بركان البرهان
ضد مقررات مؤتمر الشيشان
وإثبات أن الأشاعرة والماتريدية والصوفية
لا يدخلون في أهل السنة والجماعة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتَّبع هداه،
أما بعد، فقد أصدر المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين –كذا- الذي انعقد في مدينة جروزني عاصمة جمهورية الشيشان والذي استمر ثلاثة أيام من 25 إلى 27 أغسطس 2016، عددًا من النتائج والتوصيات، وكان أبرزها ما يلي:
"إن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علما وأخلاقًا وتزكية على طريقة سيد الطائفة الإمام الجنيد ومن سار على نهجه من أئمة الهدى".
قلت: وهذه دعوى تحتاج إلى براهين راسخة كي تقبل منهم.
وكنت خطبت خطبة عيد الأضحى هذا العام 1437 حول هذا الموضوع، لكن بلا ريب الردّ كان مختصرًا موجزًا يناسب مقام الخطبة وحال العامة.
وفي هذا المبحث أسوق بركانًا من البراهين العلمية تنسف -بإذن الله- دعواهم نسفًا من منابعها وأصولها، وتجعلها نسيًا منسيًّا بتوفيق الملك النصير الخبير سبحانه.
أقول ابتداءً: إنه مِمَّا لا ينكره مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن حمَلَة الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه رضوان الله عليهم، وهم أَمَنة هذه الأمة بعد رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرج مسلم (2531) من حديث عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ قَالَ فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ، قَالَ «أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ» قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ».
قلت: فلو كان الأشاعرة والماتريدية والصوفية هم أمَنَة هذه الأمة بعد رسولها، وهم حَمَلة عقيدته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلماذا لم يبين هذا النبي صلى الله عليه وسلم، واكتفى بالدلالة على أصحابه رضي الله عنهم أجمعين؟!
وقد مدح الله عز وجل الصحابة في كتابه المبين، ومدح التابعين لهم بإحسان بقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، فهل الأشعري والماتريدي والصوفي أخذوا أصول معتقدهم عن الصحابة؛ كي يدخلوا في التابعين بإحسان وينالوا نصيبًا من المدح؟
فإن قال الأشعري المتعصِّب أو الماتريدي المتعصِّب أو الصوفي المتعصِّب: نعم.
قلت: إذا كان الأمر كذلك، فالأولى بالانتساب الصحابة، فنقول: معتقد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس ... إلخ علماء وفحول وأكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
فهل أبو الحسن وأبو منصور الماتريدي والصوفية أفضل من كل هؤلاء الصحابة، حتى يُنسَب إليهم مذهب في الاعتقاد، ولا يُنسَب لواحد من هؤلاء الصحابة؟
لماذا لم نقول مذهب أبي بكر، فيقال: البكرية، أو مذهب عمر، فيقال: العمرية ... وهلم جرًّا؟!
فإذا ردَّ المتعصِّب قائلاً: لكن الأشعري والماتريدي إنما نقلوا مذاهب هؤلاء الصحابة في الاعتقاد، ونشروها، فنُسب إليهم المذهب.
قلت: هاتوا لنا نقلاً واحدًا من الكتب التي تركها الأشعري والماتريدي عن الصحابة فيما ذهبوا إليه من إثبات سبع صفات فقط لله عز وجل، مع تأويل بقية الصفات، بخلاف التأصيلات الأخرى التي ابتداعاها، والله لو قرأت كتب هؤلاء حرفًا حرفًا، لن تجد نقلاً واحدًا في الاعتقاد عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي ... إلخ الصحابة.
بل تجد نقولات عن أئمة الفلاسفة وعلم الكلام الذي لا أصل له عند الصحابة!
وفي حديث العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حدوث الاختلاف بعده، فلماذا لم يرشد إلى الأشعري والماتريدي والصوفية، وأرشد إلى اتباع سنَّته وسنة الخلفاء الراشدين، والتي حملها أهل الحديث؟!
وأبو الحسن الأشعري، اسمه: علي بن إسماعيل بن أبي بشر –ويمتد نسَبُه إلى أبي موسى الأشعري، وُلِد على الراجح عام 260 ه، وتوفي عام 324 ه، وهو الذي رجّحه ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري".
وأبو منصور الماتريدي، اسمه: محمد بن محمد بن محمود، نسبة إلى ماتريد محلة بسمرقند، لم تُذكر له سنة ولادة، بل ليس له كبير ذكر في كتب التراجم، توفي بسمرقند عام 333 ه، وكان حنفي المذهب في الفقه، متأثرًا بأبي سعيد بن كلاَّب في الاعتقاد، فهذا مصدره في الاعتقاد ليس مصدره الصحابة والسلف الصالح.
وأخرج البخاري (2652) ، ومسلم (2533) من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: «ثُمَّ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ».
وأبو الحسن والماتريدي كلاهما عاش في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، فهما وإن أدركا زمنًا يسيرًا من قرون الخيرية، إلا أن هذا لا يشفع لهما في الانتساب إلى هذه الخيرية إلا بصحة المعتقد الذي تابعا فيه الصحابة.
وهل ظل الصحابة والتابعون لهم بإحسان في القرن الثاني ثم الثالث قبل ظهور الأشعري والماتريدي على ضلال وجهالة لا يعرفون عقيدتهم التي بيّنها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نبغ الأشعري والماتريدي فبيَّنا للأمة عقيدتها.
وهذا يذكرني بعقيدة الإمام الغائب في السرداب عند الرافضة، حيث علَّقوا أمر الجهاد وإقامة الدولة على خروج إمامهم الغائب، حتى جاء الخميني –عليه لعنة الله- وابتدع لهم مسألة ولاية الفقيه.
واعلم –فهمك الله- أن أبا الحسن الأشعري في طوره الأول كان على مذهب المعتزلة؛ لما تزوجت أمُّه بأبي علي الجبَّائي –إمام المعتزلة في زمانه-، ثم تاب أبو الحسن من الاعتزال وانتقل في طوره الثاني إلى التأصيلات الكلامية الفلسفية التي أسّس بها المذهب المعروف بمذهب "الأشاعرة"، وهي مرحلته الثانية، ثم انتقل إلى طور ثالث تاب فيه من أغلب التأصيلات الكلامية، إلا أنه اختلف العلماء في هذا الطور الثالث:
هل رجع فيه إلى منهج السلف في كل أصوله؟
أم بقي فيه بقايا من أصول أهل الكلام التي اعتنقها في طوره الثاني؟
- ذهب إلى القول الأول كُلٌّ من:
ابن كثير كما في طبقات الفقهاء الشافعيين (1/210)، فقال في تعداد أطوار الأشعري:
"أولها: حال الاعتزال التي رجع منها.
وثانيها: إثبات الصفات العقلية السبعة، والتي استقر عليها مذهب الأشاعرة.
وثالثها: إثبات الصفاتِ كلِّها على طريقة السلف، وهي طريقته في الإبانة".
- وذهب إلى القول الثاني: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة (8/8-9): "وأمَّا الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذًا لأبي علي الجبَّائي، لكنه فارقه ورجع عن جمل مذهبه، وإن كان بقي عليه شيء من أصول مذهبه، لكنه خالفه في نفي الصفات، وسلك فيها طريقة ابن كُلاَّب".
وقد وقفت على بعض المواضع في كتاب "الإبانة" التي وافق فيها الأشعري ابن كلاَّب في تأصيلاته، والتي تؤكد صحة هذا القول، منها:
قال تحت باب "الكلام في أن القرآن كلام الله غير مخلوق" (ص66/تحقيق فوقية) (ص310/تحقيق صالح العصيمي):
"فلمَّا كان الله عز وجل لم يزل عالمًا؛ إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخلاف العلم موصوفًا، استحال أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفًا؛ لأن خلاف الكلام الذي لا يكون معه كلام سكوت أو آفة، كما أن خلاف العلم الذي لا يكون معه علم: جهل أو شك أو آفة، ويستحيل أن يوصف ربُّنا جل وعلا بخلاف العلم.
وكذلك يستحيل أن يوصف بخلاف الكلام من السكوت والآفات، فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلمًا، كما وجب أن يكون لم يزل عالمًا.
دليل آخر:
وقال الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، فلو كانت البحار مدادًا للكتبة لنفدت البحار وتكسرت الأقلام ولم يلحق الفناء كلمات ربي، كما لا يلحق الفناء علم الله تعالى، ومن فني كلامه لحقته الآفات وجرى عليه السكوت، فلما لم يجز ذلك على ربنا سبحانه صح أنه لم يزل متكلمًا؛ لأنه لو لم يكن متكلمًا وجب السكوت والآفات، تعالى ربنا عن قول الجهمية علوًّا كبيرًا".اهـ
قلت: وظاهر هذا الكلام أن أبا الحسن يرى أن كلام الله عز وجل صفة ذات فقط كصفة العلم، وليست صفة ذاتية فعلية، لها تعلُّق بمشيئة الله عز وجل،فإذا شاء تكلّم وإذا شاء لم يتكلّم.
وذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين (2/421/ط العصرية: تحقيق: نعيم زرزور) أقوال المعتزلة في القرآن، وصفة الكلام، وفي خلالها قال: "وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول: إن الله لم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل قادرًا على الكلام ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق، وهذا قول داود الأصبهاني".
قلت: وكأنه ينكر تعلُّق الكلام بالقدرة، وينكر تجدُّد صفة الكلام، ولذلك وصف هذا التجدّد بأنه محدث غير مخلوق.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/94): "وأما جواب ابن عقيل فبناه على أصل ابن كلاَّب الذي يعتقده هو وشيخه وغيرهما، وهو الأصل الذي وافقوا فيه ابن كلاَّب ومن اتبعه كالأشعري وغيره، وهو أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته، لامتناع قيام الأمور الاختيارية به عندهم؛ لأنها حادثة والله لا يقوم به حادث عندهم؛ ولهذا تأولوا النصوص المناقضة لهذا الأصل".
وقال في (12/204-207): "وأما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية، وفي الرد على من يتأولها... فمن قال إن الأشعري كان ينفيها، وأن له في تأويلها قولين، فقد افترى عليه... بل هو انتصر للمسائل المشهورة عند أهل السنة التي خالفهم فيها المعتزلة كمسألة الرؤية والكلام وإثبات الصفات ونحو ذلك، لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة؛ فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول وبين الانتصار للسنة... فلما كان في كلامه شوب من هذا وشوب من هذا صار يقول مَن يقول إن فيه نوعًا من التجهم... وقول جهم هو النفي المحض لصفات الله تعالى... وأما مقتصدة الفلاسفة كأبي البركات صاحب المعتبر وابن رشد الحفيد، ففي قولهم من الإثبات ما هو خير من قول جهم... وأما ابن كلاب والقلانسي والأشعري فليسوا من هذا الباب، بل هؤلاء معروفون بالصفاتية، مشهورون بمذهب الإثبات لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية".
وقال في درء التعارض (2/18): "أما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به: فإن ابن كلاَّب والأشعري[a1] وغيرهم ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن، وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض تزال فيهم".اهـ وقال الذهبي في العلو (2/1254): "كان أبو الحسن أولاً معتزليًّا أخذ عن أبي علي الْجُبائي ثم نابذه وردَّ عليه، وصار متكلِّمًا للسُّنة، ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه".
قلت: وقد ألَّف أبو الحسن الأشعري في طوره الأخير ثلاثة كتب أو أكثر قليلاً، بها يتبلور منهجه، ومن خلالها يحسم الخلاف في مسألة رجوعه هل كان رجوعًا كاملاً إلى أصول منهج السلف، أم بقي فيه أصول الكلاّبية.
هذان الكتابان هما: "الإبانة عن أصول الديانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر".
وعليه فقد افترق الناس في شأن الأشعري إلى طوائف ثلاث:
الطائفة الأولى: الذين تمسكوا بما كان عليه الأشعري قبل توبته الأخيرة، وتأليفه كتابيه: "الإبانة"، "ورسالة إلى أهل الثغر"، أي: تمسكوا بأقواله في طوره الثاني، وهم الأشاعرة الذين لحقهم ذمُّ العلماء، وبالتالي شكَّك بعضهم في صحة نسبة هذين الكتابين إلى الأشعري.
الطائفة الثانية: الذين ادعوا أن الأشعري عاد إلى منهج السلف في إثبات الصفات جملة وتفصيلاً، نحو ابن كثير.
الطائفة الثالثة: الذين أثبتوا رجوع الأشعري عن مذهب الاعتزال إلى منهج أهل السنة في إثبات الصفات الخبرية، وفي مسألة إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، ومسائل أخرى، لكنه اتبع طريقة الكلاَّبية في نفي الصفات الفعلية الاختيارية، كما قرَّر هذا شيخ الإسلام فيما نقلناه آنفًا.
وممّن قال بهذا: الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (4/486) في ترجمة عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب القطان البصري: "وعلى طريقته مشى الأشعري في كتاب الإبانة".
وهذا القول هو الصواب، وبه ندرك خطورة البدعة على صاحبها، وأنه قلَّما أن يسلم من أدرانها، وفي الغالب لا يوفَّق للتوبة التامة؛ فعلم الكلام كالجرب الذي يسري في البدن سريان النار في الهشيم فلا يترك أخضرَ إلا أكله، أعاذنا الله وإياكم.
وبعضهم ادعى أن كتابي "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر" لا تصح نسبتهما إلى الأشعري، ومن المعاصرين الذين ادعوا هذا افتراءً على الأشعري: د. أحمد عبدالرحيم السايح([1]) في مقدَّمته على تحقيق كتاب "مقالات أبي الحسن الأشعري"، تأليف: محمد بن الحسن بن فورك، حيث قال بعد أن ذكر جملة من مؤلَّفات الأشعري: "وتلك كتب الشيخ أبي الحسن الأشعري كما جاءت في كتاب "مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري" لابن فورك، وهو من المتخصِّصين في المذهب الأشعري. ومما ينبغي أن يُدرَك أنه ليس من بينها كتاب: "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر" المنسوبان إلى أبي الحسن الأشعري.
وكتاب "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر" يفيدان رجوع الإمام أبي الحسن الأشعري من مذهب أهل السنة الذي هو عليه إلى مذهب المجسمة والمشبهة ممن ينتسبون إلى السلفية زورًا وبهتانًا([2]). والأدلة على ذلك كثيرة يمكن أن يدركها الباحث من خلاله تمكنه في أقوال الإمام الشيخ أبي الحسن الأشعري.
أولاً: لم يذكر ابن فورك في كتابه "مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري": كتاب "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر"، وابن فورك تتبع مقولات الأشعري بدقة وعمق.
ثانيًا: كيف الشيخ أبو الحسن الأشعري من مذهب أهل السنة، وهو شيخ فيه إلى مذهب أقرب إلى المشبهة والمجسمة([3]). ثالثًا: لو أن الشيخ أبا الحسن الأشعري خرج من مذهب أهل السنة، فلماذا لم يطعه تلاميذه ويتبعوه، وهم كلهم عظيم وقدير".اهـ
قلت: هكذا يظهر هذا الرجل - إن أحسنا الظن به- جهله العقيم بمنهج السلف الصالح، أو قل –إن حقَّقنا-: أظهر حقده الدفين على منهج السلف الصالح وأتباعه.
وأقول في الردِّ على هذا الهراء:
إن ابن فورك ليس هو المرجعية الوحيدة لمعرفة مؤلَّفات الأشعري، وعدم ذكره لهذين الكتابين لا يعني عدم وجودهما؛ لأنه يحتمل أحد أمرين:
الأمر الأول: أن ابن فورك لم يطَّلع عليهما، فلم يصل إليه الكتابين.
والأمر الثاني: أنه اطَّلع عليهما لكنه أخفى أمرهما؛ كي لا يُعرَفَا، مِمَّا يقتلع المذهب الأشعري من جذوره.
ويدل على كلا الأمرين أن ابن فورك لم يتعرض لنفي صحبة نسبة الكتابين لأبي الحسن، فإما أنه لم يطلع عليهما، أو اطّلع وأخفى أمرهما، ولم يتعرض لنفيهما؛ لأنه لا حجة لديه على هذا النفي.
وقد أثبت نسبة صحة الكتابين إلى أبي الحسن غير ابن فورك، مِمَّن هم أثبت قدمًا في العلم وأصحّ منهجًا، وكما هو معلوم "أن المثبت مقدَّم على النافي".
قلت: وإليك بيان بالعلماء الذين أثبتوا صحة نسبة كتاب الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري، حيث نقلوا عنه، وبعضهم ذكر أنه آخر مؤلَّفات الأشعري:
- الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني (ت 449 ه)، نقل هذا عنه ابن درباس في رسالته "الذبّ عن أبي الحسن الأشعري"، حيث قال: "ذكر عنه –أي الصابوني- أنه ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا بيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ويظهر الإعجاب به، ويقول ما الذي ينكر علي من هذا الكتاب شرح مذهبه (هذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان)".
- الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 ه) في كتابه (الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد).
- أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت 571هـ)في كتابه (تبيين كذب المفتري) (ط دار الجيل) حيث قال (ص73): "وتصانيف أبي الحسن الأشعري بين أهل العلم مشهورة معروفة، وبالإجادة والإصابة للتحقيق عند المحقِّقين موصوفة، ومن وقف على كتابه المسمى بالإبانة، عرف موضعه من العلم والديانة".
ثم قال في (ص153): "فإذا كان أبو الحسن كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد، فلا بدّ أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ونتجنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركًا للخيانة، لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سمّاه بالإبانة ..."، ثم شرع يذكر جملاً من المعتقد في الإبانة في حوالي عشر صفحات ثم قال في (ص164): "فتأملوا رحمكم اللَّه هَذَا الِاعْتِقَاد مَا أوضحه وأبينه واعترفوا بِفضل هَذَا الإِمَام العَالِم الَّذِي شَرحه وَبَينه وانظروا سهولة لَفظه فَمَا أفصحه وَأحسنه وَكُونُوا مِمَّا قَالَ اللَّه فيهم {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْل فيتبعون أحْسنه} وتبينوا فضل أَبِي الْحسن واعرفوا إنصافه واسمعوا وَصفه لِأَحْمَد بِالْفَضْلِ واعترافه لِتَعْلَمُوا أَنَّهُمَا كانَا فِي الِاعْتِقَاد متفقين وَفِي أصُول الدّين وَمذهب السّنة غير مفترقين".
ثم قال في (ص173) في جملة أبيات نسبها لبعض المعاصرين له:
لو لم يصنّف عمره ... غير الإبانة واللمع
لكفى فكيف وقد ... تفنن في العلوم بما جمع
مجموعة تربى على المئتـ ... ين مما قد صنع
لم يأل في تصنيفها ... أخذاً بأحسن ما استمع
فهدى بها المسترشد ... ين ومن تصفحها انتفع
تتلى معاني كتبه ... فوق المنابر في الجمع
ويخاف من إفحامه ... أهل الكنائس والبيع
فهو الشجا في حلق من ... ترك المحجة وابتدع
فعليه رحمة ربّه .... ما غاب نجم أو طلع".
- أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الشافعي (ت 605 ه) حيث قال في رسالته "الذب عن أبي الحسن الأشعري" (ص107): "اعلموا معشر الإخوان أن كتاب الإبانة عن أصول الديانة، الذي ألَّفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده وبه كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه من الاعتزال بمن الله ولطفه، وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها وتبرأ إلى الله سبحانه منها وكيف وقد نص فيه على أنه ديانته التي يدين الله سبحانه بها.
وروى وأثبت أنه ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين.
وأن ما فيه هو الذي يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهل يسوغ أن يقال: إنه رجع عن هذا إلى غيره فإلى ماذا يرجع أتراه يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الحديث المرضيون وقد علم أنه مذهبهم، ورواه عنهم؟؟ !! هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلمين وكيف بأئمة الدين، أو هل يقال: إنه جهل الأمر فيما نقله عن السلف الماضين مع إفنائه جل عمره في استقراء المذاهب وتعرف الديانات، هذا مما لا يتوهمه منصف، ولا يزعمه إلا مكابر مسرف، وقد ذكر الإبانة واعتمد عليها وأثبتها عن الإمام أبي الحسن الأشعري وأثنى عليه بما ذكره فيها وبرأه من كل بدعة نسبة إليه، ونقل منها إلى تصنيفه جماعة من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام وأئمة القراء وحفاظ الحديث وغيرهم".اهـ
- إمام القراء أبو الحسن بن علي بن إبراهيم الفارسي ذكر الإمام أبا الحسن الأشعري رحمة الله عليه، نقل ابن درباس عنه أنه قال: "وله كتاب في السنة سمّاه كتاب الإبانة صنفه ببغداد لما دخلها".
- أبو الفتح نصر المقدسي رحمه الله: ذكر ابن درباس أنه وجد كتاب الإبانة في كتبه ببيت المقدس وقال: "رأيت في بعض تآليفه في الأصول فصولاً منها بخطه".
- الفقيه أبو المعالي مجلي صاحب كتاب الذخائر في الفقه، قال ابن درباس: "أنبأني غير واحد عن الحافظ أبي محمد المبارك ابن علي البغدادي ونقلته أنا من خطه في آخر كتاب الإبانة قال نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخة كانت مع الشيخ الفقيه المجلي الشافعي أخرجها في مجلدة فنقلتها وعارضت بها وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكره فيها ويقول لله من صنفه ويناظر على ذلك من ينكره وذكر ذلك لي وشافهني به قال: هذا مذهبي وإليه أذهب نقلت هذا في سنة 540هـ بمكة وهذا آخر ما نقلت من خط ابن الطباخ".
- شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 728هـ) في عدة مواضع من كتبه.
- الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي(ت 748 ه)، كما في كتابه (العلو للعلي الغفار) حيث قال (ص 278): "قال الأشعري في كتاب (الإبانة في أصول الديانة) له في باب الاستواء: فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟
قيل نقول: إن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إلى آخر ما في الإبانة.
ثم قال الذهبي: "وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن الأشعري شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النووي".
وذكر الذهبي عن الحافظ أبي العباس أحمد بن ثابت الطرقي أنه قال: قرأت في كتاب أبي الحسن الأشعري الموسوم بالإبانة أدلة على إثبات الاستواء. ونقل عن أبي علي الدقاق أنه سمع زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئاً في حال نزعه. لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا. اه كلام الذهبي.
- شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي (ت 751هـ)، كما في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية".
- أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، كما في "طبقات الفقهاء الشافعيين" (1/199): "إثبات ذلك كلّه من غير تكييف، ولا تشبيه جريًا على منوال السلف، وهي طريقته في الإبانة التي صنَّفها آخرًا وشرحه القاضي الباقلاني، ونقلها أبو القاسم بن عساكر، وهي التي مال إليها الباقلاني وإمام الحرمين وغيرهما من أئمة الأصحاب المتقدمين في أواخر أقوالهم".
- ابن فرحون المالكي، قال في كتابه "الديباج" (ص 193): "ولأبي الحسن الأشعري كتب منها كتاب اللمع الكبير، وكتاب اللمع الصغير، وكتاب الإبانة في أصول الديانة". اه.
- أبو الفلاح عبدالحي بن العماد الحنبلي (ت 1089هـ): قال في "شذرات الذهب في أعيان من ذهب" (2/303): "قال أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة في أصول الديانة) -وهو آخر كتاب صنَّفه، وعليه يعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه-..."، ثم ذكر فصلاً كاملاً من الإبانة.
- السيد مرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين" (2/2)، حيث قال: "صنَّف أبو الحسن الأشعري بعد رجوعه من الاعتزال (الموجز) وهو في ثلاث مجلدات، كتاب مفيد في الرد على الجهمية والمعتزلة، ومقالات الإسلاميين، وكتاب الإبانة".
- إبراهيم بن حسن الكوراني (ت 1101 ه) في "القول الجلي" (ص36)([4]).
- إبراهيم مصطفى الحلبي (ت 1190 ه) في كتابه "اللُّمعة في تحقيق مباحث الوجود والحدوث والقدر وأفعال العباد" (ص57) ([5]).
- نعمان خير الدين الآلوسي في "جلاء العينين في المحاكمة بين الأحمدين" (ص462).
- العلامة المحدِّث حماد الأنصاري –رحمه الله- في رسالته المسماة بـ: "أبو الحسن الأشعري" (64) (ص13/مقدمة الإبانة)، قال في (ص72) بعد أن نقل أقوال أغلب الأئمة المشار إليهم آنفًا: "هذه نقول الأئمة الأعلام التي تضمنت بالصراحة التي لا يتناطح عليها عنزان ولا يمتري فيها اثنان: أن كتاب الإبانة ليس مدسوسًا على أبي الحسن الأشعري كما زعمه بعض الأغمار من المقلدة بل هو من تواليفه التي ألفها أخيرًا، واستقر أمره على ما فيها من عقيدة السلف التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية".اهـ
قلت: وأما "رسالة إلى أهل الثغر"، فقد عدَّها ابن عساكر في مؤلّفات الأشعري مستدركًا على ابن فورك، كما في "تبيين كذب المفتري" (ص137/دار الجيل بيروت)، حيث قال ابن عساكر: "هذا آخر ما ذكره أبو بكر بن فورك من تصانيفه، وقد وقع إلي أشياء لم يذكرها في تسمية تواليفه، فمنها: ...جواب مسائل كتب بها إلى أهل الثغر في تبيين ما سألوه عنه من مذهب أهل الحق".
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية من "رسالة إلى أهل الثغر" وعزا إليها في عدة مواضع من كتبه، منها:
- "بيان تلبيس الجهمية": (2/138)، (2/144)، (4/597) (ط مجمع الملك فهد).
"درء تعارض العقل مع النقل": (1/309)، (2/99)، (2/188)، (5/291)، (7/186)، وفيه قال: "قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب: "ووقفت على ما التمسوه من ذكر الأصول التي عوَّل سلفنا -رحمة الله عليهم- عليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها..."، ونقل جزءًا كبيرًا من الرسالة.
وكذلك صرَّح بنسبتها إلى الأشعري: ابن القيم في "الصواعق المرسلة" (3/1190)، وفي النونية، حيث قال:
وكذا على الأشعري فإنه في كتبه قد جاء بالتبيان
من موجز وإبانة ومقالة ورسائل للثغر ذات بيان
قلت: وذكر الكتاب فؤاد سزكين في "تاريخ التراث" (2/376) في ضمن مؤلّفات الأشعري.
وقد شكّك أحد المستشرقين –واسمه: آلار- في صحة نسبة "رسالة إلى أهل الثغر" للأشعري([6])؛ بسبب تصحيف منه في قراءة تاريخ مذكور في مخطوط الرسالة، وقد ردَّ عليه أ.د. محمد السيد الجليند([7]) (ص174)، فقال: "ومقارنة تاريخ المخطوطة بتاريخ المؤلف مهمة جدًّا، فعلى سبيل المثال التوضيح، الإمام أبو الحسن الأشعري _مثالاً_ له كتاب رسالة إلى أهل الثغر شكّك بعض المستشرقين في نسبة هذا الكتاب إلى الأشعري؛ لأن الكتاب جاء على منهج السلف، واعتمد المستشرق في صحة التشكيك على تاريخ مكتوب في النسخة التي حقّقها يقول على لسان الأشعري: بعثتم إليَّ أطال الله عمركم سنة مائتين وتسع وسبعين ..، لم يكن التاريخ منقوطًا _الأشعري وُلِد سنة 260 أو 264 هـ، كم يكون عمره في هذا التاريخ (279_264) 15سنة تقريبًا، والرسالة تصور مذهب سلف الأمة في قضية العقيدة، وكل كتب التراجم تقول إن الأشعري ظلَّ على مذهب الاعتزال أربعين سنة من عمره، ثم عاد إلى مذهب أهل السنه والجماعة، وشكَّك في صحة الرسالة وأخذ بهذا الرأي د.بدوي، ولكنهم لم يسألوا أنفسهم عن مدى صحة هذا التاريخ. وعندما قمت بتحقيق الرسالة وجدت أن التاريخ صحته سبع وتسعين ومائتين، تبقى قضية الأربعين سنة التي قضاها الأشعري في الاعتزال قضية احتمالية، وعند التحقيق نجد إن هذه المقولة اعتمد الراوة في نسبتها إلى الأشعري على قضية اجتماعية: هي أن الأشعري عندما مات والده تزوج بأمه أبو علي الجبَّائي أحد أئمة المعتزلة، فتربى الأشعري في أحضانه وفي رعايته، فنُسب إلى الأشعري أنه ظلَّ أربعين سنة على مذهب الاعتزال، وتنتهي الأربعون سنة بوفاة الجبَّائي سنة 303هـ.
وعند دراسة الرجل دراسة علمية لا نجد للأشعري مؤلفًا ولا مخطوطًا على مذهب الاعتزال، وإنما نُسِبت إليه هذه القضية بناء على قضية اجتماعية بحتة.
في مقالات الإسلامين يصرح الأشعري أنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وفي كتاب الإبانة يصرح أنه على مذهب أحمد، وفي هذه الرسالة يدون مذهب أهل السنة والجماعة كما لو كان واحداً منهم ،حتى أن الإمام ابن تيمية نقل نصفها ليحتج بها على صحة مذهب السلف.
لو صدقنا مقولة أنه ظل أربعين عامًا على مذهب الاعتزال فأين إنتاجه الفكري في هذه الفترة؟ أين آراؤه ؟ أين معتقداته الاعتزالية ؟ إن كتاب الإبانة ورسالة أهل الثغر بمنهج السلف، أجمع سلف الأمة على أربع وخمسين قضية في رسالة أهل الثغر من قضايا العقيدة الإسلامية، هذه القضايا هي هي متكررة بمنهج آخر في الإبانة، وبمنهج ثالث في اللُّمع، في المقالات يحكي أقوال الفرق، ولاتجد له مؤلَّفًا واحدًا على مذهب الإعتزال.
الذي هدانا لكل هذا قراءة التواريخ قراءة علمية في الإنابة ورسالة أهل الثغر، ومقارنة وفاة الجبَّائي بمقولة أن الأشعري ظل أربعين عامًا على مذهب الاعتزال، فدقة قراءة التواريخ إذن عامل مهم جدًّا في توثيق المخطوطات ونسبتها إلى صاحبها".اهـ
قلت: ومن الكتب التي تثبت رجوع أبي الحسن إلى منهج السلف الصالح رجوعًا نسبيًّا –أي باستثناء ما بقي عنده من آثار الكلاَّبية-: "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"([8]). وهناك مَن أثبت كلا الكتابين: الإبانة، ورسالة إلى أهل الثغر، لكنه قلَّل من شأنهما، واعتبرهما لا يمثلان منهج الأشعري الكلامي، وهو بهذا كأنه عطّل العمل بهما والاستفادة منهما: وهو د. أحمد الطيب –شيخ الأزهر- في كتابه "نظرات في فكر الإمام الأشعري" (ص22-24) حيث قال:
"1- أن المؤلفات الأربعة الأولى وهي (رسالة الإيمان) و(كتاب الإبانة) و(رسالة استحسان الخوض في علم الكلام أو (الحث على البحث) و(رسالة إلى أهل الثغر)- لا يرد لها ذكر لا في قائمة الشيخ ولا في قائمة أبي بكر بن فورك، وهذا وإن كان لا يعني التشكيك في صحة نسبتها، إلا أنه يدل دلالة قوية على أن كلاًّ من الشيخ والتلميذ قد اعتبرها ذات قيمة ثانوية في أهمية المؤلفات، وإلا فكيف يهمل ذكرها إذا كانت ذا شأن يجعلها تقف جنبًا إلى جنب مع المصنفات المذكورة؟!
2- وكتاب المقالات هو أيضا ذو أهمية ثانوية؛ لأنه لا يعني -من بيان فلسفة الشيخ- إلا بسرد إشارات مقتضبة لا تكفي لتكوين بناء متكامل لمذهب كلامي كمثل الذي يعرف للأشعري.
3- ويبقى كتاب اللُّمع -وهو لا شك مذكور في أوائل المصنفات الواردة بقائمة الشيخ التي نقلها عنه ابن عساكر في المصدر السابق ثم هو كتاب قد أحدث ردود فعل متباينة عند مفكري المعتزلة والأشاعرة على السواء ويكفي أن نعلم أن القاضي عبد الجبار الهمداني (ت 415ه) يعرف له كتاب بعنوان: (نقض اللمع) وأن أبا بكر الباقلاني (ت 403ه) يعرف له كتاب بعنوان: (شرح اللمع)، فضلاً عن أن (كتاب اللمع) لا يعدو أن يكون كتيبًا صغيرًا محدود المباحث والفصول، بل تكاد تكون أبحاثه قاصرة على إلهيات علم الكلام لا تعدوها إلى مجالاته الأخرى.
وإذن فليس من المعقول في شيء أن تمثل هذه المصنفات المحدودة -شكلاً أو موضوعًا- مذهب الشيخ الأشعري وفلسفته بأبعادها المتعددة في علم الكلام أوفي علم المناظرة والجدل أم في المعقولات بوجه عام -وبخاصة حين تحدثنا المصادر الموثوقة هم المكانة العليا التي كان يحتلها الأشعري كإمام من أئمة الدين في علم الكلام، وتصفه بأنه: (شيخ النظر وإمام الآفاق في الجدل والتحقيق) وأنه كان شجَا في حلوق المعتزلة، وأنه ملأ الدنيا بمؤلفاته ومناظراته".اهـ
وقال حمودة غرابة في مقدّمته على تحقيق: "كتاب اللُّمع في الرد على أهل الزيغ والبدع" (ط. مكتبة الخانجي بالقاهرة): "ولكن ذلك يعني أن هناك صورتين مختلفتين قد وردتَا عن مذهب الأشعري: صورة يحدِّدها "اللمع"، وأخرى يحددها "الإبانة" فهل يوجد بين الصورتين تناقض؟ وإذا كان فهل قرَّرهما الأشعري في زمان واحد فيكون متناقضًا في نفسه؟ أم أن ذلك يعود إلى مرحلتين مختلفتين في تطوره الفكري بعد تحوله عن مذهب المعتزلة وإذا كان الأمر كذلك فأي المرحلتين هي الأسبق: مرحلة "اللمع" أم مرحلة "الإبانة"؟
يرى مكدونالد وتريتن، والسلفية أيضًا أن الصورتين مختلفتان اختلافا بينا ويرون مع ذلك أن مرحلة "الإبانة" كانت هي المرحلة الأخيرة التي انتهى إليها رأي الأشعري، وعلى ذلك جولدزيهر أيضًا.
وإن كان مكدونالد والسلفية على خلاف في تعليل تحوله عن الصورة العقلية التي يصورها "اللُّمَع" إلى الصورة السلفية التي يصورها "الإبانة"، فمكدونالد يرى أنه اضطر إلى ترك الصورة العقلية وإثبات الوجه واليدين وغير ذلك، بعد رحيله إلى بغداد في أخريات حياته ووقوعه تحت نفوذ الحنابلة.
ومعنى ذلك أنه اصطنع الصورة الثانية ليكسب بها رضا الحنابلة، وربما ليدفع شرهم فليست المسألة مسألة عقيدة ولكنها مسألة ملائمة للظروف ومراعاة لما تقتضيه ولعل مما يشهد لذلك قول بعضهم: إن الأشاعرة قد جعلوا "الإبانة"من الحنابلة وقاية.
ولكن السادة السلفية([9]) لا يرضيهم هذا التعليل بل يقولون إن الأشعري قد وصل إلى الحق على مراتب فترك أولاً مذهب المعتزلة إلى مذهبه العقلي فأصاب نصف الحق ثم ترك أخيرًا مذهبه العقلي إلى مذهب السلف فاصاب الحق كله ومات مرضيا عنه وهذا قول قد يبدو مقبولاً، ولكنه سيظل فرضا حتى يجد الدليل القاطع الذي يؤيده بل إنني أعتقد ان هناك فرضا آخر هو أحق بالادعاء وأدنى إلى القبول وهو ان الصورة السلفية التي يصورها "الإبانة" قد صدرت أولا وأن الصورة العقلية التي يصورها "اللمع" قد صدرت أخيرا وانها كانت تحديدا لمذهب الأشعري في وضعه النهائي الذي مات صاحبه وهو يعتنقه ويعتقد صحته ويدافع عنه ويرضاه لأتباعه([10]). وأسباب هذا الترجيح عندي كثيرة فمنها ما هو نفسي ومنها ما هو علمي ولعل مما يعود إلى الأسباب النفسية أننا نرى الأشعري في كتاب الإبانة أشرق أسلوبًا وأكثر تحمسًا وأعظم تحاملاً على المعتزلة وأكثر بعدًا عن آرائهم وهذه مظاهر نفسية يجدها المرء في نفسه تجاه رأيه الذي يتركه إبان تركه أو بعيد التنازل عنه أما من الناحية العلمية فحسب القارئ أن يراجع بابا مشتركا في الكتابين ليرى أن كتاب اللمع في ذلك الباب قد أحاط بمسائله، وأجاد في عرض أدلته وأفاض في اعتراضات خصومه وأحسن في الرد عليها مما يدل على أن كتاب اللمع لم يكتب إلا في الوقت الذي نضج فيه في نفس صاحبه، وأنه لم يصوره في هذا الكتاب إلا بعد أن ألَّفه، وأصبح واضحًا عنده ويشاركني في هذا الرأي "فنسنك" وغيره من الباحثين.
ولكن إذا سلمنا بوجود التخالف بين الصورتين فهل يعني ذلك الاعتراف بتناقضهما؟
الواقع أنني لا أرى أي تناقض بين الصورة التي يحدِّدها الإبانة وبين الصورة التي يحددها اللُّمع؛ لأن مدح الإمام أحمد والرد على المعتزلة والحرورية والجهمية في إنكارهم الوجه واليدين والاستواء والعرش في الإبانة مع السكوت على ذلك في اللمع لا يعتبر تناقضًا؛ لأن الأشعري يتناقض حقًّا إذا نفى ذلك نفيًّا قاطعًا في كتابه اللمع، ولكن الرجل لم ينف بل سكت والسكوت عن تقرير رأي في مؤلَّف لا يعتبر مناقضًا لتقريره في مؤلَّف آخر نعم الأشعري قد صرّح في كتابه اللمع بالتنزيه ومخالفة الله للحوادث فهل يلزم من ذلك أن يكون متناقضًا إذا أثبت الوجه واليدين والاستواء مثلاً في كتاب الإبانة؟ نعم يلزم ذلك إذا أثبت وجهًا مماثلاً لوجهنا ويدًا مماثلة ليدنا واستواءًا مشابها لاستوائنا ولكن الأشعري قد أثبت ذلك في الإبانة مع التصريح في أكثر من موضع بأن ذلك إنما هو بلا كيف، ومعنى ذلك نفي المماثلة وعدم التعارض مع فكرة التنزيه([11])، بل إنني أعتقد أن الصورة السلفية كما اعتنقها الصحابة([12])، والامام احمد وربما ابن تيمية والوهابيون لا تتعارض الا قليلاً جدًّا مع مذهب الأشاعرة الذين أوَّلوا هذه الأشياء أعني الوجه واليدين والاستواء إلى غير ذلك بالذات والقدرة والاستيلاء مثلاً؛ لأن السلف مؤولون كالأشاعرة تماما أقصى ما هنالك أن المراد بالوجه مثلاً على مذهب السلف غير محدَّد مع القطع بأن الوجه الذي نعرفه غير مراد وأن المراد عند الأشاعرة هو الذات مثلاً([13])، مع القطع بأن الوجه الذي نعرفه غير مراد وهذا يعني إجماع الجميع على التنزيه، ونفي الوجه المعروف مثلاً، وهذا يعني التأويل عندهم جميعًا، ولكن ما المراد بالوجه؟ يقول السلفية: هو وصف لله أجراه على نفسه فهو أعلم بمدلوله، ويقول الأشاعرة إنه لفظ عربي، وحيث قد استحال المعنى الحقيقي فليكن المعنى المجازي الذي يناسب عظمة الله هو المقصود فهما متحدان في التنزيه والتأويل، وهذا هو المهم في العقيدة وما عدا ذلك فشيء لا يستحق خصامًا، ولا اختلافًا ولعل من الخير لهذه الأمة الإسلامية أن تفهم هذه الحقيقة واضحة جلية([14])".اهـ ولننظر إلى طائفة من أقوال أئمة السلف الصالح قبل مولد أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي، أو قبل موتهما في تعريفهم بـ "أهل السنة":
قال الإمام أحمد (م 241 هـ) في أصول السنة: "أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة".
وأخرج الآجري في الشريعة (19) (1/68/الذريعة) بسند صحيح عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "تَعَلَّمُوا الْإِسْلَامَ، فَإِذَا تَعَلَّمْتُمُوهُ فَلَا تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَلَا تُحَرِّفُوا الصِّرَاطَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَعَلَيْكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ، فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْأَهْوَاءَ الَّتِي تُلْقِي بَيْنَ النَّاسِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ الْحَسَنَ فَقَالَ: صَدَقَ وَنَصَحَ، وَحَدَّثْتُ بِهِ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَحَدَّثْتَ بِهَذَا مُحَمَّدًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: فَحَدِّثْهُ إِذَنْ".
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجري (م 360 هـ) تعليقًا على هذا الأثر: "عَلَامَةُ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا: سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ، كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُنَنُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى آخِرِ مَا كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِثْلَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِمْ، وَمُجَانَبَةُ كُلِّ مَذْهَبٍ يَذُمُّهُ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ، وَسَنُبَيِّنُ مَا يَرْضَوْنَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى".
قلت: أَبُو العَالِيَةِ رُفَيْعُ بنُ مِهْرَانَ الرِّيَاحِيُّ البَصْرِيُّ (م 90 هـ، وقيل: 93)، قال عنه الذهبي في السير (4/207): "الإِمَامُ، المُقْرِئُ، الحَافِظُ، المُفَسِّرُ... أَدْرَك زَمَانَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ شَابٌّ، وَأَسْلَمَ فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ".
والحَسَنُ هو ابنُ أَبِي الحَسَنِ يَسَارٍ، أَبُو سَعِيْدٍ البصري، مَوْلَى زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ (م 110)، وهو إمام الطبقة الوسطى من التابعين.
وحَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ، أُمُّ الهُذَيْلِ الفَقِيْهَةُ (م بعد 100 هـ).
والْأَوْزَاعِيِّ عبدالرحمن بن عمرو –إمام أهل الشام- (م 157)، وَسُفْيَانَ بن سعيد الثَّوْرِيِّ –إمام أهل الكوفة- (م 161)، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ –إمام دار الهجرة (م 179)، وَالشَّافِعِيِّ محمد بن إدريس –الإمام القرشي- (م 204)، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ –إمام السنة- (م 241)، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أبو عبيد (م 224).
فهؤلاء أئمة عظام من أئمة السلف الصالح كلهم كانوا قبل مولد أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي، أفلم يكونوا من أهل السنة؛ لأنهم لم يكونوا أشاعرة ولا ماتريدية ولا صوفية؟!
بل كانوا كلهم على صراط مستقيم هو صراط الله الذي أخذوه من الصحابة الذين تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك سمُّوا أهل الحديث.
وأئمة عظام عبر القرون الخمس الأولى من الهجرة –بعضهم قبل الأشعري والماتريدي، وآخرون بعدهما- ألّفوا كتبًا نقلوا فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة، والله لم يقل أحد منهم إن الأشاعرة والماتردية هم أهل السنة!
وأضرب مثالاً واحدًا بإمام متأخر عن الأشعري والماتريدي، وهو الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي (المتوفى: 418هـ)، حيث صنَّف كتابه " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومَن بعدهم"، فلم ينقل فيه شيئًا من معتقد الأشعري والماتريدي، بل –على العكس- روى آثارًا عن الصحابة والسلف الصالح تبطل أصول معتقد الأشاعرة والماتريدية، ولذلك قال في مفتتح كتابه: "فَابْتَدَأْتُ بِشَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ تَصَفَّحْتُ عَامَّةَ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَعَرَفْتُ مَذَاهِبَهُمْ وَمَا سَلَكُوا مِنَ الطُّرُقِ فِي تَصَانِيفِهِمْ لِيُعَرِّفُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا نَقَلُوا مِنَ الْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي حَدَثَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَفَصَّلْتُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ، وَبَيَّنْتُ فِي تَرَاجِمِهَا أَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَتَى حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَمَنِ الَّذِي أَحْدَثَهَا وَتَقَوَّلَهَا؛ لِيُعْرَفَ حُدُوثُهَا، وَأَنَّهُ لَا أَصْلَ لِتِلْكَ الْمَقَالَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ أَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَجَدْتُ فِيهِمَا جَمِيعًا ذَكَرْتُهُمَا، وَإِنْ وَجَدْتُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ذَكَرْتُهُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ فِيهِمَا إِلَّا عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُهْتَدَى بِأَقْوَالِهِمْ، وَيُسْتَضَاءَ بِأَنْوَارِهِمْ؛ لِمُشَاهَدَتِهِمُ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ، وَمَعْرِفَتِهِمْ مَعَانِيَ التَّأْوِيلِ، احْتَجَجْتُ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَثَرٌ عَنْ صَحَابِيٍّ فَعَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، الَّذِينَ فِي قَوْلِهِمُ الشِّفَاءُ وَالْهُدَى، وَالتَّدَيُّنُ بِقَوْلِهِمُ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَالزُّلْفَى، فَإِذَا رَأَيْنَاهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ عَوَّلْنَا عَلَيْهِ، وَمَنْ أَنْكَرُوا قَوْلَهُ أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ بِدْعَتَهُ أَوْ كَفَّرُوهُ حَكَمْنَا بِهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ.
وَلَمْ يَزَلْ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا قَوْمٌ يَحْفَظُونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَتَدَيَّنُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ حَادَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِجَهْلِهِ طُرُقَ الِاتِّبَاعِ.
وَكَانَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَوْمٌ مَعْدُودُونَ، أَذْكُرُ أَسَامِيَهُمْ فِي ابْتِدَاءِ هَذَا الْكِتَابِ لِتُعْرَفَ أَسَامِيهِمْ، وَيُكْثَرَ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءُ لَهُمْ؛ لِمَا حَفِظُوا عَلَيْنَا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَأَرْشَدُونَا إِلَى سُنَنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ آلُ جَهْدًا فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَنَظْمِهِ عَلَى سَبِيلِ " السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " وَلَمْ أَسْلُكْ فِيهِ طَرِيقَ التَّعَصُّبِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ...".
قلت: ثم عقد بابًا بعنوان: بَابُ سِيَاقِ ذِكْرِ مَنْ رُسِمَ بِالْإِمَامَةِ فِي السُّنَّةِ وَالدَّعْوَةِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَامِ الْأَئِمَّةِ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ... وعدّد بعض الصحابة، ثم قال: "وَمِنَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ:
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ"،.. ثم ذكر طبقات التابعين وأئمتهم في الأمصار المختلفة، مِمّن أشرنا إلى بعضهم في النقل السابق، حتى وصل إلى الأئمة في عصر الأشعري والماتريدي، فلم يشر إليهما لا من قريب ولا من بعيد، ممن يؤخذ منهم الاعتقاد، فضلاً أن يكونا الممثلَين لمنهج أهل السنة دون غيرهما، والله المستعان.
.... يتَّبع إن شاء الله.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
ليلة الإثنين 17 من ذي الحجة عام 1437 ه
(1) أستاذ بجامعة الأزهر، وجامعة قطر وأم القرى.
وهذا يؤكد أن الأزهر -وإن طهَّرَه صلاح الدين الأيوبي من الرفض والتشيع- إلا أنه صار بعد ذلك مفرخة لشتى الفرق البدعية الأخرى من أشعرية وماتريدية ومعتزلة وصوفية وخارجية وحزبية.
ومن تضليل الأزاهرة أنهم يوهمون أتباعهم أن الأشاعرة هم أهل السنة.
ونستفيد أيضًا أن جامعة أم القرى خرجت من سلطان السلفيين إلى سلطان الحزبيين الذين جعلوها مرتعًا للأشاعرة والصوفية والمعتزلة، أزال الله سلطانهم.
(1) يشير بكلامه هذا إلى الدولة السعودية السلفية وإلى علمائها السلفيين الأبرار –ولا نزكيهم على الله-، لكنه لا يتجرأ على التصريح باسم الدولة السعودية التي آوته؛ كي لا يُحرَم من خيراتها التي يتقلب هو وأمثاله فيها ليلاً ونهارًا، وما هذه الخيرات إلا ثمرة جهاد السلفيين الذين لا يعجبون هذا الرجل!!
لكنه الحقد الدفين من هؤلاء الأزاهرة الأشاعرة المؤوِّلة على الدولة السلفية التي فتحت لهم جامعاتها، واستأمنتهم على أبنائها، فإذ بهم يخونون الأمانة ويبثون سمومهم البدعية في البلد الطيب الآمن -بلد الله الحرام- الذي قام على التوحيد الخالص والسنة الصافية والمنهج السلفي النقي.
ومن ثَمَّ يشاركون النحل الضالة من رافضة ونحوها في النَّيل من هذه الدولة المباركة، ويودون لو سقطت، لا حقَّق الله لهم آمالاً، ونسأل الله أن يكسر شوكتهم ويقطع دابرهم ويحبط كيدهم.
- هذا الرجل لا يدري معنى التجسيم الذي كان عليه المشبهة، وكما هو معلوم أن لفظ "الجسم" من الألفاظ التي لم يأت إثباتها ولا نفيها في الكتاب والسنة.
والسلف الصالح كانوا على إثبات الصفات بغير تمثيل ولا تكييف، أي لا يعتقدون مثلية صفات الله لصفات المخلوق، ولا يدخلون في كيفيتها وكنهها.
([4]) مجلة كلية أصول الدين (العدد الثاني 1399-1400 هـ) (ص216)، بواسطة "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (1/385).
([5]) انظر: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (1/385).
([6]) نقل هذا د. بدوي في كتابه "مذاهب الإسلاميين" (1/522).
([7]) كتاب "فن تحقيق التراث"، وهو جامع لمحاضرات ألقيت في دار العلوم بالقاهرة في هذا الشأن، منها محاضرة "توثيق النص (المخطوط)" ألقاها أ.د. محمد السيد الجليند.
- قال الشيخ حماد في إحدى حواشي رسالتيه (أبي الحسن الأشعري): "وقد عقد في المقالات الإسلامية فصلاً بعنوان: "حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة"، قال في آخره: "وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب"، فراجعه إن شئت (ج1 ص 320)".
قلت: وهذه حجة دامغة على رءوس الأشاعرة المتعصِّبين المتقوِّلين كذباً وزورًا على الأشعري أنه لم يترك مذهبهم القبيح، ورجع إلى مذهب أهل الحديث في الجملة –وإن كان بقيت عليه آثار من الكلاَّبية-.
فإن أنكروا كتابي: "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر"، هل ينكرون –أو قل: يجحدون- كتاب "مقالات الإسلاميين" الذي احتوى على هذا الفصل ؟!!
فهذا الفصل يبطل سحر هذا الرجل الأزهري الذي تسنم جبلاً وعرًا لا طاقة له به، وينزل به على أمِّ رأسه لعله أن يفيق من الغيبوبة الأزهرية ويرجع إلى رحبة أهل الحديث والسنة؛ فينجو إن شاء الله.
([9]) هل هذا استهزاء بمتبعي السلف الصالح؟!
ألا يدري الرجل –بل يدري- أن رءوس السلف هم الصحابة رضي الله عنهم؟! ألا يعجبه منهج الصحابة ؟!
([10]) سبق هذا الأشعري إلى تقرير نحو هذه الفرضية قديمًا أحد الجهمية، كما نقل هذا ابن درباس في "الذب عن أبي الحسن"، حيث قال: ""شاهدت نسخة من كتاب الإبانة بخطه –يقصد أبا محمد بن علي البغدادي نزيل مكة- من أوله إلى آخره، وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن بن المفضل المقدسي ونسخت منها نسخة، وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخة أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي ببيت المقدس، ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراء إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس فأنكرها وجحدها وقال ما سمعنا بها قط ولا هي من تصنيفه واجتهد آخراً في أعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته فقال بعد تحريك لحيته لعله ألفها لما كان حشويًّاً، قال ابن درباس فما دريت من أين أمريه أعجب أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في تصانيفه من العلماء أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه، واشتهاره قبل توبته من الاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها، فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه المثابة فكيف يكونون بحال السلف الماضين وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين وهم لا يلون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم وهم والله بذلك أجهل وأجهل كيف لا وقد قنع بعض من ينتمي منهم إلى أبي الحسن الأشعري بمجرد دعواه وهو في الحقيقة مخالف لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها قد ذهب صاحب التأليف إلى المقالة الأولى، وكان خلاف ذلك أحرى به وأولى لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحدة اه كلام ابن درباس رحمه الله".
([11]) وهذا اعتراف منه بأن الإثبات للصفات لا يلزم منه التمثيل، بل يلزم معه التنزيه؛ فانتبه!!
([12]) تأمل اعتراف الرجل بنسبة العقيدة السلفية إلى الصحابة، في الوقت الذي لا يجرؤ هو وأمثاله أن ينسبوا العقيدة الأشعرية –قبل توبة الأشعري- إلى الصحابة!!
([13]) وهذا اعتراف آخر من هذا الأشعري المتعصِّب أن منهج السلف غير منهج الأشاعرة، وإن كان يسعى لإيجاد تقارب بينهما، فهذا تقرير منه أن الأشاعرة مغايرون للسلف، فكيف يكونون هم أهل السنة ؟!!
([14]) هذا الكلام كأنه مأخوذ بنصِّه من كلام حسن البنا –مؤسِّس حزب الإخوان المسلمين-؛ مِما يدل على أن هذا الرجل –والذي وُسِم بأنه مدير المركز الثقافي الإسلامي بلندن- في الغالب إخواني تربّى على كتب حسن البنا، حيث قال حسن البنا في كتاب "العقائد- قسم الإلهيات"، والذي وضَّح فيه العقيدة التي يتبناها حزبه في هذا الباب؛ حيث أثبت لله سبع صفات فقط على طريقة الأشاعرة كما في (ص40-60/ط دار الدعوة)، في (ص91): $قد علمت أن مذهب السلف في الآيات المتشابهات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله -تبارك وتعالى- أن يمروها على ما جاءت عليه، ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن مشابهة خلقه، وعلمت أن الخلاف شديد بين أهل الرأيين حتى أدى بينهما إلى التنابز بالألقاب العصبية، وبيان ذلك من عدة أوجه:
أولًا: اتفق الفريقان على تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن المشابهة لخلقه.
ثانيًا: كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله -تبارك وتعالى- غير ظواهرها التي وضعت لها هذه الألفاظ في حق المخلوقات، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفي التشبيه.
ثالثًا: كل من الفريقين يعلم أن الألفاظ توضع للتعبير عما يجول في النفوس، أو يقع تحت الحواس مما يتعلق بأصحاب اللغة وواضعيها، وأن اللغات مهما اتسعت لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم، وحقائق ما يتعلق بذات الله -تبارك وتعالى- من هذا القبيل، فاللُّغة أقصر من أن تواتينا بالألفاظ التي تدل على هذه الحقائق، فالتحكم في تحديد المعاني بهذه الألفاظ تغرير.
وإذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخَلَفَ زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك؛ حفظًا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتًا". اهـ
قلت في كتابي "الكواشف الجلية للفروق بين السلفية والدعوات الحزبية البدعية" ردًّا على هذا التأصيل البدعي المتهافت:"وهذا تصوير خاطئ لحقيقة الخلاف بين السلف والخلف في باب الأسماء والصفات، وتهوين من شأن هذا الخلاف، وتهميش لجهود أئمة السلف عبر القرون السابقة في بيان ضلال وانحراف الخلف من أهل البدع الذين سلكوا مسلك التعطيل والتأويل والتحريف لأسماء الله عز وجل وصفاته.
فالخلاف بين السلف والفرق البدعية نحو الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية خلاف حقيقي.
وقد تقدَّم بيان اعتقاد السلف في هذا الباب، وأنه قائم على إثبات المعاني مع تفويض الكيفية، لا كما صوَّر البنا من أنه قائم على تفويض المعاني، كما هو مذهب المفوِّضة.
ومَن خالف السلف في هذا الباب فهو مبتدع خارج عن السنة.
وقوله: "فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل...". إلخ كذبٌ على السلف الصالح؛ فإن السلف لم يقولوا بأصل التأويل ألبتَّة، بل هم على أصل إثبات ما أثبته الله سبحانه لنفسه وأثبته له رسوله ج من أسماء وصفات دون تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل.
ثم أمعن البنا في بيان جهله بمنهج السلف، حيث نسب إليهم مذهب التفويض، فقال: "ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله -تبارك وتعالى- أسلم وأولى بالاتباع ...".
ثم قال: "ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعي هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديمًا وحديثًا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله".
قلت: هكذا يريد البنا أن يلغي جهاد السلف طوال القرون الماضية بجرة قلم.
وهو بإصراره على هذا التقرير البدعي يؤكد خروجه عن إجماع السلف المنعقد في القرون الفاضلة على تكفير الجهمية الذين عطَّلوا صفات الله تعطيلًا كليًّا تحت ستار التنزيه.
وكذلك يؤكد خروجه عن إجماعهم على تبديع المئولة من أشاعرة وماتريدية.
فأين هو من نونية ابن قيم الجوزية، ونونية القحطاني واللَّتان كانتا كالصواعق المرسلة والشهب المحرقة على الجهمية والأشاعرة؟!".