطأ الكُتّاب والنسّاخ . غير أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسلم من ذلك؛ فقد كان الوضّاعون على اختلاف مقاصدهم والكذابون والمتروكون والضعفاء بأصنافهم؛ فكان الخطأ في الحديث؛ سواء الخطأ بسبب الوضع أو الوهم أو غير ذلك ؛ فوجب على الصيارفة النقاد والجهابذة الأفذاذ التشمير عن ساعد الجد للذب عن كلم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فصنفوا المصنفات فمنها مختصة بالرجال الثقات أو الكذابين والضعفاء والمتروكين، ومنها ما هو أعم من ذلك، وبينوا في تراجمهم ما رووه من صحيح أو موضوع، أو ضعيف، كثقات ابن حبان والعجلي وكالمجروحين لابن حبان ، والعقيلي، والمغني في الضعفاء للذهبي، وكامل ابن عدي، وميزان الذهبي. ومنها مختصة بالأحاديث الموضوعة كالموضوعات لابن الجوزي، والمقاصد الحسنة للسخاوي؛ واللآلي المصنوعة للسيوطي؛ والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني وغيرها؛ فكان كما قال الشوكاني في مقدمة الفوائد1/3 : " كان تمييز الموضوع من الحديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم من أجلِّ الفنون وأعظم العلوم وأنبل الفوائد من جهات يكثر تعدادها". ولم يكن الأمر متوقفا عند الكذابين والمتروكين بل قد تعدى الأمر إلى المقبولين من الرواة ممن أتقن حفظه أو خفّ ضبطه. فقد يقع الخطأ والوهم من الصدوق والثبت؛ والخطأ والسهو والوهم لا يكاد يسلم منه أحد فإن الكمال المطلق ليس إلا لله؛ والمعصوم من عصمه الله تعالى وأن القصور صفة البشر؛ والخطأ في رِوَايَة الثقات أمرٌ وارد ، إِذْ لا يلزم من رِوَايَة الثقة أن تكون صواباً ، لكن الأصل فِيْهَا الصواب والخطأ طارئٌ محتمل ، فالراوي الثقة مهما بلغ أعلى مراتب الضبط والإتقان فالخطأ في روايته يبقى أمراً محتملاً وليس بعيداً، والخطأ في حَدِيْث الثقة لا يتمكن من مَعْرِفَته إلا الأئمة الجامعون ، وَقَدْ يطلع الجهبذ من أئمة الْحَدِيْث عَلَى حَدِيْث ما فيحكم عليه بخطأ راويه الثقة مع أن ظاهر الْحَدِيْث السلامة من هَذِهِ العلة القادحة ، لَكِن العالم الفهم لا يحكم بِذَلِكَ عن هوى بَلْ بما يترجح لديه أن أحد الرُّوَاة قَدْ أخطأ في هَذَا الْحَدِيْث ، وذلك للقرائن الَّتِيْ تحيط بالحديث ، ومثل هَذِهِ الْمَعْرِفَة لا تتضح لكل أحد ، بَلْ هِيَ لِمَنْ منحه الله فهماً دقيقاً واطلاعاً واسعاً وإدراكاً كبيراً ومعرفة بعلل الأسانيد ومتونها ومشكلاتها وغوامضها ، ومعرفة واسعة بطرق الْحَدِيْث ومخارجه ، وأحوال الرُّوَاة وصفاتهم. وما دام إدراك الخطأ في حَدِيْث الثقة أمراً خفياً لا يتمكن مِنْهُ كُلّ أحد ، ولا ينكشف لكل ناقد فإن بعضاً من أخطاء الثقات قَدْ ظن جَمَاعَة من القوم أنها صحيحة لظاهر ثقة رجالها واتصال إسنادها وظاهر خلوها من العلة. فكان للجهابذة طرق وقواعد للكشف عن الخطأ الحاصل في الحديث ومن هذه الطرق المخالَفة، كمخالفة الراوي الضعيف للثقة أو الثقة لغيره ممن هو أرجح أو غير ذلك، بل مدار التعليل للحديث هو الاختلاف كما صرح به الأئمة.
فما المخالفة وما الاختلاف.
الاختلاف : افتعال مصدر اختلف ، واختلف ضد اتفق ، ويقال : تخالف القوم واختلفوا ، إذا ذهب كُلّ واحد مِنْهُمْ إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.
قال أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المعروف بابن سيده في المخصص3/371: " تخالف الأمران ، واختلفا إذا لَمْ يتفقا وكل ما لَمْ يتساو فَقَدْ تخالف واختلف".
وقال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في مقاييس اللغة 2/213:" اختلف الناس في كَذَا، والناس خلفة أي مختلفون؛ لأن كُلّ واحد مِنْهُمْ ينحي قَوْل صاحبه، ويقيم نفسه مقام الَّذِيْ نحّاه" وقال أحمد ابن محمد بن علي المقري الفيومي في المصباح المنير1/179: خَالَفْتُهُ مخُاَلَفَةً وخِلافًا وتَخَالَفَ القوم اخْتَلَفُوا إذا ذهب كلّ واحد إلى خِلافِ ما ذهب إليه الآخر وهو ضدّ الاتفاق". ومنه ما رواه مسلم في صحيحه ج1/ص323 والنسائي في الكبرى1/286 وأبو داود1/178:" ولا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ". قال ابن منظور في لسان العرب9/82:" أي: إذا تقدّم بعضُهم عَلَى بَعضٍ في الصُّفُوفِ تأثرت قُلوبُهم ، ونشأَ بينهم اختلافٌ في الأُلْفَةِ والموَدَّةِ؛ والخِلافُ فهو المُضَادّةُ،وَقَدْ خالَفَهُ مُخالَفَةً وخِلافاً ويقال خلَف فلان بعَقبِي إذا فارقه على أَمر فصنع شيئاً آخر".
والخِلافُ : المُخَالَفَةُ ، قَالَ تَعَالَى: { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ } أي : مُخُالَفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ قال الطبري في تفسيره ج10/ص200: " فرح الذين خلفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه بمقعدهم خلاف رسول الله؛ يقول بجلوسهم في منازلهم خلاف رسول الله؛ يقول على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء الله فخالفوا أمره وجلسوا في منازلهم. وقوله خلاف مصدر من قول القائل خالف فلان فلانا فهو يخالفه خلافا فلذلك جاء مصدره على تقدير فعال كما يقال قاتله فهو يقاتله قتالا ولو كان مصدرا من خلفه لكانت القراءة بمقعدهم خلف رسول الله لأن مصدر خلفه خلف لا خلاف ولكنه على ما بينت من أنه مصدر خالف فقرئ خلاف رسول الله وهي القراءة التي عليها قراءة الأمصار وهي الصواب عندنا ". وقال القرطبي في تفسيره ج8/ص216: " والمخلّف المتروك أي خلفهم الله وثبطهم أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد قولان؛ وكان هذا في غزوة تبوك خلاف رسول الله مفعول من أجله وإن شئت كان مصدرا والخلاف المخالفة". قال البغوي في تفسيره ج2/ص315: "مخالفةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا".
قال الشوكاني في فتح القدير ج2/ص387: " المخلّفون: المتروكون وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين". وقال محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط ج5/ص80 : " ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير ولذلك جاء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وهي أمكن من لفظة المتخلفين إذ هم مفعول بهم ذلك ولم يفرح إلا منافق". وفي لسان العرب لابن منظور ج9/ص87 : "ويقرأ خلف رسولا أي مخالفة رسولا".
والاختلاف قسمان: منه ما هو مذموم ومنه ما هو ممدوح قال شيخ الإسلام في المجموع ج16/ص514:" الاختلاف في كتاب الله نوعان: أحدهما يذم فيه المختلفين كلهم كقوله (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) و قوله ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك). والثاني يمدح المؤمنين و يذم الكافرين كقوله ( و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر و لو شاء...)وإذا كان كذلك فالذي ذمه من تفرق أهل الكتاب و اختلافهم ذم فيه الجميع و نهى عن التشبه بهم فقال ( و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات؛ و قال ( و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) ".
والاختلاف من حيث الاتفاق والافتراق على نوعين اختلاف التضاد واختلاف التنوع؛ وفي هذا يقول شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم ( ص37): " أنواع الاختلاف فهي في الأصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد؛ واختلاف التنوع على وجوه منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الاختلاف وقال كلاكما محسن . ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح والتشهدات وصلاة الخوف وتكبيرات العيد وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما شرع جميعه وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل؛ ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم كاختلافهم على شفع الإقامة وإيثارها ونحو ذلك وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم؛ ومنه ما يكون كل من القولين هو في الواقع في معنى قول الآخر لكن العبارتان مختلفتان كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود والتعريفات وصيغ الأدلة والتعبير عن المسميات وتقسيم الأحكام وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم هو الذي يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى؛ ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان فهذا قول صحيح وذلك قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر وهذا كثير في المنازعات جدا. ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان ولكن قد سلك رجل أو قوم هذه الطريقة وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية .
وأما اختلاف التضاد فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون المصيب واحد وإلا فمن قال كل مجتهد مصيب فعنده هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد؛ فهذا الخطب فيه أشد لأن القولين يتنافيان لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما أو معه دليل يقتضي حقا ما فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة.
وهذا القسم الذي سميناه اختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل هذا إذا لم يحصل من أحداهما بغي كما في قوله ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وقد كان الصحابة في حصار بني النضير اختلفوا في قطع الأشجار والنخيل فقطع قوم وترك آخرون وكما في قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم. وكما في إقرار النبي صلى الله عليه و سلم يوم بني قريظة وقد كان أمر المنادي ينادي لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة من صلى العصر في وقتها ومن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة وكما في قوله صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد ولم يصب فله أجر ونظائره كثيرة وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة أقسام.
وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى تلك الرسل فضلنا وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا.
فقوله ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر حمد لإحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم للآخرين. وكذلك قوله هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحرث والذين بارزوهم من قريش وهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك .
وكذلك جعل الله مصدر الاختلاف البغي في قوله وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم لأن البغي مجاوزة الحد وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة. وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا ذلك بأن سبب هلاك الأولين .
لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء كما يقال اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه. والاختلاف الأول مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف على الأنبياء هو الاختلاف فيما بينهم فإن اللفظ يحتمله . ثم الاختلاف كله قد يكون في التنزيل والحروف كما في حديث ابن مسعود وقد يكون في التأويل كما يحتمله حديث عبد الله بن عمرو فإن حديث عمرو بن شعيب يدل على ذلك إن كانت هذه القصة قال أحمد في المسند حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه و سلم فقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا وقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان فقال أبهذا أمرتم أو بهذا بعثتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به والذي نهيتكم عنه فانتهوا عنه".
وقال في منهاج السنة6/73:" الخلاف نوعان خلاف تضاد وخلاف تنوع فالأول مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر والنوع الثاني مثل القراءات التي يجوز كل منها وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة".
وغالبا ما يؤدي الاختلاف إلى الاقتتال كما قال السعدي في تفسيره ج1/ص109 : "فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة".

وأما اختلاف المحدثين فهو ما اختلف الرُّوَاة فِيْهِ سنداً أو متناً .
فالاختلاف عَلَى قسمين :
الأول : اختلاف الرُّوَاة في السند : وَهُوَ أن يختلف الرُّوَاة في سند ما زيادة أو نقصاناً ، بحذف راوٍ ، أو إضافته ، أَوْ تغيير اسم ، أَوْ اختلاف بوصل وإرسال ، أَوْ اتصال وانقطاع، ، أو رفع ووقف.
الثاني : اختلاف الرُّوَاة في الْمَتْن : زيادة ونقصاناً.
قال الإمام مسلم في التمييز ج1/ص170 :"إن الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقل الحديث إذا هم اختلفوا فيه من جهتين أحدهما: أن ينقل الناقل حديثا بإسناد فينسب رجلا مشهورا بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته أو يسميه باسم سوى اسمه فيكون خطأ ذلك غير خفي على أهل العلم حين يرد عليهم أحدهما : أن ينقل الناقل حديثاً بإسناد فينسب رجلاً مشهوراً بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته الَّتِيْ هِيَ نسبته ، أو يسميه باسم سوى اسمه ، فيكون خطأ ذَلِكَ غَيْر خفيٍّ عَلَى أهل العلم حين يرد عليهم.
والجهة الأخرى : أن يروي نفر من حفّاظ الناس حديثاً عَنْ مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد مجتمعون عَلَى روايته في الإسناد والمتن ، لا يختلفون فِيْهِ في معنى ، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عَنْهُ النفر الَّذِيْنَ وصفناهم بعينه فيخالفهم في الإسناد أو يقلب الْمَتْن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ ، فيعلم حينئذٍ أنَّ الصَّحِيْح من الروايتين ما حدّث الجماعة من الحفاظ ، دون الواحد المنفرد وإن كَانَ حافظاً ، عَلَى هَذَا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الْحَدِيْث ، مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن ابن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم".
وقال ابن حجر في النكت1/405:" تنبيه: فسر القاضي أبو بكر بن العربي مخرج الحديث بأن يكون من رواية راو قد اشتهر برواية حديث أهل بلده، كقتادة في البصريين، وأبي إسحاق السبيعي في الكوفيين، وعطاء في المكيين وأمثالهم. فإن حديث البصريين مثلا إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفا، وإذا جاء عن غير قتادة ونحوه كان شاذا - والله أعلم –".
ويقع الاختلاف بين الرواة في أمور كثيرة غير محصورة فيها ما يؤثر في القبول وفيها ما لا يؤثر فيه ، كاختلافهم في العبارات والألفاظ بحيث لا يغير المعنى المقصود وكذا في التقديم والتأخير، وصيغ التلقي مثل حدثنا وأخبرنا ونحوهما .
ومن الاختلاف في صيغ التلقي يؤثر أحياناً في الصحة والقبول ، كالاختلاف في التصريح بالسماع بالنسبة إلى رواية من وصف بالتدليس أو الإرسال . وأما الاختلاف المؤثر فتارة يكون في السند وتارة يكون في المتن ، فالذي في السند يتنوع أنواعاً: تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف مع الرفع ، وتعارض الاتصال والانقطاع، وتعارض في زيادة رجل في أحد الإسنادين ، وتعارض في اسم الراوي أو صفته أو طبقته.
غير أن بعض الأئمة يفرق بين الوصل والإرسال وبين الرفع والوقف.
قال ابن حجر في النكت 2/695: " ونقل الحافظ العلائي عن شيخه ابن الزملكاني أنه فرق بين مسألتي تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف بأن الوصل في السند زيادة من الثقة فتقبل وليس الرفع زيادة في المتن فتكون علة؛ وتقرير ذلك أن المتن إنما هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان من قول صحابي فليس بمرفوع فصار منافيا له لأن دونه من قول الصحابي مناف لكونه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما الموصول و المرسل فكل منهما موافق للآخر في كونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ". وقال ابن الصلاح كما في النكت لابن حجر على ابن الصلاح ج2/ص745: " وكثيرا ما يعللون الموصول بالمرسل".
قال الحافظ ابن حجر في النكت على ابن الصلاح ج2/ص745 موجِهاً كلام ابن الصلاح:
" أقول ليس هذا من قبيل المعلول على اصطلاحه وإن كانت علة في الجملة إذ المعلول على اصطلاحه مقيد بالخفاء؛ والإرسال أو الانقطاع ليست علتها. وقد أفرط بعض المتأخرين فجعل الانقطاع قيدا في تعريف المعلول فقرأت في المقنع للشيخ سراج الدين ابن الملقن قال ذكر ابن حبيش في كتاب علوم الحديث أن المعلول أن يروي عمن لم يجمع به كمن تتقدم وفاته عن ميلاد من يروي عنه أو تختلف جهتهما كأن يروي الخراساني مثلا عن المغربي ولا ينقل أن أحدهما رحل عن بلده. قلت وهو تعريف ظاهر الفساد لأن هذا لا خفاء فيه وهو بتعريف مدرك السقوط في الإسناد أولى والله أعلم؛ ثم إن تعليلهم الموصول بالمرسل أو المنقطع والمرفوع بالموقوف أو المقطوع ليس على إطلاقه بل ذلك دائر على غلبة الظن بترجيح أحدهما على الأخر بالقرائن التي تحفه كما قررناه قبل والله الموفق". وقال ابن حجر أيضا في النكت2/604:" وما اختاره ابن سيد الناس سبقه إلى ذلك شيخه ابن دقيق العيد فقال في مقدمة شرح الإلمام: "من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند أو رافع وواقف أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد فلم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانونا مطردا وبمراجعة أحكامهم الجزئية ترى صواب ما نقول وبهذا جزم الحافظ العلائي فقال: "كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث".
ويقول الحافظ السخاوي فيفتح المغيث ج1/ص197: " ومن هنا يتبين أنه لا يحكم في تعارض الوصل والرفع مع الإرسال والوقف بشيء معين بل إن كان من أرسل أو وقف من الثقات أرجح قدم وكذا بالعكس".
والمخالفة من أسباب تعليل الحديث ، قال ابن جماعة في المنهل الروي ج1/ص52 : " النوع الرابع عشر المعلل: وهو ما فيه سبب قادح غامض مع أن ظاهره السلامة منه ويتمكن منه أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب ويتطرق ذلك إلى الإسناد الجامع لشروط الصحة ظاهرا ويدرك ذلك بتفرد الراوي وبمخالفة غيره وبما ينبه على وهم بإرسال أو وقف أو إدراج حديث في حديث أو غير ذلك مما يغلب على ظنه فيحكم بعدم صحته أو يتردد فيتوقف وطريق معرفته جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم وقد كثر تعليل الموصول بمرسل يكون راويه أكثر وأقوى ممن وصل والعلة إما في الإسناد وهو الأكثر أو في المتن والتي في الإسناد قد تقدح فيه وفي المتن أيضا كالإرسال والوقف أو تقدح في الإسناد وحده ويكون المتن معروفا صحيحا كحديث يعلى بن عبيد عن الثوري عن عمرو بن دينار البيعان بالخيار إنما هو عبد الله ابن دينار وغلط فيه يعلى وقد تكون العلة كذب الراوي أو غفلته وسوء حفظه وسمى الترمذي النسخ علة وأطلق بعضهم العلة على مخالفة لا تقدح كإرسال ما وصله الثقة الضابط حتى قال من الصحيح صحيح معلل كما قيل منه صحيح شاذ".
ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، وبجمع طرق الحديث المختلفة في سياق واحد، والنظر في كل راو من طبقات الإسناد هل تفرد أم خالف.
لهذا قال الأبناسي في الشذا الفياح ج1/ص202: " ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم لغير ذلك بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه وكثيرا ما يعللون الموصول بالمرسل مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول ويجيء أيضا بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جميع طرقه؛ وعلة الحديث أن يجمع بين طرقه؛ قال الخطيب أبو بكر: السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط وروي عن علي بن المديني قال: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه.
ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث وهو الأكثر وقد تقع في متنه ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعا كما في التعليل بالإرسال والوقف وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن ".
وقال الإمام مسلم في التمييز1/209: في باب (ذكر الأخبار التي في إسنادها غلط من بعض ناقليها) : " فبجمع هذه الروايات ، ومقابلة بعضها ببعض يتميز صحيحها من سقيمها، ويتبين رواة ضعاف الأخبار من أضداد هم من الحفاظ ، ولذلك أضعف أهل المعرفة بالحديث عمر بن عبد الله بن أبي خثعم وأشباههم من نقلة الأخبار لروايتهم الأحاديث المستنكرة التي تخالف روايات الثقات المعروفين من الحفاظ" .
فيجب لأجل تمييز الرواية الصحيحة من المخالِفة لها أن تجمع الطرق وينظر فيها.
قال الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ج2/ص212 باب (كتب الطرق المختلفة): "عن عباس بن محمد الدوري يقول سمعت يحيى بن معين يقول لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه".
وقال ابن الصلاح في مقدمته ج1/ص91: " وروي عن علي بن المديني قال الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه " .والعلم بمعرفة الاختلافات التي تقع في المتون والأسانيد له أهمية كبيرة ؛ وللاختلافات أثر كبير في تمييز الْحَدِيْث الصَّحِيْح من السقيم؛ قال ابن حجر في النكت على ابن الصلاح ج2/ص711: " وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف". وعند جمع الطرق والأسانيد يمكن للمتبحر أن يميز صحيح الحديث من معلوله وذلك لكثرة اشتغاله بالحديث أولاً ولظهور نور كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا.
قال الباجي في التعديل والتجريح ج2/ص570 في ترجمة الربيع بن خثيم : " عن الربيع بن خثيم إن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار تعرفه وإن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل تنكره".
واختلاف الأسانيد والمتون هي حقيقة العلة، ومع بيان ومعرفة الطرق والأسانيد واختلاف الألفاظ تبقى العلة غامضة خفية إلا لمن آتاه الله تعالى حفظا وفطنة وفهما ومع ذلك يحتاج لمعرفتها مزيد غربلة وطويل دراسة ونظر مع الصبر واحتمال الأذى والتأني وعدم العجلة والتسرع في الحكم.
ثُمَّ إنّ عَلَى طالب الْحَدِيْث قَبْلَ أن يعلَّ حديثاً بالاختلاف أن يجمع طرق الْحَدِيْث ويستقصيها من المصنفات والجوامع والمسانيد والسنن والأجزاء ، ويسبر أحوال الرُّوَاة فينظر في اختلافهم وفي مقدار حفظهم ومكانتهم من الضبط والإتقان ، وعند ذَلِكَ وبعد النظر الشديد في القرائن والمرجحات والاستعانة بأقوال الأئمة نقاد الْحَدِيْث وحفاظ الأثر وإشاراتهم ؛ يقع في نفس الباحث الناقد أن الْحَدِيْث معلٌّ بالاختلاف ، كأن يَكُوْن الْحَدِيْث الموصول معلاً بالإرسالِ أَوْ الانقطاع أَوْ يَكُوْن المرفوع معلاً بالوقف أو أن هناك سقطاً بسبب التدليس ، أو يجد دخول حَدِيْث في آخر أو يجد وهم واهمٍ أو ما أشبه ذَلِكَ من العلل القادحة .
إنّ جهابذة الْحَدِيْث ونقاده وصيارفته وأفذاذه حثوا عَلَى مَعْرِفَة الاختلافات ورغبوا فيه، قال الحاكم في معرفة علوم الحديث ج1/ص60 : " قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم والناسخ والمنسوخ من الحديث لا يسمى عالما".
وقال صالح بن محمد بن نوح العمري في إيقاظ الهمم ج1/ص32: " عن يزيد بن زريع أنه قال سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالما وقال محمد بن عيسى سمعت هشام بن عبدالله الرازي يقول من لم يعرف اختلاف القراء فليس بقارئ ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه وعن سفيان بن عيينة قال سمعت أيوب السختياني يقول أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء قال وقال ابن عيينة العالم الذي يعطي كل حديث حقه وعن نعيم بن حماد أنه قال سمعت ابن عيينة يقول أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء قال الحرث بن يعقوب أن الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن وعرف مكائد الشيطان وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم قال سئل مالك قيل له لمن تجوز الفتوى قال لا تجوز الفتوى إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه قيل له اختلاف أهل الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يفتي ". ومن هَذَا العرض يتبين لنا أن الاختلافات الواقعة في الأسانيد والمتون الَّتِيْ تحيل الْحَدِيْث من حيز الصحة والقبول إلى دائرة الضعف والترك هو رأس علم العلل ودراسة الاختلافات الحديثية داخلة في دراسة علم علل الْحَدِيْث الَّذِيْ هُوَ علم برأسه يضاف إلى ذلك المعرفة التامة بحال الرجال.
وبسبب الاختلاف ألّف العلماء في ذلك المؤلفات منها: اختلاف الحديث للشافعي، واختلاف العلماء للمروزي، واختلاف الفقهاء للطبري؛ والمختلف والمؤتلفلمحمد بن طاهر بن علي بن القيسراني؛ تأويل مختلف الحديث للدينوري؛ ذكر من اختلف العلماء ونقاد الحديث فيه لعمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي المعروف بابن شاهين؛ التحقيق في أحاديث الخلاف لعبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي أبو الفرج؛ إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد لمحمد بن نصر المرتضى اليماني (ابن الوزير)؛اختلاف الأئمة العلماء للوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الشيباني ؛الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري النحوي. وغيرها مما يطول ذكره من المؤلفات في هذا الباب.
ولما كان الاختلاف بهذه الأهمية عموما وفي الحديث خصوصا كان هذا البحث المتواضع في دراسة بعض أنواع الاختلاف وبيان تعليل الأحاديث بسببها ( أي: المخالفة) فجاء في مقدمة وتسعة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة: فتكلمت فيها عن الاختلاف وبينت مدلوله اللغوي وبينت أن الاختلاف منه ممدوح ومنه مذموم وهو على نوعين: تنوع وتضاد فأما اختلاف التنوع فهو ما يمكن الجمع بين الاختلافين وأن كلا المختلفين مصيب كأدعية الاستفتاح مثلا؛ وأما اختلاف التضاد فهو ما لا يمكن الجمع بينهما وأن أحد المختلفين مصيب والآخر مخطئ كالقول بحلية شيء و حرمته أو صحته وبطلانه. ثم عرجت على بيان الاختلاف عند المحدثين وهو على نوعين أيضا اختلاف في الأسانيد واختلاف في المتون وما ينشأ عنهما. وذكرت أهمية معرفة اختلاف الروايات وذلك بنقل عدد غير قليل من نصوص الأئمة في بيان ذلك. وتبيّن من خلال تلك النصوص أن المخالفة من أسباب تعليل الحديث إن لم تكن هي سبب التعليل كما قال ابن حجر ( مدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف) أي اختلاف المتون والأسانيد وأنها حقيقة العلة، ثم لأهمية الاختلاف وأثره ذكرت جملة من مؤلفات العلماء في الاختلاف سواء في الحديث أو الفقه أو الرجال أو النحو وغير ذلك وعرضت في هذه المقدمة مباحث الموضوع ومكوناته وهي كما يلي :
المبحث الأول من هذا البحث خصصته للفظ ( المنكر) وهو أحد أنواع المخالفة وقد أطلت النفس معه كثيرا وذلك لأسباب ثلاثة الأول: كثرة استعمال المحدثين في مصنفاتهم له. والثاني التباين الحاصل بينهم في الظاهر. والسبب الثالث وهو المهم أن عامة المحدثين يطلقون المنكر على كل حديث خطأ سواء الشاذ أو تفرد الضعيف أو زيادة غير مقبولة وغيرها ولا أكاد أخطئ إذا قلت أنه استوعب جميع صور المخالفة.
وأما المبحث الثاني فكان نصيبه لفظ ( الشاذ ) وبينت فيه مقصود بعض الأئمة من إطلاقه بما فهمت من نصوصهم؛ وهذا ما كنت قد صنعته مع المنكر.
وأما المبحث الثالث فقد تكلمت فيه عن لفظ ( غير محفوظ وأشباهه مثل: ليس محفوظا؛ لا أراه محفوظا إلى غير ذلك) وصنعت معه ما صنعت مع سابقيه. وكنت أود لو تطرقت إلى لفظ (غير معروف) ولكن عدلت عن ذلك فلربما يؤول الأمر إلى أن المقصود بهذا اللفظ هو ما قصد به ( المنكر،الشاذ؛ غير محفوظ) فيكون تطويل بلا فائدة مرجوة .
وأما المبحث الرابع فخصصته للغريب وذلك لعلاقته بما قبله و بما بعده وتحدثت فيه عن أنواع الغرابة والتفرد باختصار.
وأما المبحث الخامس فكان الحديث فيه عن زيادة الثقة ويتضمن تعريفها وصورتها و أقسامها ومذاهب العلماء في قبولها وردها وسبب ذلك ومذاهب بعض الأئمة في التعامل مع زيادة الثقة .
وأما المبحث السادس فخصصته لتوابع زيادة الثقة وفيه أربعة مطالب المطلب الأول تناولت فيه الحديث عن تعارض الوقف والرفع والمطلب الثاني تحدثت فيه عن تعارض الوصل والإرسال والمطلب الثالث تحدثت فيه عن تعارض الاتصال والانقطاع والمطلب الرابع كان الحديث فيه عن المزيد في متصل الأسانيد.
وأما المبحث السابع فقد تكلمت فيه عن الاضطراب وبينت معناه وصورته وأنواعه في السند أو المتن أو فيهما واضطراب من رواة أو من راو واحد وما يمكن الجمع بين رواياته وما لا يمكن مع وفرة من الأمثلة والتطبيقات.
والمبحث الثامن كان الحديث فيه عن صورة أخرى من صور المخالفة هي الاختلاف في اسم الراوي أو صفته أو طبقته والأقسام المتعلقة بكل نوع.
وأما المبحث التاسع فقد تكلمت فيه عن نوع آخر من أنواع المخالفة وهو الاختلاف بين حديث الراوي وبين مذهبه.
ثم خاتمة البحث وفيها أبرز النتائج.
هذا وقد انتهجت في هذا البحث منهج الاستقراء والتطبيق وكثرة الشواهد والتراجم؛ وإن لم يكن الاستقراء تاما. أما توضيح المقصود فقد أشرت إليه إشارة واضحة بعبارة موجزة؛ وذلك لأمرين الأول أن الاستقراء يغني فيما أرى عن التطويل في الشرح والبيان للمتنبه اللبيب؛ و أما الأمر الثاني فلعلي أخطأت في ترجيح المرجوح وطرح الراجح فأعود لتصحيحه بيسر وسهولة.


وختاماً أقول ما قاله السالفون كما في محاضرات الأدباء لأبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني ج1/ص61: " لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعرا أو يصنف كتابا؛ وقيل من ألف فقد استهدف فإن أحسن فقد استشرف وإن أساء فقد استقذف وقيل عرض بنات الصلب على الخطاب أسهل من عرض بنات الصدر على ذوي الألباب" .ومن يتتبع سير الأقدمين من علماء هذه الأمة يجد حقاً أن نعيم العلم لا يدرك بالنعيم , وأن الراحة الكبرى لا تنال إلا على جسر من التعب؛ وحقا كان هذا البحث عسيرا على مثليللظروف التي تحيط بنا اليوم من تسلط الكفار , واحتلالهم بلدنا , فإنها قد تكون عوامل دفع للبحث والدراسة ؛ لأن طلب العلوم الشرعية لا يحتاج إلى هدوء وراحة.فأرجوا من الأخوة وممن يقرأ بحثي هذا أن يسأل الله تعالى لي المغفرة على جرأتي واغتراري , ((فإن المؤلف تنازعه أمور, وتعتوره خروق تشغل قلبه , وتشعب فكره من كلام ينسقه , وتأليف ينظمه , ومعنى يتعلق به يشرحه , وحجة يوضحها, والمتصفح للكتاب أبصر بمواضع الخلل من مبتدئ تأليفه , وأما أنا فقد اعترفت بقصوري فيما اعتمدت عن الغاية , وتقصيري عن الانتهاء إلى النهاية.فأسأل الناظر فيه ألا يعتمد العنت , ولا يقصد قصد من إذا رأى حسنا ستره , وعيباً أظهره , وليتأمله بعين الإنصاف لا الانحراف , فمن طلب عيباً وجدّ وجدْ , ومن أفتقد زلل أخيه بعين الرضا فقد فقد , فرحم الله امرءاً قهر هواه , وأطاع الإنصاف ونواه , وعذرنا في خطأ إن كان منا , وزلل إن صدر عنا, فالكمال محال لغير ذي الجلال, فالمرء غير معصوم والنسيان في الإنسان غير معدوم؛ وإن عجز عن الاعتذار عنا والتصويب؛ فإنا وإن أخطأنا في مواضع يسيرة فقد أصبنا في مواطن كثيرة)).
فما كان في بحثي هذا من صواب فمن الله وحده وما كان فيه من خطأ فمني وأنا منه تائب وعنه راجع فإني حديث عهد بطلب علم على علو سن؛ فمن وجد فيه خطأ فليصلحه أو نقصا فليتمه؛ أما عرضي فلا أحلّه لأحد ومن فعل فأنا خصمه يوم القيامة.

وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.


الباحث
أبو الحسين الحسيني
رد مع اقتباس