منتديات منابر النور العلمية

العودة   منتديات منابر النور العلمية > :: الـمـــنابـــر الـعـلـمـيـــة :: > المـــنـــــــــــــــــــــبـــــــــر الــــــــعـــــــــــــــــــــام

آخر المشاركات خطب الجمعة والأعياد (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          مجالس شهر رمضان المبارك لعام 1445هـ (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          تسجيلات المحاضرات واللقاءات المتنوعة (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          جدول دروسي في شهر رمضان المبارك لعام 1445 هـ الموافق لعام2024م (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          تنبيه على شبهة يروجها الصعافقة الجزأريون الجدد وأتباع حزب الخارجي محمود الرضواني (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          صوتيات في الرد على الصعافقة وكشف علاقتهم بالإخوان وتعرية ثورتهم الكبرى على أهل السنة (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          راجع نفسك ومنهجك يا أخ مصطفى أحمد الخاضر (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          [محاضرة] وقفات مع حادثة الإفك الجديدة | الشيخ عبد الله بن مرعي بن بريك (الكاتـب : أبو عبد الله الأثري - )           »          شرح كتاب (فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب) وكتاب (عمدة السالك وعدة الناسك) في الفقه الشافعي (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          التنبيه على خيانة الصعافقة الهابطين في نشرهم مقطعا صوتيا للشيخ محمد بن هادي بعنوان كاذب! (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-01-2016, 02:51 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي [مقال الشيخ أبي عبدالأعلى خالد عثمان]بركان البرهان ضد مقررات مؤتمر الشيشان وإثبات أن الأشاعرة والماتريدية والصوفية لا يدخلون في أهل السنة والجماعة

بركان البرهان
ضد مقررات مؤتمر الشيشان
وإثبات أن الأشاعرة والماتريدية والصوفية
لا يدخلون في أهل السنة والجماعة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتَّبع هداه،
أما بعد، فقد أصدر المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين –كذا- الذي انعقد في مدينة جروزني عاصمة جمهورية الشيشان والذي استمر ثلاثة أيام من 25 إلى 27 أغسطس 2016، عددًا من النتائج والتوصيات، وكان أبرزها ما يلي:
"إن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علما وأخلاقًا وتزكية على طريقة سيد الطائفة الإمام الجنيد ومن سار على نهجه من أئمة الهدى".
قلت: وهذه دعوى تحتاج إلى براهين راسخة كي تقبل منهم.
وكنت خطبت خطبة عيد الأضحى هذا العام 1437 حول هذا الموضوع، لكن بلا ريب الردّ كان مختصرًا موجزًا يناسب مقام الخطبة وحال العامة.
وفي هذا المبحث أسوق بركانًا من البراهين العلمية تنسف -بإذن الله- دعواهم نسفًا من منابعها وأصولها، وتجعلها نسيًا منسيًّا بتوفيق الملك النصير الخبير سبحانه.
أقول ابتداءً: إنه مِمَّا لا ينكره مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن حمَلَة الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه رضوان الله عليهم، وهم أَمَنة هذه الأمة بعد رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرج مسلم (2531) من حديث عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ قَالَ فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ، قَالَ «أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ» قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ».
قلت: فلو كان الأشاعرة والماتريدية والصوفية هم أمَنَة هذه الأمة بعد رسولها، وهم حَمَلة عقيدته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلماذا لم يبين هذا النبي صلى الله عليه وسلم، واكتفى بالدلالة على أصحابه رضي الله عنهم أجمعين؟!
وقد مدح الله عز وجل الصحابة في كتابه المبين، ومدح التابعين لهم بإحسان بقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، فهل الأشعري والماتريدي والصوفي أخذوا أصول معتقدهم عن الصحابة؛ كي يدخلوا في التابعين بإحسان وينالوا نصيبًا من المدح؟
فإن قال الأشعري المتعصِّب أو الماتريدي المتعصِّب أو الصوفي المتعصِّب: نعم.
قلت: إذا كان الأمر كذلك، فالأولى بالانتساب الصحابة، فنقول: معتقد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس ... إلخ علماء وفحول وأكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
فهل أبو الحسن وأبو منصور الماتريدي والصوفية أفضل من كل هؤلاء الصحابة، حتى يُنسَب إليهم مذهب في الاعتقاد، ولا يُنسَب لواحد من هؤلاء الصحابة؟
لماذا لم نقول مذهب أبي بكر، فيقال: البكرية، أو مذهب عمر، فيقال: العمرية ... وهلم جرًّا؟!
فإذا ردَّ المتعصِّب قائلاً: لكن الأشعري والماتريدي إنما نقلوا مذاهب هؤلاء الصحابة في الاعتقاد، ونشروها، فنُسب إليهم المذهب.
قلت: هاتوا لنا نقلاً واحدًا من الكتب التي تركها الأشعري والماتريدي عن الصحابة فيما ذهبوا إليه من إثبات سبع صفات فقط لله عز وجل، مع تأويل بقية الصفات، بخلاف التأصيلات الأخرى التي ابتداعاها، والله لو قرأت كتب هؤلاء حرفًا حرفًا، لن تجد نقلاً واحدًا في الاعتقاد عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي ... إلخ الصحابة.
بل تجد نقولات عن أئمة الفلاسفة وعلم الكلام الذي لا أصل له عند الصحابة!
وفي حديث العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حدوث الاختلاف بعده، فلماذا لم يرشد إلى الأشعري والماتريدي والصوفية، وأرشد إلى اتباع سنَّته وسنة الخلفاء الراشدين، والتي حملها أهل الحديث؟!
وأبو الحسن الأشعري، اسمه: علي بن إسماعيل بن أبي بشر –ويمتد نسَبُه إلى أبي موسى الأشعري، وُلِد على الراجح عام 260 ه، وتوفي عام 324 ه، وهو الذي رجّحه ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري".
وأبو منصور الماتريدي، اسمه: محمد بن محمد بن محمود، نسبة إلى ماتريد محلة بسمرقند، لم تُذكر له سنة ولادة، بل ليس له كبير ذكر في كتب التراجم، توفي بسمرقند عام 333 ه، وكان حنفي المذهب في الفقه، متأثرًا بأبي سعيد بن كلاَّب في الاعتقاد، فهذا مصدره في الاعتقاد ليس مصدره الصحابة والسلف الصالح.
وأخرج البخاري (2652) ، ومسلم (2533) من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: «ثُمَّ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ».
وأبو الحسن والماتريدي كلاهما عاش في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، فهما وإن أدركا زمنًا يسيرًا من قرون الخيرية، إلا أن هذا لا يشفع لهما في الانتساب إلى هذه الخيرية إلا بصحة المعتقد الذي تابعا فيه الصحابة.
وهل ظل الصحابة والتابعون لهم بإحسان في القرن الثاني ثم الثالث قبل ظهور الأشعري والماتريدي على ضلال وجهالة لا يعرفون عقيدتهم التي بيّنها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نبغ الأشعري والماتريدي فبيَّنا للأمة عقيدتها.
وهذا يذكرني بعقيدة الإمام الغائب في السرداب عند الرافضة، حيث علَّقوا أمر الجهاد وإقامة الدولة على خروج إمامهم الغائب، حتى جاء الخميني –عليه لعنة الله- وابتدع لهم مسألة ولاية الفقيه.
واعلم –فهمك الله- أن أبا الحسن الأشعري في طوره الأول كان على مذهب المعتزلة؛ لما تزوجت أمُّه بأبي علي الجبَّائي –إمام المعتزلة في زمانه-، ثم تاب أبو الحسن من الاعتزال وانتقل في طوره الثاني إلى التأصيلات الكلامية الفلسفية التي أسّس بها المذهب المعروف بمذهب "الأشاعرة"، وهي مرحلته الثانية، ثم انتقل إلى طور ثالث تاب فيه من أغلب التأصيلات الكلامية، إلا أنه اختلف العلماء في هذا الطور الثالث:
هل رجع فيه إلى منهج السلف في كل أصوله؟
أم بقي فيه بقايا من أصول أهل الكلام التي اعتنقها في طوره الثاني؟
  • ذهب إلى القول الأول كُلٌّ من:
ابن كثير كما في طبقات الفقهاء الشافعيين (1/210)، فقال في تعداد أطوار الأشعري:
"أولها: حال الاعتزال التي رجع منها.
وثانيها: إثبات الصفات العقلية السبعة، والتي استقر عليها مذهب الأشاعرة.
وثالثها: إثبات الصفاتِ كلِّها على طريقة السلف، وهي طريقته في الإبانة".
  • وذهب إلى القول الثاني: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة (8/8-9): "وأمَّا الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذًا لأبي علي الجبَّائي، لكنه فارقه ورجع عن جمل مذهبه، وإن كان بقي عليه شيء من أصول مذهبه، لكنه خالفه في نفي الصفات، وسلك فيها طريقة ابن كُلاَّب".
وقد وقفت على بعض المواضع في كتاب "الإبانة" التي وافق فيها الأشعري ابن كلاَّب في تأصيلاته، والتي تؤكد صحة هذا القول، منها:
قال تحت باب "الكلام في أن القرآن كلام الله غير مخلوق" (ص66/تحقيق فوقية) (ص310/تحقيق صالح العصيمي):
"فلمَّا كان الله عز وجل لم يزل عالمًا؛ إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخلاف العلم موصوفًا، استحال أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفًا؛ لأن خلاف الكلام الذي لا يكون معه كلام سكوت أو آفة، كما أن خلاف العلم الذي لا يكون معه علم: جهل أو شك أو آفة، ويستحيل أن يوصف ربُّنا جل وعلا بخلاف العلم.
وكذلك يستحيل أن يوصف بخلاف الكلام من السكوت والآفات، فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلمًا، كما وجب أن يكون لم يزل عالمًا.
دليل آخر:
وقال الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، فلو كانت البحار مدادًا للكتبة لنفدت البحار وتكسرت الأقلام ولم يلحق الفناء كلمات ربي، كما لا يلحق الفناء علم الله تعالى، ومن فني كلامه لحقته الآفات وجرى عليه السكوت، فلما لم يجز ذلك على ربنا سبحانه صح أنه لم يزل متكلمًا؛ لأنه لو لم يكن متكلمًا وجب السكوت والآفات، تعالى ربنا عن قول الجهمية علوًّا كبيرًا".اهـ
قلت: وظاهر هذا الكلام أن أبا الحسن يرى أن كلام الله عز وجل صفة ذات فقط كصفة العلم، وليست صفة ذاتية فعلية، لها تعلُّق بمشيئة الله عز وجل،فإذا شاء تكلّم وإذا شاء لم يتكلّم.
وذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين (2/421/ط العصرية: تحقيق: نعيم زرزور) أقوال المعتزلة في القرآن، وصفة الكلام، وفي خلالها قال: "وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول: إن الله لم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل قادرًا على الكلام ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق، وهذا قول داود الأصبهاني".
قلت: وكأنه ينكر تعلُّق الكلام بالقدرة، وينكر تجدُّد صفة الكلام، ولذلك وصف هذا التجدّد بأنه محدث غير مخلوق.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/94): "وأما جواب ابن عقيل فبناه على أصل ابن كلاَّب الذي يعتقده هو وشيخه وغيرهما، وهو الأصل الذي وافقوا فيه ابن كلاَّب ومن اتبعه كالأشعري وغيره، وهو أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته، لامتناع قيام الأمور الاختيارية به عندهم؛ لأنها حادثة والله لا يقوم به حادث عندهم؛ ولهذا تأولوا النصوص المناقضة لهذا الأصل".
وقال في (12/204-207): "وأما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية، وفي الرد على من يتأولها... فمن قال إن الأشعري كان ينفيها، وأن له في تأويلها قولين، فقد افترى عليه... بل هو انتصر للمسائل المشهورة عند أهل السنة التي خالفهم فيها المعتزلة كمسألة الرؤية والكلام وإثبات الصفات ونحو ذلك، لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة؛ فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول وبين الانتصار للسنة... فلما كان في كلامه شوب من هذا وشوب من هذا صار يقول مَن يقول إن فيه نوعًا من التجهم... وقول جهم هو النفي المحض لصفات الله تعالى... وأما مقتصدة الفلاسفة كأبي البركات صاحب المعتبر وابن رشد الحفيد، ففي قولهم من الإثبات ما هو خير من قول جهم... وأما ابن كلاب والقلانسي والأشعري فليسوا من هذا الباب، بل هؤلاء معروفون بالصفاتية، مشهورون بمذهب الإثبات لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية".
وقال في درء التعارض (2/18): "أما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به: فإن ابن كلاَّب والأشعري[a1] وغيرهم ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن، وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض تزال فيهم".اهـ
وقال الذهبي في العلو (2/1254): "كان أبو الحسن أولاً معتزليًّا أخذ عن أبي علي الْجُبائي ثم نابذه وردَّ عليه، وصار متكلِّمًا للسُّنة، ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه".
قلت: وقد ألَّف أبو الحسن الأشعري في طوره الأخير ثلاثة كتب أو أكثر قليلاً، بها يتبلور منهجه، ومن خلالها يحسم الخلاف في مسألة رجوعه هل كان رجوعًا كاملاً إلى أصول منهج السلف، أم بقي فيه أصول الكلاّبية.
هذان الكتابان هما: "الإبانة عن أصول الديانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر".
وعليه فقد افترق الناس في شأن الأشعري إلى طوائف ثلاث:
الطائفة الأولى: الذين تمسكوا بما كان عليه الأشعري قبل توبته الأخيرة، وتأليفه كتابيه: "الإبانة"، "ورسالة إلى أهل الثغر"، أي: تمسكوا بأقواله في طوره الثاني، وهم الأشاعرة الذين لحقهم ذمُّ العلماء، وبالتالي شكَّك بعضهم في صحة نسبة هذين الكتابين إلى الأشعري.
الطائفة الثانية: الذين ادعوا أن الأشعري عاد إلى منهج السلف في إثبات الصفات جملة وتفصيلاً، نحو ابن كثير.
الطائفة الثالثة: الذين أثبتوا رجوع الأشعري عن مذهب الاعتزال إلى منهج أهل السنة في إثبات الصفات الخبرية، وفي مسألة إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، ومسائل أخرى، لكنه اتبع طريقة الكلاَّبية في نفي الصفات الفعلية الاختيارية، كما قرَّر هذا شيخ الإسلام فيما نقلناه آنفًا.
وممّن قال بهذا: الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (4/486) في ترجمة عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب القطان البصري: "وعلى طريقته مشى الأشعري في كتاب الإبانة".
وهذا القول هو الصواب، وبه ندرك خطورة البدعة على صاحبها، وأنه قلَّما أن يسلم من أدرانها، وفي الغالب لا يوفَّق للتوبة التامة؛ فعلم الكلام كالجرب الذي يسري في البدن سريان النار في الهشيم فلا يترك أخضرَ إلا أكله، أعاذنا الله وإياكم.
وبعضهم ادعى أن كتابي "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر" لا تصح نسبتهما إلى الأشعري، ومن المعاصرين الذين ادعوا هذا افتراءً على الأشعري: د. أحمد عبدالرحيم السايح([1]) في مقدَّمته على تحقيق كتاب "مقالات أبي الحسن الأشعري"، تأليف: محمد بن الحسن بن فورك، حيث قال بعد أن ذكر جملة من مؤلَّفات الأشعري: "وتلك كتب الشيخ أبي الحسن الأشعري كما جاءت في كتاب "مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري" لابن فورك، وهو من المتخصِّصين في المذهب الأشعري.
ومما ينبغي أن يُدرَك أنه ليس من بينها كتاب: "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر" المنسوبان إلى أبي الحسن الأشعري.
وكتاب "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر" يفيدان رجوع الإمام أبي الحسن الأشعري من مذهب أهل السنة الذي هو عليه إلى مذهب المجسمة والمشبهة ممن ينتسبون إلى السلفية زورًا وبهتانًا([2]).
والأدلة على ذلك كثيرة يمكن أن يدركها الباحث من خلاله تمكنه في أقوال الإمام الشيخ أبي الحسن الأشعري.
أولاً: لم يذكر ابن فورك في كتابه "مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري": كتاب "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر"، وابن فورك تتبع مقولات الأشعري بدقة وعمق.
ثانيًا: كيف الشيخ أبو الحسن الأشعري من مذهب أهل السنة، وهو شيخ فيه إلى مذهب أقرب إلى المشبهة والمجسمة([3]).
ثالثًا: لو أن الشيخ أبا الحسن الأشعري خرج من مذهب أهل السنة، فلماذا لم يطعه تلاميذه ويتبعوه، وهم كلهم عظيم وقدير".اهـ
قلت: هكذا يظهر هذا الرجل - إن أحسنا الظن به- جهله العقيم بمنهج السلف الصالح، أو قل –إن حقَّقنا-: أظهر حقده الدفين على منهج السلف الصالح وأتباعه.
وأقول في الردِّ على هذا الهراء:
إن ابن فورك ليس هو المرجعية الوحيدة لمعرفة مؤلَّفات الأشعري، وعدم ذكره لهذين الكتابين لا يعني عدم وجودهما؛ لأنه يحتمل أحد أمرين:
الأمر الأول: أن ابن فورك لم يطَّلع عليهما، فلم يصل إليه الكتابين.
والأمر الثاني: أنه اطَّلع عليهما لكنه أخفى أمرهما؛ كي لا يُعرَفَا، مِمَّا يقتلع المذهب الأشعري من جذوره.
ويدل على كلا الأمرين أن ابن فورك لم يتعرض لنفي صحبة نسبة الكتابين لأبي الحسن، فإما أنه لم يطلع عليهما، أو اطّلع وأخفى أمرهما، ولم يتعرض لنفيهما؛ لأنه لا حجة لديه على هذا النفي.
وقد أثبت نسبة صحة الكتابين إلى أبي الحسن غير ابن فورك، مِمَّن هم أثبت قدمًا في العلم وأصحّ منهجًا، وكما هو معلوم "أن المثبت مقدَّم على النافي".
قلت: وإليك بيان بالعلماء الذين أثبتوا صحة نسبة كتاب الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري، حيث نقلوا عنه، وبعضهم ذكر أنه آخر مؤلَّفات الأشعري:
  • الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني (ت 449 ه)، نقل هذا عنه ابن درباس في رسالته "الذبّ عن أبي الحسن الأشعري"، حيث قال: "ذكر عنه –أي الصابوني- أنه ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا بيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ويظهر الإعجاب به، ويقول ما الذي ينكر علي من هذا الكتاب شرح مذهبه (هذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان)".
  • الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 ه) في كتابه (الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد).
  • أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت 571هـ)في كتابه (تبيين كذب المفتري) (ط دار الجيل) حيث قال (ص73): "وتصانيف أبي الحسن الأشعري بين أهل العلم مشهورة معروفة، وبالإجادة والإصابة للتحقيق عند المحقِّقين موصوفة، ومن وقف على كتابه المسمى بالإبانة، عرف موضعه من العلم والديانة".
ثم قال في (ص153): "فإذا كان أبو الحسن كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد، فلا بدّ أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ونتجنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركًا للخيانة، لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سمّاه بالإبانة ..."، ثم شرع يذكر جملاً من المعتقد في الإبانة في حوالي عشر صفحات ثم قال في (ص164): "فتأملوا رحمكم اللَّه هَذَا الِاعْتِقَاد مَا أوضحه وأبينه واعترفوا بِفضل هَذَا الإِمَام العَالِم الَّذِي شَرحه وَبَينه وانظروا سهولة لَفظه فَمَا أفصحه وَأحسنه وَكُونُوا مِمَّا قَالَ اللَّه فيهم {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْل فيتبعون أحْسنه} وتبينوا فضل أَبِي الْحسن واعرفوا إنصافه واسمعوا وَصفه لِأَحْمَد بِالْفَضْلِ واعترافه لِتَعْلَمُوا أَنَّهُمَا كانَا فِي الِاعْتِقَاد متفقين وَفِي أصُول الدّين وَمذهب السّنة غير مفترقين".
ثم قال في (ص173) في جملة أبيات نسبها لبعض المعاصرين له:
لو لم يصنّف عمره ... غير الإبانة واللمع
لكفى فكيف وقد ... تفنن في العلوم بما جمع
مجموعة تربى على المئتـ ... ين مما قد صنع
لم يأل في تصنيفها ... أخذاً بأحسن ما استمع
فهدى بها المسترشد ... ين ومن تصفحها انتفع
تتلى معاني كتبه ... فوق المنابر في الجمع
ويخاف من إفحامه ... أهل الكنائس والبيع
فهو الشجا في حلق من ... ترك المحجة وابتدع
فعليه رحمة ربّه .... ما غاب نجم أو طلع".
  • أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الشافعي (ت 605 ه) حيث قال في رسالته "الذب عن أبي الحسن الأشعري" (ص107): "اعلموا معشر الإخوان أن كتاب الإبانة عن أصول الديانة، الذي ألَّفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده وبه كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه من الاعتزال بمن الله ولطفه، وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها وتبرأ إلى الله سبحانه منها وكيف وقد نص فيه على أنه ديانته التي يدين الله سبحانه بها.
وروى وأثبت أنه ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين.
وأن ما فيه هو الذي يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهل يسوغ أن يقال: إنه رجع عن هذا إلى غيره فإلى ماذا يرجع أتراه يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الحديث المرضيون وقد علم أنه مذهبهم، ورواه عنهم؟؟ ‍‍‍!! هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلمين وكيف بأئمة الدين، أو هل يقال: إنه جهل الأمر فيما نقله عن السلف الماضين مع إفنائه جل عمره في استقراء المذاهب وتعرف الديانات، هذا مما لا يتوهمه منصف، ولا يزعمه إلا مكابر مسرف، وقد ذكر الإبانة واعتمد عليها وأثبتها عن الإمام أبي الحسن الأشعري وأثنى عليه بما ذكره فيها وبرأه من كل بدعة نسبة إليه، ونقل منها إلى تصنيفه جماعة من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام وأئمة القراء وحفاظ الحديث وغيرهم".اهـ
  • إمام القراء أبو الحسن بن علي بن إبراهيم الفارسي ذكر الإمام أبا الحسن الأشعري رحمة الله عليه، نقل ابن درباس عنه أنه قال: "وله كتاب في السنة سمّاه كتاب الإبانة صنفه ببغداد لما دخلها".
  • أبو الفتح نصر المقدسي رحمه الله: ذكر ابن درباس أنه وجد كتاب الإبانة في كتبه ببيت المقدس وقال: "رأيت في بعض تآليفه في الأصول فصولاً منها بخطه".
  • الفقيه أبو المعالي مجلي صاحب كتاب الذخائر في الفقه، قال ابن درباس: "أنبأني غير واحد عن الحافظ أبي محمد المبارك ابن علي البغدادي ونقلته أنا من خطه في آخر كتاب الإبانة قال نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخة كانت مع الشيخ الفقيه المجلي الشافعي أخرجها في مجلدة فنقلتها وعارضت بها وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكره فيها ويقول لله من صنفه ويناظر على ذلك من ينكره وذكر ذلك لي وشافهني به قال: هذا مذهبي وإليه أذهب نقلت هذا في سنة 540هـ‍ بمكة وهذا آخر ما نقلت من خط ابن الطباخ".
  • شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 728هـ‍) في عدة مواضع من كتبه.
  • الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي(ت 748 ه)، كما في كتابه (العلو للعلي الغفار) حيث قال (ص 278): "قال الأشعري في كتاب (الإبانة في أصول الديانة) له في باب الاستواء: فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟
قيل نقول: إن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إلى آخر ما في الإبانة.
ثم قال الذهبي: "وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن الأشعري شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النووي".
وذكر الذهبي عن الحافظ أبي العباس أحمد بن ثابت الطرقي أنه قال: قرأت في كتاب أبي الحسن الأشعري الموسوم بالإبانة أدلة على إثبات الاستواء. ونقل عن أبي علي الدقاق أنه سمع زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئاً في حال نزعه. لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا. اه‍ كلام الذهبي.
  • شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي (ت 751هـ)، كما‍ في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية".
  • أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، كما في "طبقات الفقهاء الشافعيين" (1/199): "إثبات ذلك كلّه من غير تكييف، ولا تشبيه جريًا على منوال السلف، وهي طريقته في الإبانة التي صنَّفها آخرًا وشرحه القاضي الباقلاني، ونقلها أبو القاسم بن عساكر، وهي التي مال إليها الباقلاني وإمام الحرمين وغيرهما من أئمة الأصحاب المتقدمين في أواخر أقوالهم".
  • ابن فرحون المالكي، قال في كتابه "الديباج" (ص 193): "ولأبي الحسن الأشعري كتب منها كتاب اللمع الكبير، وكتاب اللمع الصغير، وكتاب الإبانة في أصول الديانة". اه‍.
  • أبو الفلاح عبدالحي بن العماد الحنبلي (ت 1089هـ‍): قال في "شذرات الذهب في أعيان من ذهب" (2/303): "قال أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة في أصول الديانة) -وهو آخر كتاب صنَّفه، وعليه يعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه-..."، ثم ذكر فصلاً كاملاً من الإبانة.
  • السيد مرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين" (2/2)، حيث قال: "صنَّف أبو الحسن الأشعري بعد رجوعه من الاعتزال (الموجز) وهو في ثلاث مجلدات، كتاب مفيد في الرد على الجهمية والمعتزلة، ومقالات الإسلاميين، وكتاب الإبانة".
  • إبراهيم بن حسن الكوراني (ت 1101 ه) في "القول الجلي" (ص36)([4]).
  • إبراهيم مصطفى الحلبي (ت 1190 ه) في كتابه "اللُّمعة في تحقيق مباحث الوجود والحدوث والقدر وأفعال العباد" (ص57) ([5]).
  • نعمان خير الدين الآلوسي في "جلاء العينين في المحاكمة بين الأحمدين" (ص462).
  • العلامة المحدِّث حماد الأنصاري –رحمه الله- في رسالته المسماة بـ: "أبو الحسن الأشعري" (64) (ص13/مقدمة الإبانة)، قال في (ص72) بعد أن نقل أقوال أغلب الأئمة المشار إليهم آنفًا: "هذه نقول الأئمة الأعلام التي تضمنت بالصراحة التي لا يتناطح عليها عنزان ولا يمتري فيها اثنان: أن كتاب الإبانة ليس مدسوسًا على أبي الحسن الأشعري كما زعمه بعض الأغمار من المقلدة بل هو من تواليفه التي ألفها أخيرًا، واستقر أمره على ما فيها من عقيدة السلف التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية".اهـ
قلت: وأما "رسالة إلى أهل الثغر"، فقد عدَّها ابن عساكر في مؤلّفات الأشعري مستدركًا على ابن فورك، كما في "تبيين كذب المفتري" (ص137/دار الجيل بيروت)، حيث قال ابن عساكر: "هذا آخر ما ذكره أبو بكر بن فورك من تصانيفه، وقد وقع إلي أشياء لم يذكرها في تسمية تواليفه، فمنها: ...جواب مسائل كتب بها إلى أهل الثغر في تبيين ما سألوه عنه من مذهب أهل الحق".
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية من "رسالة إلى أهل الثغر" وعزا إليها في عدة مواضع من كتبه، منها:
  • "بيان تلبيس الجهمية": (2/138)، (2/144)، (4/597) (ط مجمع الملك فهد).
"درء تعارض العقل مع النقل": (1/309)، (2/99)، (2/188)، (5/291)، (7/186)، وفيه قال: "قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب: "ووقفت على ما التمسوه من ذكر الأصول التي عوَّل سلفنا -رحمة الله عليهم- عليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها..."، ونقل جزءًا كبيرًا من الرسالة.
وكذلك صرَّح بنسبتها إلى الأشعري: ابن القيم في "الصواعق المرسلة" (3/1190)، وفي النونية، حيث قال:
وكذا على الأشعري فإنه في كتبه قد جاء بالتبيان
من موجز وإبانة ومقالة ورسائل للثغر ذات بيان
قلت: وذكر الكتاب فؤاد سزكين في "تاريخ التراث" (2/376) في ضمن مؤلّفات الأشعري.
وقد شكّك أحد المستشرقين –واسمه: آلار- في صحة نسبة "رسالة إلى أهل الثغر" للأشعري([6])؛ بسبب تصحيف منه في قراءة تاريخ مذكور في مخطوط الرسالة، وقد ردَّ عليه أ.د. محمد السيد الجليند([7]) (ص174)، فقال: "ومقارنة تاريخ المخطوطة بتاريخ المؤلف مهمة جدًّا، فعلى سبيل المثال التوضيح، الإمام أبو الحسن الأشعري _مثالاً_ له كتاب رسالة إلى أهل الثغر شكّك بعض المستشرقين في نسبة هذا الكتاب إلى الأشعري؛ لأن الكتاب جاء على منهج السلف، واعتمد المستشرق في صحة التشكيك على تاريخ مكتوب في النسخة التي حقّقها يقول على لسان الأشعري: بعثتم إليَّ أطال الله عمركم سنة مائتين وتسع وسبعين ..، لم يكن التاريخ منقوطًا _الأشعري وُلِد سنة 260 أو 264 هـ، كم يكون عمره في هذا التاريخ (279_264) 15سنة تقريبًا، والرسالة تصور مذهب سلف الأمة في قضية العقيدة، وكل كتب التراجم تقول إن الأشعري ظلَّ على مذهب الاعتزال أربعين سنة من عمره، ثم عاد إلى مذهب أهل السنه والجماعة، وشكَّك في صحة الرسالة وأخذ بهذا الرأي د.بدوي، ولكنهم لم يسألوا أنفسهم عن مدى صحة هذا التاريخ.
وعندما قمت بتحقيق الرسالة وجدت أن التاريخ صحته سبع وتسعين ومائتين، تبقى قضية الأربعين سنة التي قضاها الأشعري في الاعتزال قضية احتمالية، وعند التحقيق نجد إن هذه المقولة اعتمد الراوة في نسبتها إلى الأشعري على قضية اجتماعية: هي أن الأشعري عندما مات والده تزوج بأمه أبو علي الجبَّائي أحد أئمة المعتزلة، فتربى الأشعري في أحضانه وفي رعايته، فنُسب إلى الأشعري أنه ظلَّ أربعين سنة على مذهب الاعتزال، وتنتهي الأربعون سنة بوفاة الجبَّائي سنة 303هـ.
وعند دراسة الرجل دراسة علمية لا نجد للأشعري مؤلفًا ولا مخطوطًا على مذهب الاعتزال، وإنما نُسِبت إليه هذه القضية بناء على قضية اجتماعية بحتة.
في مقالات الإسلامين يصرح الأشعري أنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وفي كتاب الإبانة يصرح أنه على مذهب أحمد، وفي هذه الرسالة يدون مذهب أهل السنة والجماعة كما لو كان واحداً منهم ،حتى أن الإمام ابن تيمية نقل نصفها ليحتج بها على صحة مذهب السلف.
لو صدقنا مقولة أنه ظل أربعين عامًا على مذهب الاعتزال فأين إنتاجه الفكري في هذه الفترة؟ أين آراؤه ؟ أين معتقداته الاعتزالية ؟ إن كتاب الإبانة ورسالة أهل الثغر بمنهج السلف، أجمع سلف الأمة على أربع وخمسين قضية في رسالة أهل الثغر من قضايا العقيدة الإسلامية، هذه القضايا هي هي متكررة بمنهج آخر في الإبانة، وبمنهج ثالث في اللُّمع، في المقالات يحكي أقوال الفرق، ولاتجد له مؤلَّفًا واحدًا على مذهب الإعتزال.
الذي هدانا لكل هذا قراءة التواريخ قراءة علمية في الإنابة ورسالة أهل الثغر، ومقارنة وفاة الجبَّائي بمقولة أن الأشعري ظل أربعين عامًا على مذهب الاعتزال، فدقة قراءة التواريخ إذن عامل مهم جدًّا في توثيق المخطوطات ونسبتها إلى صاحبها".اهـ
قلت: ومن الكتب التي تثبت رجوع أبي الحسن إلى منهج السلف الصالح رجوعًا نسبيًّا –أي باستثناء ما بقي عنده من آثار الكلاَّبية-: "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"([8]).
وهناك مَن أثبت كلا الكتابين: الإبانة، ورسالة إلى أهل الثغر، لكنه قلَّل من شأنهما، واعتبرهما لا يمثلان منهج الأشعري الكلامي، وهو بهذا كأنه عطّل العمل بهما والاستفادة منهما: وهو د. أحمد الطيب –شيخ الأزهر- في كتابه "نظرات في فكر الإمام الأشعري" (ص22-24) حيث قال:
"1- أن المؤلفات الأربعة الأولى وهي (رسالة الإيمان) و(كتاب الإبانة) و(رسالة استحسان الخوض في علم الكلام أو (الحث على البحث) و(رسالة إلى أهل الثغر)- لا يرد لها ذكر لا في قائمة الشيخ ولا في قائمة أبي بكر بن فورك، وهذا وإن كان لا يعني التشكيك في صحة نسبتها، إلا أنه يدل دلالة قوية على أن كلاًّ من الشيخ والتلميذ قد اعتبرها ذات قيمة ثانوية في أهمية المؤلفات، وإلا فكيف يهمل ذكرها إذا كانت ذا شأن يجعلها تقف جنبًا إلى جنب مع المصنفات المذكورة؟!
2- وكتاب المقالات هو أيضا ذو أهمية ثانوية؛ لأنه لا يعني -من بيان فلسفة الشيخ- إلا بسرد إشارات مقتضبة لا تكفي لتكوين بناء متكامل لمذهب كلامي كمثل الذي يعرف للأشعري.
3- ويبقى كتاب اللُّمع -وهو لا شك مذكور في أوائل المصنفات الواردة بقائمة الشيخ التي نقلها عنه ابن عساكر في المصدر السابق ثم هو كتاب قد أحدث ردود فعل متباينة عند مفكري المعتزلة والأشاعرة على السواء ويكفي أن نعلم أن القاضي عبد الجبار الهمداني (ت 415ه) يعرف له كتاب بعنوان: (نقض اللمع) وأن أبا بكر الباقلاني (ت 403ه) يعرف له كتاب بعنوان: (شرح اللمع)، فضلاً عن أن (كتاب اللمع) لا يعدو أن يكون كتيبًا صغيرًا محدود المباحث والفصول، بل تكاد تكون أبحاثه قاصرة على إلهيات علم الكلام لا تعدوها إلى مجالاته الأخرى.
وإذن فليس من المعقول في شيء أن تمثل هذه المصنفات المحدودة -شكلاً أو موضوعًا- مذهب الشيخ الأشعري وفلسفته بأبعادها المتعددة في علم الكلام أوفي علم المناظرة والجدل أم في المعقولات بوجه عام -وبخاصة حين تحدثنا المصادر الموثوقة هم المكانة العليا التي كان يحتلها الأشعري كإمام من أئمة الدين في علم الكلام، وتصفه بأنه: (شيخ النظر وإمام الآفاق في الجدل والتحقيق) وأنه كان شجَا في حلوق المعتزلة، وأنه ملأ الدنيا بمؤلفاته ومناظراته".اهـ
وقال حمودة غرابة في مقدّمته على تحقيق: "كتاب اللُّمع في الرد على أهل الزيغ والبدع" (ط. مكتبة الخانجي بالقاهرة): "ولكن ذلك يعني أن هناك صورتين مختلفتين قد وردتَا عن مذهب الأشعري: صورة يحدِّدها "اللمع"، وأخرى يحددها "الإبانة" فهل يوجد بين الصورتين تناقض؟ وإذا كان فهل قرَّرهما الأشعري في زمان واحد فيكون متناقضًا في نفسه؟ أم أن ذلك يعود إلى مرحلتين مختلفتين في تطوره الفكري بعد تحوله عن مذهب المعتزلة وإذا كان الأمر كذلك فأي المرحلتين هي الأسبق: مرحلة "اللمع" أم مرحلة "الإبانة"؟
يرى مكدونالد وتريتن، والسلفية أيضًا أن الصورتين مختلفتان اختلافا بينا ويرون مع ذلك أن مرحلة "الإبانة" كانت هي المرحلة الأخيرة التي انتهى إليها رأي الأشعري، وعلى ذلك جولدزيهر أيضًا.
وإن كان مكدونالد والسلفية على خلاف في تعليل تحوله عن الصورة العقلية التي يصورها "اللُّمَع" إلى الصورة السلفية التي يصورها "الإبانة"، فمكدونالد يرى أنه اضطر إلى ترك الصورة العقلية وإثبات الوجه واليدين وغير ذلك، بعد رحيله إلى بغداد في أخريات حياته ووقوعه تحت نفوذ الحنابلة.
ومعنى ذلك أنه اصطنع الصورة الثانية ليكسب بها رضا الحنابلة، وربما ليدفع شرهم فليست المسألة مسألة عقيدة ولكنها مسألة ملائمة للظروف ومراعاة لما تقتضيه ولعل مما يشهد لذلك قول بعضهم: إن الأشاعرة قد جعلوا "الإبانة"من الحنابلة وقاية.
ولكن السادة السلفية([9]) لا يرضيهم هذا التعليل بل يقولون إن الأشعري قد وصل إلى الحق على مراتب فترك أولاً مذهب المعتزلة إلى مذهبه العقلي فأصاب نصف الحق ثم ترك أخيرًا مذهبه العقلي إلى مذهب السلف فاصاب الحق كله ومات مرضيا عنه وهذا قول قد يبدو مقبولاً، ولكنه سيظل فرضا حتى يجد الدليل القاطع الذي يؤيده بل إنني أعتقد ان هناك فرضا آخر هو أحق بالادعاء وأدنى إلى القبول وهو ان الصورة السلفية التي يصورها "الإبانة" قد صدرت أولا وأن الصورة العقلية التي يصورها "اللمع" قد صدرت أخيرا وانها كانت تحديدا لمذهب الأشعري في وضعه النهائي الذي مات صاحبه وهو يعتنقه ويعتقد صحته ويدافع عنه ويرضاه لأتباعه([10]).
وأسباب هذا الترجيح عندي كثيرة فمنها ما هو نفسي ومنها ما هو علمي ولعل مما يعود إلى الأسباب النفسية أننا نرى الأشعري في كتاب الإبانة أشرق أسلوبًا وأكثر تحمسًا وأعظم تحاملاً على المعتزلة وأكثر بعدًا عن آرائهم وهذه مظاهر نفسية يجدها المرء في نفسه تجاه رأيه الذي يتركه إبان تركه أو بعيد التنازل عنه أما من الناحية العلمية فحسب القارئ أن يراجع بابا مشتركا في الكتابين ليرى أن كتاب اللمع في ذلك الباب قد أحاط بمسائله، وأجاد في عرض أدلته وأفاض في اعتراضات خصومه وأحسن في الرد عليها مما يدل على أن كتاب اللمع لم يكتب إلا في الوقت الذي نضج فيه في نفس صاحبه، وأنه لم يصوره في هذا الكتاب إلا بعد أن ألَّفه، وأصبح واضحًا عنده ويشاركني في هذا الرأي "فنسنك" وغيره من الباحثين.
ولكن إذا سلمنا بوجود التخالف بين الصورتين فهل يعني ذلك الاعتراف بتناقضهما؟
الواقع أنني لا أرى أي تناقض بين الصورة التي يحدِّدها الإبانة وبين الصورة التي يحددها اللُّمع؛ لأن مدح الإمام أحمد والرد على المعتزلة والحرورية والجهمية في إنكارهم الوجه واليدين والاستواء والعرش في الإبانة مع السكوت على ذلك في اللمع لا يعتبر تناقضًا؛ لأن الأشعري يتناقض حقًّا إذا نفى ذلك نفيًّا قاطعًا في كتابه اللمع، ولكن الرجل لم ينف بل سكت والسكوت عن تقرير رأي في مؤلَّف لا يعتبر مناقضًا لتقريره في مؤلَّف آخر نعم الأشعري قد صرّح في كتابه اللمع بالتنزيه ومخالفة الله للحوادث فهل يلزم من ذلك أن يكون متناقضًا إذا أثبت الوجه واليدين والاستواء مثلاً في كتاب الإبانة؟ نعم يلزم ذلك إذا أثبت وجهًا مماثلاً لوجهنا ويدًا مماثلة ليدنا واستواءًا مشابها لاستوائنا ولكن الأشعري قد أثبت ذلك في الإبانة مع التصريح في أكثر من موضع بأن ذلك إنما هو بلا كيف، ومعنى ذلك نفي المماثلة وعدم التعارض مع فكرة التنزيه([11])، بل إنني أعتقد أن الصورة السلفية كما اعتنقها الصحابة([12])، والامام احمد وربما ابن تيمية والوهابيون لا تتعارض الا قليلاً جدًّا مع مذهب الأشاعرة الذين أوَّلوا هذه الأشياء أعني الوجه واليدين والاستواء إلى غير ذلك بالذات والقدرة والاستيلاء مثلاً؛ لأن السلف مؤولون كالأشاعرة تماما أقصى ما هنالك أن المراد بالوجه مثلاً على مذهب السلف غير محدَّد مع القطع بأن الوجه الذي نعرفه غير مراد وأن المراد عند الأشاعرة هو الذات مثلاً([13])، مع القطع بأن الوجه الذي نعرفه غير مراد وهذا يعني إجماع الجميع على التنزيه، ونفي الوجه المعروف مثلاً، وهذا يعني التأويل عندهم جميعًا، ولكن ما المراد بالوجه؟ يقول السلفية: هو وصف لله أجراه على نفسه فهو أعلم بمدلوله، ويقول الأشاعرة إنه لفظ عربي، وحيث قد استحال المعنى الحقيقي فليكن المعنى المجازي الذي يناسب عظمة الله هو المقصود فهما متحدان في التنزيه والتأويل، وهذا هو المهم في العقيدة وما عدا ذلك فشيء لا يستحق خصامًا، ولا اختلافًا ولعل من الخير لهذه الأمة الإسلامية أن تفهم هذه الحقيقة واضحة جلية([14])".اهـ
ولننظر إلى طائفة من أقوال أئمة السلف الصالح قبل مولد أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي، أو قبل موتهما في تعريفهم بـ "أهل السنة":
قال الإمام أحمد (م 241 هـ) في أصول السنة: "أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة".
وأخرج الآجري في الشريعة (19) (1/68/الذريعة) بسند صحيح عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "تَعَلَّمُوا الْإِسْلَامَ، فَإِذَا تَعَلَّمْتُمُوهُ فَلَا تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَلَا تُحَرِّفُوا الصِّرَاطَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَعَلَيْكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ، فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْأَهْوَاءَ الَّتِي تُلْقِي بَيْنَ النَّاسِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ الْحَسَنَ فَقَالَ: صَدَقَ وَنَصَحَ، وَحَدَّثْتُ بِهِ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَحَدَّثْتَ بِهَذَا مُحَمَّدًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: فَحَدِّثْهُ إِذَنْ".
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجري (م 360 هـ) تعليقًا على هذا الأثر: "عَلَامَةُ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا: سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ، كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُنَنُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى آخِرِ مَا كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِثْلَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِمْ، وَمُجَانَبَةُ كُلِّ مَذْهَبٍ يَذُمُّهُ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ، وَسَنُبَيِّنُ مَا يَرْضَوْنَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى".
قلت: أَبُو العَالِيَةِ رُفَيْعُ بنُ مِهْرَانَ الرِّيَاحِيُّ البَصْرِيُّ (م 90 هـ، وقيل: 93)، قال عنه الذهبي في السير (4/207): "الإِمَامُ، المُقْرِئُ، الحَافِظُ، المُفَسِّرُ... أَدْرَك زَمَانَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ شَابٌّ، وَأَسْلَمَ فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ".
والحَسَنُ هو ابنُ أَبِي الحَسَنِ يَسَارٍ، أَبُو سَعِيْدٍ البصري، مَوْلَى زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ (م 110)، وهو إمام الطبقة الوسطى من التابعين.
وحَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ، أُمُّ الهُذَيْلِ الفَقِيْهَةُ (م بعد 100 هـ).
والْأَوْزَاعِيِّ عبدالرحمن بن عمرو –إمام أهل الشام- (م 157)، وَسُفْيَانَ بن سعيد الثَّوْرِيِّ –إمام أهل الكوفة- (م 161)، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ –إمام دار الهجرة (م 179)، وَالشَّافِعِيِّ محمد بن إدريس –الإمام القرشي- (م 204)، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ –إمام السنة- (م 241)، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أبو عبيد (م 224).
فهؤلاء أئمة عظام من أئمة السلف الصالح كلهم كانوا قبل مولد أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي، أفلم يكونوا من أهل السنة؛ لأنهم لم يكونوا أشاعرة ولا ماتريدية ولا صوفية؟!
بل كانوا كلهم على صراط مستقيم هو صراط الله الذي أخذوه من الصحابة الذين تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك سمُّوا أهل الحديث.
وأئمة عظام عبر القرون الخمس الأولى من الهجرة –بعضهم قبل الأشعري والماتريدي، وآخرون بعدهما- ألّفوا كتبًا نقلوا فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة، والله لم يقل أحد منهم إن الأشاعرة والماتردية هم أهل السنة!
وأضرب مثالاً واحدًا بإمام متأخر عن الأشعري والماتريدي، وهو الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي (المتوفى: 418هـ)، حيث صنَّف كتابه " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومَن بعدهم"، فلم ينقل فيه شيئًا من معتقد الأشعري والماتريدي، بل –على العكس- روى آثارًا عن الصحابة والسلف الصالح تبطل أصول معتقد الأشاعرة والماتريدية، ولذلك قال في مفتتح كتابه: "فَابْتَدَأْتُ بِشَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ تَصَفَّحْتُ عَامَّةَ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَعَرَفْتُ مَذَاهِبَهُمْ وَمَا سَلَكُوا مِنَ الطُّرُقِ فِي تَصَانِيفِهِمْ لِيُعَرِّفُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا نَقَلُوا مِنَ الْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي حَدَثَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَفَصَّلْتُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ، وَبَيَّنْتُ فِي تَرَاجِمِهَا أَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَتَى حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَمَنِ الَّذِي أَحْدَثَهَا وَتَقَوَّلَهَا؛ لِيُعْرَفَ حُدُوثُهَا، وَأَنَّهُ لَا أَصْلَ لِتِلْكَ الْمَقَالَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ أَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَجَدْتُ فِيهِمَا جَمِيعًا ذَكَرْتُهُمَا، وَإِنْ وَجَدْتُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ذَكَرْتُهُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ فِيهِمَا إِلَّا عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُهْتَدَى بِأَقْوَالِهِمْ، وَيُسْتَضَاءَ بِأَنْوَارِهِمْ؛ لِمُشَاهَدَتِهِمُ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ، وَمَعْرِفَتِهِمْ مَعَانِيَ التَّأْوِيلِ، احْتَجَجْتُ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَثَرٌ عَنْ صَحَابِيٍّ فَعَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، الَّذِينَ فِي قَوْلِهِمُ الشِّفَاءُ وَالْهُدَى، وَالتَّدَيُّنُ بِقَوْلِهِمُ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَالزُّلْفَى، فَإِذَا رَأَيْنَاهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ عَوَّلْنَا عَلَيْهِ، وَمَنْ أَنْكَرُوا قَوْلَهُ أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ بِدْعَتَهُ أَوْ كَفَّرُوهُ حَكَمْنَا بِهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ.
وَلَمْ يَزَلْ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا قَوْمٌ يَحْفَظُونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَتَدَيَّنُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ حَادَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِجَهْلِهِ طُرُقَ الِاتِّبَاعِ.
وَكَانَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَوْمٌ مَعْدُودُونَ، أَذْكُرُ أَسَامِيَهُمْ فِي ابْتِدَاءِ هَذَا الْكِتَابِ لِتُعْرَفَ أَسَامِيهِمْ، وَيُكْثَرَ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءُ لَهُمْ؛ لِمَا حَفِظُوا عَلَيْنَا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَأَرْشَدُونَا إِلَى سُنَنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ آلُ جَهْدًا فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَنَظْمِهِ عَلَى سَبِيلِ " السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " وَلَمْ أَسْلُكْ فِيهِ طَرِيقَ التَّعَصُّبِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ...".
قلت: ثم عقد بابًا بعنوان: بَابُ سِيَاقِ ذِكْرِ مَنْ رُسِمَ بِالْإِمَامَةِ فِي السُّنَّةِ وَالدَّعْوَةِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَامِ الْأَئِمَّةِ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ... وعدّد بعض الصحابة، ثم قال: "وَمِنَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ:
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ"،.. ثم ذكر طبقات التابعين وأئمتهم في الأمصار المختلفة، مِمّن أشرنا إلى بعضهم في النقل السابق، حتى وصل إلى الأئمة في عصر الأشعري والماتريدي، فلم يشر إليهما لا من قريب ولا من بعيد، ممن يؤخذ منهم الاعتقاد، فضلاً أن يكونا الممثلَين لمنهج أهل السنة دون غيرهما، والله المستعان.
.... يتَّبع إن شاء الله.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
ليلة الإثنين 17 من ذي الحجة عام 1437 ه

(1) أستاذ بجامعة الأزهر، وجامعة قطر وأم القرى.
وهذا يؤكد أن الأزهر -وإن طهَّرَه صلاح الدين الأيوبي من الرفض والتشيع- إلا أنه صار بعد ذلك مفرخة لشتى الفرق البدعية الأخرى من أشعرية وماتريدية ومعتزلة وصوفية وخارجية وحزبية.
ومن تضليل الأزاهرة أنهم يوهمون أتباعهم أن الأشاعرة هم أهل السنة.
ونستفيد أيضًا أن جامعة أم القرى خرجت من سلطان السلفيين إلى سلطان الحزبيين الذين جعلوها مرتعًا للأشاعرة والصوفية والمعتزلة، أزال الله سلطانهم.

(1) يشير بكلامه هذا إلى الدولة السعودية السلفية وإلى علمائها السلفيين الأبرار –ولا نزكيهم على الله-، لكنه لا يتجرأ على التصريح باسم الدولة السعودية التي آوته؛ كي لا يُحرَم من خيراتها التي يتقلب هو وأمثاله فيها ليلاً ونهارًا، وما هذه الخيرات إلا ثمرة جهاد السلفيين الذين لا يعجبون هذا الرجل!!
لكنه الحقد الدفين من هؤلاء الأزاهرة الأشاعرة المؤوِّلة على الدولة السلفية التي فتحت لهم جامعاتها، واستأمنتهم على أبنائها، فإذ بهم يخونون الأمانة ويبثون سمومهم البدعية في البلد الطيب الآمن -بلد الله الحرام- الذي قام على التوحيد الخالص والسنة الصافية والمنهج السلفي النقي.
ومن ثَمَّ يشاركون النحل الضالة من رافضة ونحوها في النَّيل من هذه الدولة المباركة، ويودون لو سقطت، لا حقَّق الله لهم آمالاً، ونسأل الله أن يكسر شوكتهم ويقطع دابرهم ويحبط كيدهم.

  • هذا الرجل لا يدري معنى التجسيم الذي كان عليه المشبهة، وكما هو معلوم أن لفظ "الجسم" من الألفاظ التي لم يأت إثباتها ولا نفيها في الكتاب والسنة.
والسلف الصالح كانوا على إثبات الصفات بغير تمثيل ولا تكييف، أي لا يعتقدون مثلية صفات الله لصفات المخلوق، ولا يدخلون في كيفيتها وكنهها.

([4]) مجلة كلية أصول الدين (العدد الثاني 1399-1400 هـ) (ص216)، بواسطة "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (1/385).

([5]) انظر: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (1/385).

([6]) نقل هذا د. بدوي في كتابه "مذاهب الإسلاميين" (1/522).

([7]) كتاب "فن تحقيق التراث"، وهو جامع لمحاضرات ألقيت في دار العلوم بالقاهرة في هذا الشأن، منها محاضرة "توثيق النص (المخطوط)" ألقاها أ.د. محمد السيد الجليند.

  • قال الشيخ حماد في إحدى حواشي رسالتيه (أبي الحسن الأشعري): "وقد عقد في المقالات الإسلامية فصلاً بعنوان: "حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة"، قال في آخره: "وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب"، فراجعه إن شئت (ج1 ص 320)".
قلت: وهذه حجة دامغة على رءوس الأشاعرة المتعصِّبين المتقوِّلين كذباً وزورًا على الأشعري أنه لم يترك مذهبهم القبيح، ورجع إلى مذهب أهل الحديث في الجملة –وإن كان بقيت عليه آثار من الكلاَّبية-.
فإن أنكروا كتابي: "الإبانة"، و"رسالة إلى أهل الثغر"، هل ينكرون –أو قل: يجحدون- كتاب "مقالات الإسلاميين" الذي احتوى على هذا الفصل ؟!!
فهذا الفصل يبطل سحر هذا الرجل الأزهري الذي تسنم جبلاً وعرًا لا طاقة له به، وينزل به على أمِّ رأسه لعله أن يفيق من الغيبوبة الأزهرية ويرجع إلى رحبة أهل الحديث والسنة؛ فينجو إن شاء الله.

([9]) هل هذا استهزاء بمتبعي السلف الصالح؟!
ألا يدري الرجل –بل يدري- أن رءوس السلف هم الصحابة رضي الله عنهم؟! ألا يعجبه منهج الصحابة ؟!

([10]) سبق هذا الأشعري إلى تقرير نحو هذه الفرضية قديمًا أحد الجهمية، كما نقل هذا ابن درباس في "الذب عن أبي الحسن"، حيث قال: ""شاهدت نسخة من كتاب الإبانة بخطه –يقصد أبا محمد بن علي البغدادي نزيل مكة- من أوله إلى آخره، وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن بن المفضل المقدسي ونسخت منها نسخة، وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخة أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي ببيت المقدس، ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراء إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس فأنكرها وجحدها وقال ما سمعنا بها قط ولا هي من تصنيفه واجتهد آخراً في أعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته فقال بعد تحريك لحيته لعله ألفها لما كان حشويًّاً، قال ابن درباس فما دريت من أين أمريه أعجب أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في تصانيفه من العلماء أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه، واشتهاره قبل توبته من الاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها، فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه المثابة فكيف يكونون بحال السلف الماضين وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين وهم لا يلون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم وهم والله بذلك أجهل وأجهل كيف لا وقد قنع بعض من ينتمي منهم إلى أبي الحسن الأشعري بمجرد دعواه وهو في الحقيقة مخالف لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها قد ذهب صاحب التأليف إلى المقالة الأولى، وكان خلاف ذلك أحرى به وأولى لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحدة اه‍‍‍ كلام ابن درباس رحمه الله".

([11]) وهذا اعتراف منه بأن الإثبات للصفات لا يلزم منه التمثيل، بل يلزم معه التنزيه؛ فانتبه!!

([12]) تأمل اعتراف الرجل بنسبة العقيدة السلفية إلى الصحابة، في الوقت الذي لا يجرؤ هو وأمثاله أن ينسبوا العقيدة الأشعرية –قبل توبة الأشعري- إلى الصحابة!!

([13]) وهذا اعتراف آخر من هذا الأشعري المتعصِّب أن منهج السلف غير منهج الأشاعرة، وإن كان يسعى لإيجاد تقارب بينهما، فهذا تقرير منه أن الأشاعرة مغايرون للسلف، فكيف يكونون هم أهل السنة ؟!!

([14]) هذا الكلام كأنه مأخوذ بنصِّه من كلام حسن البنا –مؤسِّس حزب الإخوان المسلمين-؛ مِما يدل على أن هذا الرجل –والذي وُسِم بأنه مدير المركز الثقافي الإسلامي بلندن- في الغالب إخواني تربّى على كتب حسن البنا، حيث قال حسن البنا في كتاب "العقائد- قسم الإلهيات"، والذي وضَّح فيه العقيدة التي يتبناها حزبه في هذا الباب؛ حيث أثبت لله سبع صفات فقط على طريقة الأشاعرة كما في (ص40-60/ط دار الدعوة)، في (ص91): $قد علمت أن مذهب السلف في الآيات المتشابهات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله -تبارك وتعالى- أن يمروها على ما جاءت عليه، ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن مشابهة خلقه، وعلمت أن الخلاف شديد بين أهل الرأيين حتى أدى بينهما إلى التنابز بالألقاب العصبية، وبيان ذلك من عدة أوجه:
أولًا: اتفق الفريقان على تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن المشابهة لخلقه.
ثانيًا: كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله -تبارك وتعالى- غير ظواهرها التي وضعت لها هذه الألفاظ في حق المخلوقات، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفي التشبيه.
ثالثًا: كل من الفريقين يعلم أن الألفاظ توضع للتعبير عما يجول في النفوس، أو يقع تحت الحواس مما يتعلق بأصحاب اللغة وواضعيها، وأن اللغات مهما اتسعت لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم، وحقائق ما يتعلق بذات الله -تبارك وتعالى- من هذا القبيل، فاللُّغة أقصر من أن تواتينا بالألفاظ التي تدل على هذه الحقائق، فالتحكم في تحديد المعاني بهذه الألفاظ تغرير.
وإذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخَلَفَ زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك؛ حفظًا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتًا". اهـ
قلت في كتابي "الكواشف الجلية للفروق بين السلفية والدعوات الحزبية البدعية" ردًّا على هذا التأصيل البدعي المتهافت:"وهذا تصوير خاطئ لحقيقة الخلاف بين السلف والخلف في باب الأسماء والصفات، وتهوين من شأن هذا الخلاف، وتهميش لجهود أئمة السلف عبر القرون السابقة في بيان ضلال وانحراف الخلف من أهل البدع الذين سلكوا مسلك التعطيل والتأويل والتحريف لأسماء الله عز وجل وصفاته.
فالخلاف بين السلف والفرق البدعية نحو الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية خلاف حقيقي.
وقد تقدَّم بيان اعتقاد السلف في هذا الباب، وأنه قائم على إثبات المعاني مع تفويض الكيفية، لا كما صوَّر البنا من أنه قائم على تفويض المعاني، كما هو مذهب المفوِّضة.
ومَن خالف السلف في هذا الباب فهو مبتدع خارج عن السنة.
وقوله: "فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل...". إلخ كذبٌ على السلف الصالح؛ فإن السلف لم يقولوا بأصل التأويل ألبتَّة، بل هم على أصل إثبات ما أثبته الله سبحانه لنفسه وأثبته له رسوله ج من أسماء وصفات دون تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل.
ثم أمعن البنا في بيان جهله بمنهج السلف، حيث نسب إليهم مذهب التفويض، فقال: "ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله -تبارك وتعالى- أسلم وأولى بالاتباع ...".
ثم قال: "ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعي هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديمًا وحديثًا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله".
قلت: هكذا يريد البنا أن يلغي جهاد السلف طوال القرون الماضية بجرة قلم.
وهو بإصراره على هذا التقرير البدعي يؤكد خروجه عن إجماع السلف المنعقد في القرون الفاضلة على تكفير الجهمية الذين عطَّلوا صفات الله تعطيلًا كليًّا تحت ستار التنزيه.
وكذلك يؤكد خروجه عن إجماعهم على تبديع المئولة من أشاعرة وماتريدية.
فأين هو من نونية ابن قيم الجوزية، ونونية القحطاني واللَّتان كانتا كالصواعق المرسلة والشهب المحرقة على الجهمية والأشاعرة؟!".

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-01-2016, 02:52 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

تابع
بركان البرهان ضد مقررات مؤتمر الشيشان
جاء في البيان الذي نشره المركز الإعلامي بالأزهر تعقيبًا على مقررات مؤتمر الشيشان: "أن شيخ الأزهر نصَّ خلال كلمته للأمة على أن مفهوم أهل السُّنة والجماعة يُطْلَق على الأشاعرة، والماتريدية، وأهل الحديث – السلفية، وفقًا لـ"بوابة القاهرة".
وأوضح البيان أن "الطيب" ساق بين يدي محاضرته نصوصاً تُؤكِّد استقرار “جمهرة الأمة” والسواد الأعظم منها على معنى هذا المفهوم، حين نقل عن العلامة السفاريني قوله: "وأهل السُّنَّة ثلاث فِرَق: الأثريَّة وإمامهم أحمد بن حنبل، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري، والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي".
قلت: هذا النص المنقول عن شمس الدين، أبي العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (ت 1188هـ) ذكره في "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" (1/73/ط مؤسسة الخافقين)، وفي تقديري أنه مقحمٌ من قبَل ناسخ أشعري أو ماتريدي، وأنه ليس من كلام السفاريني، وهذا ليس مستبعدًا فقد حدث مثله مع بعض مخطوطات شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، وإن كان تأكيد هذا التخمين يحتاج الرجوع إلى الأصول الخطية ودراستها دراسة كوديكولوجية، أي وفق أصول علم المخطوط.
ومهما كان، فإني أرجح عدم صحة نسبة هذا النقل إلى السفاريني لأدلة أخرى من كلامه -سباقه ولحاقه-، يناقض تمام المناقضة ما جاء نقله في هذا النص المقتضب المبتور عن السباق واللِّحاق، ففي سباقه قال في (1/6): "اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ، وَهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْمَلُ الْأُمَّةِ إِيمَانًا بِلَا انْفِصَامٍ، وَلَكِنْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، بَلْ كُلُّهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، لَمْ يَسُومُوهَا تَأْوِيلًا، وَلَمْ يُحَرِّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا تَبْدِيلًا، وَلَمْ يُبْدُوا لِشَيْءٍ مِنْهَا إِبْطَالًا، وَلَا ضَرَبُوا لَهَا مِثَالًا، وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْ صُدُورِهَا وَأَعْجَازِهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا، وَحَمْلُهَا عَلَى مَجَازِهَا. بَلْ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَابَلُوهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ حَيْثُ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَأَقَرُّوا بِبَعْضِ آيَاتِ الصِّفَاتِ، وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ فُرْقَانٍ مُبِينٍ، مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ لَهُمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ كَاللَّازِمِ لَهُمْ فِيمَا أَقَرُّوا بِهِ وَأَثْبَتُوهُ، فَأَهْلُ الْإِيمَانِ إِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، رَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ، فَكُلُّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ، دِقُّهُ وَجُلُّهُ، جَلِيُّهُ وَخَفِيُّهُ، رَدُّوهُ إِلَيْهِمَا".
وقال في (1/20): "الْمُرَادُ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَأَعْيَانُ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَتْبَاعُهُمْ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ مِمَّنْ شُهِدَ لَهُ بِالْإِمَامَةِ، وَعُرِفَ عِظَمُ شَأْنِهِ فِي الدِّينِ، وَتَلَقَّى النَّاسُ كَلَامَهُمْ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، دُونَ مَنْ رُمِيَ بِبِدْعَةٍ، أَوْ شُهِرَ بِلَقَبٍ غَيْرِ مَرْضِيٍّ مِثْلِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ مِمَّا يَأْتِي ذِكْرُهُمْ عِنْدَ تَعْدَادِ الْفِرَقِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فُشُوُّ الْبِدَعِ وَظُهُورُهَا بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا عُرِّبَتِ الْكُتُبُ الْعَجَمِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ الْبَلَاءُ، وَأَظْهَرَ الْمَأْمُونُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَظَهَرَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ ظُهُورًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ؛ بِسَبَبِ انْحِرَافِ الْخُلَفَاءِ عَنْ مَذْهَبِ الْحَقِّ، وَكَانَ الَّذِي قَامَ فِي نُحُورِهِمْ، وَرَدِّ مَقَالَتِهِمْ، وَإِبْطَالِ مَذْهَبِهِمْ وَتَزْيِيفِهِ، وَذَمِّ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ، أَوْ عَوَّلَ عَلَيْهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى ذَوِيهِ، أَوْ نَاضَلَ عَنْهُ، أَوْ مَالَ إِلَيْهِ سَيِّدَنَا وَقُدْوَتَنَا الْإِمَامَ الْمُبَجَّلَ، وَالْحَبْرَ الْبَحْرَ الْمُفَضَّلَ، أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ؛ نُسِبَ مَذْهَبُ السَّلَفِ إِلَيْهِ، وَعُوِّلَ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمَأْثُورُ، وَالْحَقُّ الثَّابِتُ الْمَشْهُورُ لِسَائِرِ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَأَعْيَانِ الْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُصَنَّفِ فِي مَسَائِلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْهِ مَعَ مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنَ الْآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَالصَّحَابَةِ الْأَبْرَارِ، وَالتَّابِعِينَ الْأَطْهَارِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، قَالَ: هَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ، وَأَصْحَابِ الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ، الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِيهَا، وَأَدْرَكْتُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ عَلَيْهَا، فَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، أَوْ طَعَنَ فِيهَا، أَوْ عَابَ قَائِلَهَا، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ خَارِجٌ عَنِ الْجَمَاعَةِ، زَائِلٌ عَنْ سَبِيلِ السُّنَّةِ وَمَنْهَجِ الْحَقِّ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَبَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ جَالَسْنَا، وَأَخَذْنَا عَنْهُمُ الْعِلْمَ. فَذَكَرَ الْكَلَامَ فِي الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ، وَالْوَعِيدِ وَالْإِمَامَةِ. . . إِلَخْ كَلَامِهِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِي مَحَالِّهِ. وَمِمَّنْ أَلَّفَ فِي عَقَائِدِ السَّلَفِ، وَذَكَرَ مُعْتَقَدَهُمْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ السَّلَفِ مِثْلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَتَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَبَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٍ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مَرْدَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ فِي السُّنَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَأُصُولِ الدِّينِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ السَّلَفِ، مِثْلَ كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُعْفِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَكِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ لِلْبُخَارِيِّ، وَكِتَابِ السُّنَّةِ لِأَبِي دَاوُدَ، وَلِأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلِحَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَلِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَلِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَلِأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ وَأَمْثَالِهِمْ، وَكِتَابِ الشَّرِيعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ الْآجُرِّيِّ، وَالْإِبَانَةِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بَطَّةَ، وَكِتَابِ الْأُصُولِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الطَّلَمَنْكِيِّ، وَكِتَابِ رَدِّ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ، وَكِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالسُّفْيَانَانِ وَالْحَمَّادَانِ وَابْنَا أَبِي شَيْبَةَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو عُبَيْدِ بْنُ سَلَّامٍ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ الْإِمَامُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ إِمَامُ أَهْلِ خُرَاسَانَ بَعْدَ إِسْحَاقَ بِلَا مُدَافَعَةٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ سَلَفِيَّةٍ أَثَرِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ الِاشْتِهَارُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا".
قلت: كما هو ظاهر بيِّن أن السّفاريني رحمه الله بيّن بجلاء أن مذهب السلف هو الحق لا مرية فيه، والتابعون لهم بإحسان هم أهل السنة والجماعة، وكلُّ الأئمة الذين ذكرهم كانوا قبل ظهور الأشعري والماتريدي، وكانوا كلهم على منهج واحد، لم يتفرفوا إلى فرقتين أو إلى فرق، وإنما الذين جاءوا بعد الإمام أحمد صاروا ينتسبون إليه للعلة التي بيّنها السفاريني من أنه لمّا أطل شيطان البدعة بقرنه في زمن المأمون وأراد محو منهج السلف السابقين في فهم العقيدة، واستبداله بفهم اليونان الذي رفع شأنه الجهمية، قام إمام السنّة في وجوههم وحده، ونصر طريقة السلف السابقين من الصحابة والتابعين في إثبات الصفات دون تأويل ولا تعطيل ولا تحريف، خاصة فيما يتعلّق بكلام الله عز وجل، فصار عَلَمًا على هذا المنهج، لا أن أحمد أتى بمنهج جديد سُمِّي بالمنهج السلفي، كما يموه بذلك المبتدعة المبغضين لأحمد ولمنهج السلف الصالح.
وإلى هذا الموضع لم يذكر السفاريني شيئًا عن الأشعري ولا الماتريدي، لكنه بعد ذلك نقل عن الأشعري كلامه في الإبانة الذي نصر فيه منهج السلف الصالح السابقين له، وأيّد فيه أحمد للعلة التي ذكرناها فقال الأشعري: "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ، فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمُ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ، وَدِيَانَتَكُمُ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ، قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي بِهِ نَقُولُ، وَدِيَانَتُنَا الَّتِي بِهَا نَدِينُ، التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، فَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ، وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ- قَائِلُونَ، وَلِمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ، وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ، الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ، وَأَوْضَحَ بِهَا الْمِنْهَاجَ، وَقَمَعَ بِهِ الْمُبْتَدِعِينَ، فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إِمَامٍ مُقَدَّمٍ، وَكَبِيرٍ مُفَهَّمٍ، وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ".
قلت: هكذا عظّم الأشعري منهج السلف الصالحين ومنهج أحمد، فهلاَّ اكتفى شيخ الأزهر –والذي أثبت صحة نسبة كتاب الإبانة للأشعري- بهذا التقرير من الأشعري، واكتفى بالانتساب إلى منهج السلف الصالح القائم على الإثبات دون تأويل ولا تعطيل، وترك مذهبه الكلامي البدعي الذي نبذه الأشعري نفسه نبذًا وطرحه طرحًا إلا بقايا المذهب الكلاّبي التي بقيت فيه.
وهلاَّ احتّج شيخ الأزهر بهذا الكلام للسفاريني كما احتّج بعبارته الأخرى؟!
وأما اللِّحاق فقد قال السفارينيى مباشرة بعد هذا النص المشوه المبتور عن السباق واللِّحاق ما يلي كما في (1/74): " وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُفِيدُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَالدِّيَانَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ وَالصِّيَانَةِ، وَالسُّنَّةِ وَالْأَمَانَةِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ لِإِمَامِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ انْتَهَى إِلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ، وَنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مِمَّا انْتَهَى إِلَى غَيْرِهِ، وَابْتُلِيَ بِالْمِحْنَةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، فَصَارَ إِمَامًا فِي السُّنَّةِ أَظْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَغَارِبَةِ: الْمَذْهَبُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَالظُّهُورُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. فَالَّذِي عَلَيْهِ أَحْمَدُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، وَإِظْهَارِ الْحَقِّ، وَدَفْعِ الْبَاطِلِ".
قلت: أرأيت أيها القارئ النابه كيف أن السفاريني نصر بجلاء ووضوح في هذا اللحاق الأخير مذهب السلف، ثم عقّب ببيان علة نسبة هذا المنهج إلى الإمام أحمد؟!!
ألا ترى أن هذا يتناقض تمام التناقض مع قوله في النص السابق لهذا الكلام مباشرة: "إن أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْأَثَرِيَّةُ وَإِمَامُهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَإِمَامُهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ وَإِمَامُهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ"، كيف يجتمعون على عقيدة واحدة، والاختلاف بينهم ظاهر لا ينكره المخالف ولا الموافق، لا ينكره إلا مكابر؟!!
كيف والسفاريني نفسه بعد أن عدَّد طائفة عظيمة من أئمة السلف الصالح والذين جاءوا كلهم قبل ظهور الأشعري والماتريدي قال: "هَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ، وَأَصْحَابِ الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ، الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِيهَا، وَأَدْرَكْتُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ عَلَيْهَا، فَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، أَوْ طَعَنَ فِيهَا، أَوْ عَابَ قَائِلَهَا، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ خَارِجٌ عَنِ الْجَمَاعَةِ، زَائِلٌ عَنْ سَبِيلِ السُّنَّةِ وَمَنْهَجِ الْحَقِّ"؟!
قلت: ومن المعلوم لشيخ الأزهر أن كتب الأشاعرة والماتريدية مشحونة بالطعن على منهج هؤلاء الأئمة من السلف الصالح في إثبات الصفات، واتهامهم بأنهم حشوية مجسمة.
فكيف يجمع السفاريني بين النقيضين، إلا أن يكون متناقضًا، أو لا يعرف حقيقة منهج التأويل الذي عليه أبو الحسن الأشعري –قبل توبته-، والذي عليه أبو منصور الماتريدي، وكلاهما مستبعد، فلم يبق إلا أن يكون هذا الكلام مقحمًا على السفاريني؟!!
.... يتَّبع إن شاء الله.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-01-2016, 02:53 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

تابع
بركان البرهان ضد مقررات مؤتمر الشيشان (3)
إن وقوع السفاريني في بعض عبارات المتكلِّمين الأشاعرة هذا أمرٌ مقررٌ قرَّره العلماء الذين تعرضوا لمنظومته وشرحها بالشرح والتعليق والاستدراك، نحو المشايخ الأجلة: عبدالرحمن بن القاسم، وابن مانع، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، وسليمان بن سحمان –رحم الله الجميع-.
ووقوعه –رحمه الله- في هذا له أسبابه منها تأثره بالبيئة التي حوله، كما حدث للحافظ ابن حجر –رحمه الله-.
أو كما قال العلامة عبدالرحمن بن القاسم –رحمه الله- في حاشيته: "وإن كان أدخل فيها من آراء المتكلمين ما لعله لم يتفطن لها، مما سننبه عليه - إن شاء الله تعالى - ويقع كثيرا من غيره، يذكرون عبارات لم يتفطنوا لها ولو نهبوا لتنبهوا لذلك".
ومن المواضع الموهمة في منظومته، وهو قوله:
36 - (لَهُ الْحَيَاة وَالْكَلَام وَالْبَصَر ... سمع إِرَادَة وَعلم واقتدر)
37 - (بـ قدرَة تعلّقت بممكن ... كَذَا إِرَادَة فعي واستبن)
38 - (وَالْعلم وَالْكَلَام قد تعلقا ... بِكُل شَيْء يَا خليلي مُطلقًا)
39- وسَمعه سُبْحَانَهُ كـ الْبَصَر ... بِكُل مسموع وكل مبصر)
فهذا قد يُفهم منه أنه يثبت الصفات السبع فقط على طريقة الأشاعرة، لكن إذا أكملت قراءة المنظومة وجدت أنه لم يكتفِ بإثبات هذه الصفات السبع، بل أثبت كذلك الصفات الخبرية والأفعال الاختيارية كما يأتي من كلامه في شرحه كذلك.
لكن البحث ليس في هذا، إنما البحث في الاستشكال التالي، ألا وهو:
هل السفاريني يعتبر أصول المنهج الأشعري والماتريدي في التأويل تدخل في نطاق أصول أهل السنة، ومن ثَمَّ أدخل الأشاعرة والماتريدية في حيز أهل السنة أم لا ؟!
وهذا الذي أراد شيخ الأزهر ومَن تابعه الاستشهاد به من كلام السفاريني.
والجواب نجده في كلام السفاريني نفسه في شرحه "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية" حيث قال (1/257):
"وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمِلَّةِ مُخْتَلِفَةً فَمِنْهُمْ، مَنْ نَفَى الصِّفَاتَ مِنْ أَصْلِهَا وَأَثْبَتَ الْأَسْمَاءَ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى الصِّفَاتَ الْخَبَرِيَّةَ وَالْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ أَنْ تَقُومَ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَأَثْبَتَ السَّبْعَ الصِّفَاتَ كَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَكَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَصِفَاتِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى حَثَّكَ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ، وَحَذَّرَكَ مِنَ الِابْتِدَاعِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَأَعْيَانِ الْأَئِمَّةِ، فَقَالَ (فَاحْذَرْ مِنَ النُّزُولِ) مِنْ ذُرْوَةِ الْإِيمَانِ، وَسَنَامِ الدِّينِ وَالْإِيقَانِ، وَأَوْجِ الرِّفْعَةِ وَالْعِرْفَانِ إِلَى حَضِيضِ الِابْتِدَاعِ وَقَاذُورَاتِ الِاخْتِرَاعِ، فَإِنَّ السَّلَامَةَ كُلَّ السَّلَامَةِ فِي اتِّبَاعِ الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، وَالسِّرْبِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوِّلُ لَا مَا ابْتَدَعَتْهُ فُرُوخُ الْجَهْمِيَّةِ وَانْتَحَلَتْهُ أَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ فِرَقِ الْمَشَّائِيَةِ وَالْإِشْرَاقِيَّةِ".
لكن قوله بعد ذلك: "(فَسَائِرُ الصِّفَاتِ) الذَّاتِيَّةِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهَا وَسَائِرُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَدَمِ، وَالْعَيْنَيْنِ وَنَحْوِهَا ((وَ)) سَائِرُ صِفَاتِ ((الْأَفْعَالِ)) مِنَ الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالتَّكْوِينِ وَنَحْوِهَا ((قَدِيمَةٌ لِلَّهِ)) أَيْ هِيَ صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لِلَّهِ ((ذِي الْجَلَالِ)) وَالْإِكْرَامِ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مُحْدَثٌ وَإِلَّا لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَمَا حَلَّ بِهِ الْحَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ".
هذا وافق فيه ابن كُلاَّب والأشعري، والذي يوهم نفيه للأفعال الاختيارية المتعلّقة بالمشيئة، حيث جعل جنس الأفعال من جنس الصفات الذاتية والخبرية بوصفها بالقدم، أي أنها ليست متجددة الآحاد، وهذه شبهة الكلابية التي تابعه عليها الأشعري، رغم أنه أثبت الأفعال الاختيارية في كلامه السابق، بقوله: " وَكَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَصِفَاتِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلَّهِ..."، إلا أن إثباته لها من باب إثبات كونها قديمة النوع ليست متعلقة بالمشيئة.
لكن الشاهد من كلامه أنه بيّن بعبارة واضحة مباينة منهج الأشعري القائم على التأويل منهج السلف وجمهور الأمة، حيث قال: "وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى الصِّفَاتَ الْخَبَرِيَّةَ وَالْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ أَنْ تَقُومَ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَأَثْبَتَ السَّبْعَ الصِّفَاتَ كَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَكَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّة .... إلخ"، وقوله: "كَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ"، يدخل فيه الماتريدية بلا شك، فهذا نصُّ كلامه الموافق للنقولات السابقة عنه في أول كتابه التي تثبت بلا أدنى ريب تعظيمه لمنهج السلف الصالح القائم على الآثار والإثبات دون الرأي والتعطيل، وأنه يعتبر الأشعرية ومن وافقهم –وهم الماتريدية- هم من نفاة الصفات الخبرية والأفعال الاختيارية، ومن ثَمَّ ليسوا على مذهب السَّلَفِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّة.
بل لقد أبطل السفاريني في غير ما موضع أصول الأشاعرة والماتريدية في تأويل بعض الصفات التي يدَّعون أن إثباتها على حقيقتها يفضي إلى التنقص من الله عز وجل والتمثيل له بمخلوقاته، ومن ثَمَّ احتاجوا إلى تأويلها وصرفها عن ظاهرها يرومون التنزيه –زعموا!-.
ومن هذا قوله في (1/100): "وَكَذَلِكَ الرِّضَا وَالْغَضَبُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَظِيمُ وَالنَّبِيُّ الْكَرِيمُ، فَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءُ الْأَئِمَّةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيُثْبِتُونَهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ - تَعَالَى - مَعَ اعْتِقَادِهِمُ التَّنْزِيهَ وَالتَّقْدِيسَ، عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّنْقِيصِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ رَحْمَةَ اللَّهِ وَحُبَّهُ -تَعَالَى- عِبَارَةً عَمَّا يَخْلُقُهُ مِنَ النِّعْمَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِثْبَاتَ هَذَا تَشْبِيهٌ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ رِقَّةٌ تَلْحَقُ الْمَخْلُوقَ، وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ مِثْلِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، (فَالْجَوَابُ) إِنَّ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَلْزَمُ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ مَيْلُهُ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ، وَدَفْعُ مَا يَضُرُّهُ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ ضَرَّهُ وَلَا نَفْعَهُ، بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِرَادَةُ الَّتِي نُثْبِتُهَا لِلَّهِ لَيْسَتْ مِثْلَ إِرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا أَنَّا قَدِ اتَّفَقْنَا وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ - تَعَالَى - حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ الْعُلَمَاءِ الْقَادِرِينَ، (فَالْجَوَابُ) أَنَّا نَقُولُ: وَكَذَلِكَ الرَّحْمَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي نُثْبِتُهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَتْ مِثْلَ رَحْمَةِ الْمَخْلُوقِ وَمَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نَعْقِلُ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ إِلَّا هَذَا، قَالَ لَكَ نُفَاةِ الصِّفَاتِ: وَنَحْنُ لَا نَعْقِلُ مِنَ الْإِرَادَةِ إِلَّا هَذَا. وَقُلْنَا نَحْنُ -مَعْشَرَ أَهْلِ الْأَثَرِ-: لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ فَهِيمٍ، وَلَا مُؤْمِنٍ سَلِيمٍ أَنَّ إِرَادَتَنَا وَمَحَبَّتَنَا، وَرَحْمَتَنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَإِرَادَتَهُ -تَعَالَى- وَمَحَبَّتَهُ، وَرَحْمَتَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَا تُشْبِهُ ذَوَاتِنَا، وَحَيَاتَهُ لَا تُشْبِهُ حَيَاتَنَا، فَرَحْمَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبُهُ كَذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، فَكَيْفَ تُثْبِتُ لَهُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ، وَتَنْفِي عَنْهُ الْأُخْرَى مَعَ وُرُودِ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ؟ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ، وَلَا فِي السَّمْعِ مَا يُوجِبُ التَّفْرِيقَ...".
وتأمَّل أيضًا ذمَّه لمذهب الْمَرِيسِيَّةِ، والذي قامت على أصوله الأشعرية الكلامية والماتريدية، حيث قال في (1/24-25): "وَقَدْ أَجْمَعَ أَئِمَّةُ الْهُدَى عَلَى ذَمِّ الْمَرِيسِيَّةِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ كَفَّرَهُمْ وَضَلَّلَهُمْ، وَيُعْلَمُ بِمُطَالَعَةِ كِتَابِ ابْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ السَّارِيَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ تَسَمَّوْا بِالْخَلَفِ هُوَ مَذْهَبُ الْمَرِيسِيَّةِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَمَذْهَبُ السَّلَفِ حَقٌّ بَيْنَ بَاطِلَيْنِ، وَهُدًى بَيْنَ ضَلَالَيْنِ، قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُوصَفُ اللَّهُ- تَعَالَى- إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ-: مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ - تَعَالَى - بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، فَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا، وَالْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا، وَالْمُسَلِّمُ يَعْبُدُ إِلَهَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
قلت: فانظر إلى تعظيمه كلام أحمد وابن تيمية –رحمهما الله- الذي ينصر معتقد السلف، ويهدم منهج التأويل.
وتأمل كذلك قوله بعد ذلك: "مَذْهَبُ السَّلَفِ هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُورُ، وَالْحَقُّ الثَّابِتُ الْمَأْثُورُ، وَأَهْلُهُ هُمُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ، وَالطَّائِفَةُ الْمَرْحُومَةُ الَّتِي هِيَ بِكُلِّ خَيْرٍ فَائِزَةٌ، وَلِكُلِّ مَكْرُمَةٍ رَاجِيَةٌ، مِنَ الشَّفَاعَةِ وَالْوُرُودِ عَلَى الْحَوْضِ، وَرُؤْيَةِ الْحَقِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَالتَّسْلِيمِ لِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْخَالِفُونَ أَعْلَمَ مِنَ السَّالِفِينَ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَدَيْهِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ قَدْرَ السَّلَفِ، وَلَا عَرَفَ اللَّهَ - تَعَالَى - وَلَا رَسُولَهُ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ بِهِ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مِنْ أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وَطَرِيقَةَ الْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا أُتُوا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فِقْهِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّيِّينَ، وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ هِيَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي النُّصُوصِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ حَقَائِقِهَا بِأَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ وَغَرَائِبِ اللُّغَاتِ، فَهَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ أَوْجَبَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الَّتِي مَضْمُونُهَا نَبْذُ الْإِسْلَامِ وَرَاءَ الظُّهُورِ، وَقَدْ كَذَبُوا وَأَفَكُوا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَضَلُّوا فِي تَصْوِيبِ طَرِيقَةِ الْخَلَفِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ بَاطِلَيْنِ: الْجَهْلِ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ، وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِتَصْوِيبِ طَرِيقَةِ غَيْرِهِمْ...".
قلت: وأنا في صدد البحث والتنقيب عن الأصول الخطية لشرح السفاريني؛ كي أحاول أن أدرسها دراسة كوديكولوجية لعلِّي أظفر ببغيتي، والله الموفِّق.
ولم أحصل حتى الآن إلا على المخطوطة الأزهرية، ووجدت النص ثابتًا فيها غير مقحم، لكن ما زال كلامه في هذا الموضع (1/73) يتنافى في نقدي مع سابقه ولاحقه، ويؤكد هذا إنكاره في موضع لاحق له إدخال الأشعرية والماتريدية في الفرقة الناجية، وأن لفظ حديث الفرق ينافي التعدد في الفرقة الناجية بل هي واحدة، وهي فرقة أهل الأثر أي أصحاب الحديث، حيث قال في (1/176): "قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُمْ يَعْنِي الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ، أَهْلُ الْحَدِيثِ، يَعْنِي الْأَثَرِيَّةَ وَالْأَشْعَرِيَّةَ وَالْمَاتُرِيدِيَّةَ، قُلْتُ: وَلَفْظُ الْحَدِيثِ يَعْنِي قَوْلَهُ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً يُنَافِي التَّعَدُّدَ، وَلِذَا قُلْتُ:
(وَلَيْسَ هَذَا النَّصُّ جَزْمًا يُعْتَبَرْ فِي فِرْقَةٍ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْأَثَرْ)
(وَلَيْسَ هَذَا النَّصُّ) الْمَذْكُورُ عَنْ مَنْبَعِ النُّورِ وَمِصْبَاحِ الدَّيْجُورِ (جَزْمًا) يَحْتَمِلُ الْمَصْدَرِيَّةَ، أَيْ أَجْزِمُ بِهِ جَزْمًا، أَوْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ (يُعْتَبَرْ) أَيْ يُسْتَدَلُّ بِهِ وَيُوَافِقُ (فِي فِرْقَةٍ) أَيْ لَا يَنْطِقُ وَيَصْدُقُ عَلَى فِرْقَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً (إِلَّا عَلَى) فِرْقَةِ (أَهْلِ الْأَثَرْ) وَمَاعَدَاهُمْ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ قَدْ حَكَّمُوا الْعُقُولَ، وَخَالَفُوا الْمَنْقُولَ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ، فَأَنَّى يَصْدُقُ عَلَيْهِمُ الْخَبَرُ، أَوْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمُ الْأَثَرُ".
قلت: ومهما كان، فكلام السفاريني ككلام غيره من العلماء ليس وحيًا منزلاً، بل هو عُرْضة للخطأ والصواب، ولا يعرف خطؤه من صوابه إلا بأن يُعرَض على النصوص المحكمة من الكتاب والسنة.
ولكنَّا في معرض الحجاج ضد خصوم لهم صيت يخطف القلوب الضعيفة التي قد لا تسلِّم بسهولة لهذا الأصل الأصيل بسبب ما ران على قلوبهم من التعلق بالرجال والتقديس لأقوالهم، ومن ثَمَّ نحاول أن نزيل الشبهات العالقة بكلام هؤلاء العلماء الذين يريدون أن يجعلوا كلامهم حجة على باطلهم، بأن نبين لهم أن هؤلاء العلماء أنفسهم الذين تحتجون بكلامهم، هم على خلاف ما تريدون، فإن أردتم الاحتجاج بهم، فاحتجوا بما أتوا به من الحق، ولا تتعلَّقوا بعبارة وردت في كلامهم خطأ أو لا تصح نسبتها إليهم.
وهذه طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الحجاج مع المخالفين لمَن خَبِر طريقته.
  • وجاء أيضًا في البيان الذي نشره المركز الإعلامي بالأزهر تعقيبًا على مقررات مؤتمر الشيشان: "واستدل “الطيب” بقول العلَّامة مرتضى الزَّبيدي: "والمراد بأهل السُّنة هم أهل الفِرَق الأربعة: المحدِّثون، والصُّوفية، والأشاعرة، والماتريدية"، معبرًا بذلك عن مذهب الأزهر الواضح في هذه القضية".
قلت: العلامة محمد مرتضى بن محمد بن محمد بن عبدالرزاق الحسيني العلوي، الزَّبيديُّ النَّسب، وكنيته أبو الفيض، أو أبي الوقت، ترجم له العلامة المسند محمد عبدالحي الكتاني في "فهرس الفهارس" (1/526-528) ([1])، ومما ذكره في التعريف به: "الواسطي العراقي أصلاً، الهندي مولدًا، الزَّبيدي تعلُّمًا وشهرة، المصري وفاةً، الحنفي مذهبًا، القادري إرادًة، النقشبندي سلوكًا، الأشعري عقيدة، هكذا يصف نفسه في كثير من إجازاته التي وقفت عليه بخطِّه".
قلت: وهذا تصريح واضح منه بأنه أشعري صوفي نقشبندي قادري، فماذا تنتظر منه؟
وهو من المتأخرين حيث كانت وفاته في عام 1205هـ، أي في أول القرن الثالث عشر، فكيف تقدم شهادته على شهادة أئمة القرون المفضَّلة الأولى الذين لم يعرفوا الأشاعرة ولا الماتريدية، وكان معتقد أهل السنّة قد دُوِّن في المصنَّفات قبل مولد الأشعري والماتريدي؟!
.... يتَّبع إن شاء الله.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري

([1]) وانظر ترجمة مفصَّله له، والتي ترجم له بها: نظام محمد صالح اليعقوبي، ومحمد ناصر العجمي في تحقيقهما لـ "المعجم المختص للزّبيدي، ويليه المعجم الصغير لشيوخه، وإجازاته للعلامة محمد سعيد السويدي" (ط دار البشائر)، وكذلك محمد عدنان البخيت، ونوفان رجا السوارية في تحقيقهما للكتاب نفسه لكن دون المعجم الصغير والإجازات (ط مركز الملك فيصل).

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-01-2016, 02:53 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

تابع... برهان البركان ضد مقررات مؤتمر الشيشان (4)
قولي –سلمك الله-: "فهذا قد يُفهم منه أنه يثبت الصفات السبع فقط على طريقة الأشاعرة، لكن إذا أكملت قراءة المنظومة وجدت أنه لم يكتفِ بإثبات هذه الصفات السبع، بل أثبت كذلك الصفات الخبرية والأفعال الاختيارية كما يأتي من كلامه في شرحه كذلك"، ليس المقصود به هذا البيت:
وَلَيْسَ رَبُّنَا بِجَوْهَرٍ وَلَا ... عَرَضٍ وَلَا جِسْمٍ تَعَالَى ذُو الْعُلَى
وقد بيّنت بعبارة واضحة: "أن وقوع السفاريني في بعض عبارات المتكلِّمين الأشاعرة هذا أمرٌ مقررٌ قرَّره العلماء الذين تعرضوا لمنظومته وشرحها بالشرح والتعليق والاستدراك، نحو المشايخ الأجلة: عبدالرحمن بن القاسم، وابن مانع، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، وسليمان بن سحمان –رحم الله الجميع-".
إنما كلامي واضح في الإشارة إلى الأبيات التالية في إثباته لبقية الصفات على طريقة أهل السنة، فلم يقتصر على الصفات السبع؛ حيث قال:
سُبْحَانَهُ قد اسْتَوَى كَمَا ورد ... من غير كَيفَ قد تَعَالَى أَن يحد
فَلَا يُحِيط علمنَا ب ذَاته ... كَذَاك لَا يَنْفَكّ عَن صِفَاته
فَكل مَا قد جَاءَ فِي الدَّلِيل ... فثابت من غير مَا تَمْثِيل
من رَحْمَة وَنَحْوهَا ك وَجهه ... وَيَده وكل مَا من نهجه
وعينه وَصفَة النُّزُول... وخلقه فاحذر من النُّزُول
وإن كان قوله –رحمه الله-:
وَلَيْسَ رَبُّنَا بِجَوْهَرٍ وَلَا ... عَرَضٍ وَلَا جِسْمٍ تَعَالَى ذُو الْعُلَى
فإنه يحتمل وجهًا صحيحًا على طريقة أهل السنة، كما قال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في "شرح العقيدة السفارينية" (ص223):
"هذا الكلام من المؤلف رحمه الله يحتمل وجهين:
الوجه الأول: "ولسنا نقول: - ربّنا - جوهرًا أو عرَضًا أو جسمًا"، يعني لا نقول بذلك بل نسكت، وهذا الوجه صحيح، يعني لا يجوز لنا أن ننفي أن الله جوهر أو عرض أو جسم، كما لا يجوز لنا أن نثبت ذلك؛ لأنه لم يرد في القرآن ولا السنة إثبات ذلك ولا نفيه، والمعتمد في صفات الله هو الكتاب والسنة، فإذا لم يرد فيهما إثبات ولا نفي وجب علينا أن لا نقول بالإثبات ولا بالنفي.
الوجه الثاني لكلام المؤلف: نفي الجوهر لا نفي القول به، وعلى هذا الوجه يكون معناه القول بنفي الجوهر، يعني إننا نقول: إنه ليس بجوهر.
والفرق بين الوجهين ظاهر".
وإن كان الشيخ –رحمه الله- رجّح الوجه الثاني، حيث قال: "وأما الوجه الثاني وهو القول بأنه ليس بجوهر فهذا غير صحيح، وهو ظاهر كلام المؤلف، فالمؤلف - رحمه الله - يرى أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الله ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، ولا شك أن هذا النفي ليس بصحيح، ولم يقل أهل السنة بذلك، وليس هذا مذهبهم؛ لأنهم لا يجزمون بنفي شيء أو إثباته إلا بدليل، وهذا ليس فيه دليل، لا إثباتًا ولا نفيًا.
والجوهر: هو ما قام بنفسه، والعرض: هو ما قام بغيره، والجسم: يعني ما له تمثال، يعني أنه شيء ملموس أو قائم مجسم.
فالمؤلف رحمه الله يرى أن من عقيدتنا أن ننفي هذه الثلاثة عن الله عز وجل، ولكن هذا ليس بصحيح وليس من مذهب أهل السنة والجماعة وذلك أن هذه الألفاظ ألفاظ حادثة لم تكن معروفة عند السلف فلا يوجد في أقوال السلف قول يقول: إن الله جسم ولا أنه ليس بجسم، ولا أن الله عرض ولا أنه ليس بعرض، ولا أن الله جوهر ولا انه ليس بجوهر، لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف.
لكن المتكلِّمين لما حدثت فتنتهم صاروا يذكرون هذه الكلمات للتوصل بنفيها إلى نفي الصفات عن الله، فمثلا يقولون: النزول لا يكون إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم، وإذا انتفى الملزوم انتفى اللازم، إذن لا ينزل الله إلى السماء الدنيا، كذلك الاستواء على العرش حقيقة يستلزم أن يكون الله جسمًا، والله تعالى ليس بجسم، إذن فنفي استواء الله على العرش، وهكذا أتى المتكلمون بمثل هذه العبارات ليتوصلوا بها إلى نفي صفات الله عز وجل، وإلا فليس لهم غرض في نفي هذا أو إثباته إلا هذه المسألة".
قلت: لكن السفاريني –رحمه الله- ما قصد هذه المعاني الباطلة التي أرادها المتكلِّمون، بدليل أنه أنكر كلامهم إنكارًا شديدًا في شرحه "لوامع الأنوار البهية"، وأثبت هذه الصفات إثباتًا واضحًا، وإن كان أخطأ في العبارة السابقة.
وكان مِمَّا قاله في "لوامع الأنوار البهية" (1/190): "((قَدِ اسْتَوَى)) عَلَى عَرْشِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِذَاتِهِ ((كَمَا وَرَدَ)) فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَالنُّصُوصِ السَّلَفِيَّةِ، مِمَّا لَا يُحْصَى وَيَتَعَذَّرُ أَنْ يُسْتَقْصَى، فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ عَامَّةُ كَلَامِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ كَلَامُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الدِّينِ مِمَّنْ تُلْوَى عَلَى كَلَامِهِمُ الْخَنَاصِرُ، وَلَا يُنَازِعُ فِيهِ إِلَّا كُلُّ مُعَانِدٍ وَمُكَابِرٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذُهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ. وَذَكَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا...".
قلت: لكن وقع منه –رحمه الله- في إثباته صفة الرحمة شيء من التأويل الموافق للأشاعرة، وإن كان ردَّ عليهم بعض ما قالوه في تأويل الرحمة، فقال كما في لوامع الأنوار البهية (1/32): "وَرَحْمَةُ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ - صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ - تَعَالَى - تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ وَالْإِنْعَامَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا بِرِقَّةٍ فِي الْقَلْبِ تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ، فَالتَّفْضِيلُ غَايَتُهَا، فَيُرَادُ مِنْهَا غَايَتُهَا".
وقال في (1/221): "قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةً عَمَّا يَخْلُقُهُ مِنَ النِّعْمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ رَحْمَتَهُ إِرَادَتَهُ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الرَّحْمَةَ لُغَةً رِقَّةُ الْقَلْبِ وَانْعِطَافِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ التَّابِعَةِ لِلْمِزَاجِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهَا، فَالْمُرَادُ بِهَا فِي حَقِّهِ إِرَادَةُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ يَرْحَمُهُ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تُؤْخَذُ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، دُونَ الْمَبَادِئِ الَّتِي هِيَ انْفِعَالَاتٌ".
قال العلامة ابن عثيمين –رحمه الله- في شرح السفارينية (ص247): "فهم –أي الأشاعرة- يثبتون الإرادة؛ ولذلك يفسرون الرحمة بإرادة الإحسان، فيقولون: الرحمن الرحيم: يعني المريد للاحسان، أو المحسن، فيفسرون الرحمة بلازمها ومقتضاها، ولا شك أن هذا تحريف.
والرد عليهم في ذلك بأن يقال: ما دام أثبتم الإرادة فليس هناك ما يمنع أن تثبتوا الرحمة، وما زعمتم من أن الرحمة رقة ولين وضعف فالجواب عن هذا بأمرين:
الأول: منع أن تكون الرحمة دالة على الرقة واللين والضعف.
والثاني: لو قدر أن هذا مقتضاها باعتبار رحمة المخلوق، فإن ذلك لن يكون مقتضاها باعتبار رحمة الخالق".اهـ
قلت: وأكرر أن البحث ليس في وقوع بعض عبارات الأشاعرة المتكلّمين في كلام السفاريني، لكن دون قصد منه لالتزام أصولهم، إنما البحث في الاستشكال التالي، ألا وهو:
هل السفاريني يعتبر أصول المنهج الأشعري والماتريدي في التأويل تدخل في نطاق أصول أهل السنة، ومن ثَمَّ أدخل الأشاعرة والماتريدية في حيز أهل السنة أم لا ؟!وهذا الذي أراد شيخ الأزهر ومَن تابعه الاستشهاد به من كلام السفاريني.
وقد بيَّنت بجلاء الإجابة عن هذا السؤال في التقرير السابق، فلا حاجة للإعادة، والله المستعان.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-01-2016, 02:55 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

تابع... برهان البركان ضد مقررات مؤتمر الشيشان (5)
أخي المنتقد -هداك الله وأرشدك- من الواضح أنك لم تقرأ كلامي ونقدي للسفاريني، أو أنك قرأت ولم تفهم المغزى؛ لقصور في الفهم.
لذا فإن نصيحتي لك أن تقرأ الكلام جيدًا، ولا تستعجل في النقد من أجل النقد، فإن قولك: "فكما تبين لك أن الشيخ رحمه الله عليه بعض المؤاخذات التي خالف فيها أهل السنة والجماعة، وإذا كان فيه إشكال في منهجه كما هو الحال هنا، فلا يكتفى بما في هذه الأبيات، بل ويراجع كذلك ما ألفه".
قلت: وهل كان ذلك خافيًا عليَّ؟!
وهل أنا اكتفيت بما في الأبيات؟! ألا يكفيك ما نقلته من نقولات عدة من شرحه "لوامع الأنوار البهية" والتي بعضها انتصر فيه انتصارًا واضحًا لطريقة أهل الحديث والأثر، وفي بعضها الآخر خالف فيها هذا الطريق، ووافق الأشاعرة –كما بيّنت سابقًا-، ومن هذا قولي منتقدًا إياه: "هذا وافق فيه ابن كُلاَّب والأشعري، والذي يوهم نفيه للأفعال الاختيارية المتعلّقة بالمشيئة، حيث جعل جنس الأفعال من جنس الصفات الذاتية والخبرية بوصفها بالقدم، أي أنها ليست متجددة الآحاد، وهذه شبهة الكلابية التي تابعه عليها الأشعري".
وأما قولك: "وما قاله أهل العلم في تعليقاتهم عليه وشروحهم".
ألم تقرأ قولي: "إن وقوع السفاريني في بعض عبارات المتكلِّمين الأشاعرة هذا أمرٌ مقررٌ قرَّره العلماء الذين تعرضوا لمنظومته وشرحها بالشرح والتعليق والاستدراك، نحو المشايخ الأجلة: عبدالرحمن بن القاسم، وابن مانع، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، وسليمان بن سحمان –رحم الله الجميع-"؟!
وبيّنت لك موطن الإشكال ونقطة البحث التي أناقش فيها شيخ الأزهر، فلِمَ الحيدة والمراوغة؟!
وما نقلته عن الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بُطين قد يكون له وجه، وإنما شكّكت في صحة نسبة القول بإدخال الأشاعرة والماتريدية في أهل السنة إلى السفاريني، لما بيّنته من أنه –وإن وافق الأشاعرة في بعض تأويلاتهم، لم تكن موافقته إياهم التزامًا منه لأصولهم في التأويل، بدليل أنه –كما نقلت من كلامه في شرحه- ينكر هذه التأصيلات ولا يرضى بها، رغم أنه وقع في بعضها، بل في موطن آخر أنكر دخول الأشاعرة في الفرقة الناجية، وهذا لعله تناقض منه أو غفلة.
لكن العجيب من أمرك أنك كأنك تتعمّد التغافل عمَّا ذكرته من هذا الكلام الواضح البيِّن والذي بيَّنت فيه مخالفة السفاريني لمعتقد أهل السنة في بعض المواضع أو تناقضه.
فرجاء –حياك الله- الاكتفاء بما ذكرناه، وأن تدع مجال النقد لمن يحسنه من أهل العلم، وأن تشتغل بأمر آخر ينفعك، وتترك لي المجال لإتمام الردّ على ما هو أطمّ وأعظم من مقررات هذا المؤتمر الخبيث، ومن كلام شيخ الأزهر وعلي جمعة والجفري.
وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-01-2016, 02:55 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

تابع... برهان البركان ضد مقررات مؤتمر الشيشان (6)
(فصل) في بيان حال حبيب الجفري
من أجل أن تظهر لنا أكثر وأكثر حقيقة المؤامرة التي حيكت في مؤتمر الشيشان، علينا أن نعرف حقيقة حبيب الجفري.
فأقول: هو حبيب علي زين العابدين الجفري اليمني، السعودي مولدًا -صاحبمؤسسة طابة للدراسات الإسلامية بأبي ظبي- وصاحب فكرة هذا المؤتمر المشبوه في جروزني، ومؤسسته هي الراعية للمؤتمر.
جاء في "الموسوعة الحرة" (الويكيبديا): "من مواليد 16 أبريل 1971 جدة".
وجاء فيها: "يعدّه المهتمون بالتصوف خاصة علماء الشام والمغرب العربي ومصر واليمن أنه من أعلام التصوف المعتدل الذي دعا إليه أئمة السلف أمثال الحسن البصري والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، وحتى العلماء المتأخرين من أمثال ابن تيمية، فالحبيب علي الجفري يعدّ في نظرهم امتدادًا لعلماء السلف".
قلت: أئمة السلف الصالح، ومنهم: الحسن البصري، والإمام مالك والإمامالشافعي والإمام أحمد بن حنبل –والله- ما دعا أحدٌ منهم إلى التصوف أبدًا، بل كانوا من أشدِّ العلماء نهيًا عن البدع والمحدثات، وأحرصهم على التزام السّنّة عقيدةً وعملاً.
ومن أجل أن تعرف حقيقة الحبيب الجفري الصوفي المخرف، انظر إلى تبركه بشيخه: محمد ناظم الحقاني –داعية الخرافة والوثنية في قبرص-، وهو يستجيزه في الذكر الصوفي المبتدع، بل انظر إلى التبرك الجماعي بالحقاني بمشاركة الجفري مع أخذ البيعة منه على الطريقة النقشبندية الوثنية، وهذا ثابت في مقطع مشهور متداول عبر الشبكة العالمية للاتصالات.
ومن طوام هذا الحقاني النقشبندي أنه أخذ يصيح في أتباعه ضاحكًا مستبشرًا: لعنة الله على الوهَّابية والسلفية.
ولما قيل له: أليس هذا من السبّ؟ أجاب: نحن عتقاء الرحمن ! ثم أشار إلى كتفه الأيسر قائلاً: هذا –يقصد الملك- لا يكتب شيئًا –أي من السيئات-!!
وفي لقاء آخر: سئل الحقاني: هل المهدي هو محمد بن الحسن العسكري كما يعتقد الشيعة الإمامية الإثنى عشرية؟
فأجاب: نعم هو المهدي.
وقد أشيع على الجفري أنه تشيع، وصار من الرافضة الإمامية الإثنى عشرية، بل كما ادعى الجفري نفسه في لقاء معه أن وكالة أنباء فارس أذاعت هذا الخبر، لكن في لقاء الحبيب الجفري مع برنامج "واحد من الناس" على قناة دريم الفضائية مع المذيع عمرو الليثي نفى بحزم هذه الشائعة مؤكدًا أنه سني المذهب، وأن الاختلاف عن الشيعة لا يؤدّي إلى التكفير إنما إلى قناعة بأنهم مجانبون للصواب مثلما يعتقدون هم في المذهب السنّي.
وفي لقاء للجفري بقناة الخليجية يصرح بأنَّا لا نكفّر الشيعة الإمامية الإثنى عشرية، وأن موقفنا أنا لا نكفِّرهم ما لم يصدر من أحدهم سببًا للتكفير.
قلت: يعني لا فرق عند الجفري بين السنة والشيعة من جهة أنه يثبت الإسلام للجميع، فهو يثبت الإسلام لرافضة إيران والعراق ولبنان والحوثيين الذين يكفِّرون أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم بل يكفِّرون عامة الصحابة، ويقذفون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالزنا، ويؤلهون أئمتهم، ويتقربون إلى الله باستباحة دماء المسلمين –أي النواصب على مذهبهم-.
وإذا دافع المسلمون عن الصحابة وعن دمائهم وأعراضهم، فلا فرق عنده بينهم وبين الروافض الذين يدافعون بزعمهم عن آل البيت ويكفّرون الصحابة ويستبيحون دماء المسلمين!
ووجّه في لقاء قناة دريم رسالة مركَّزة وحازمة إلى الشيعة: "العالم يتواطأ عليكم الآن، فلا تفقدوا دعم إخوانكم من السنة واحترموا خصوصياتهم".
قلت: هكذا يوالي هؤلاء الروافض الباطنية، ويطلب بخبث وقوف المسلمين الرافضين للتشيع بجانبهم يدعمون ضلالهم وزندقتهم، لكنه كأنه يطالب الرافضة أن يستخدموا التقية مع المسلمين؛ كي يحيّدوهم عن حقيقة أمرهم وخبيء معتقدهم الباطني.
والجفري يحاول أن يظهر في صورة المعتدل الرافض للتطرف بكل صوره، المهادن لكل الاتجاهات، كما في مقاله: "القاسم المشترك بين التنظيمات السياسية التي تعمل باسم الدين"، حيث قال: "فكم تضررت القضية الفلسطينية من استغلالها في هذا النوع من الألاعيب، فأنصار بيت المقدس يضربون الجيش المصري بدعوى أن طريق تحرير القدس يبدأ من القاهرة، وداعش يهتفون بأن تحرير القدس يبدأ من الرياض، وفيلق القدس الإيراني يضرب المسلمين السنة في العراق وسوريا بدعوى محاربة داعش، وبعض قوات الحشد الشعبي يقتلون ويحرقون إخوتهم من السنة مع هتافات الثأر للحسين، وهتافات الإخوان في الانتخابات الرئاسية في مصر “عالقدس رايحين شهداء بالملايين”، والقدس الذي تحمل هذه التنظيمات اسمه وتهتف له أبعد ما يكون عن جهودهم على أرض الواقع، وهو أول المتضررين بفقد الشعوب حماسها لنصرته نتيجة لكثرة استغلاله في الصراعات السياسية البعيدة عن قضيته.
والحوثيون يهتفون “الموت لأمريكا الموت لإسرائيل” ولم يقتلوا جنديًّا واحدًا من الكيان المحتل، بل كان جميع ضحاياهم من المسلمين، بل لقد طالت أسلحتهم المدنيين الذين لم يحملوا ضدهم سلاحًا كما فعلوا بالنازحين المدنيين أثناء قتالهم مع خصومهم في عدن.
وخصومهم من الإخوان والسلفية يهتفون ضد المجوس وليس لدينا في اليمن مجوسي واحد، بل شعب مسلم مع أقلية يهودية."اهـ
وقال في مقال: "الإنجازات العشرة لـ”داعش": "الدواعش: مصطلح يدل على منظومة فكرية وسلوكية منحرفة تتنوع التصنيفات الطائفية والفكرية لمعتنقيها، فتنظيم داعش كسابقيه ولاحقيه من التنظيمات الإجرامية، المنتسبة إلى السنة أو الشيعة أو المسيحية أو العلمانية، هو تنظيم له مخرجات وآثار تتجاوز البشاعة الدموية إلى الأضرار الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومنها هذه العشرة:
  • اهتزاز قدسية الشريعة المطهرة فى نفوس الشعوب المسلمة بسبب ما يشاهدونه من التطبيق البشع المشوّه للأحكام الشرعية والمحرف لها، ومن ثمّ فتح المجال للعلمانية المتطرفة للنيل من الشريعة، مع تقبل شرائح متسعة من الشعوب لهذا التطاول على الشريعة.
  • تضخم الانقسامات «الطائفية»، سنة وشيعة ومسيحيين –كذا- وغيرهم، و«العنصرية»، عرب وفرس وأتراك وأكراد، والفكرية، إسلامية وليبرالية، على نحو يُنذر بالدمار الكلى حال استمرار صيحات الانقسام والثأر.
  • تآكل الطبقة الفكرية المتوسطة، فكما أن الرأسمالية المتوحشة أدت إلى تآكل الطبقة المتوسطة اقتصادياً لصالح الفقر المدقع والغنى الفاحش؛ فكذلك أدى وجود داعش وأمثالهم إلى تآكل الطبقة المتوسطة فكريًّا لصالح كلا التطرفين الدينى واللادينى.
  • اتساع دائرة تغير موقف الشعوب تجاه التدخل العسكرى للدول والتحالفات الخارجية: ففى عام 2003 كانت الحرب الأمريكية ضد العراق أمرًا مرفوضًا لدى غالبية الشعوب العربية والإسلامية، بل لدى كثير من شرائح الشعب العراقى نفسه، على الرغم من رفضه لنظام صدام.. واليوم أصبحت غالبية شعوب المناطق المتضررة من داعش تستنجد بالتحالفات الخارجية للتخلص من هذه الكارثة أو على الأقل تتقبل تدخلها.
  • إهدار الثروات العربية وتسريب النفط إلى السوق الخفية بأسعار منخفضة لا تقارن بالقيمة الحقيقية لها، وإنعاش السوق السوداء للآثار المسروقة.
  • إنعاش مصانع السلاح فى الدول الكبرى، ورواج سوق مافيا السلاح على حساب اقتصاد دول المنطقة.
  • جمع غالبية مُنظّرى الفكر ومتصدرى الخطاب الثقافى فى الغرب فى بوتقة معاداة الإسلام بعد أن كان التوسع هو سمة دائرة المتفهمين لعدالة قضايا المسلمين والمطالبين بضرورة رفع الظلم عنهم، والمتعاطفين مع مظلوميتهم.
  • تحويل المسلمين فى الغرب من موقف المطالبة بالحقوق المستحَقَّة بموجب المواطنة إلى حالة الدفاع عن حق الوجود، أمام الاتهامات الموجهة إليهم، وحالة الرفض لوجودهم، ونمو معدلات إرهاب الإسلام «الإسلاموفوبيا".
  • الإضرار بما تبقى من سمعة حسنة للإسلام فى العالم، وخفض معدلات انتشاره الطبيعى، بل تجاوز الأمر ذلك إلى ارتداد أعداد من المسلمين عن دينهم وتفلُّت أعداد أكبر من الالتزام الدينى.
  • ضياع القضية الفلسطينية وتحقق الأمن للكيان الصهيونى الذى يُعد المستفيد الأكبر مما يحصل.
تلك عشرة إنجازات كاملة لتنظيم داعش مع قابليتها للزيادة كلما استمر وجود هذا التنظيم وأمثاله، لا سيما عند سقوطه بعد أن يؤدى دوره المنوط به، لما سوف يصاحب ذلك من حالة إحباط ويأس لدى عشرات الآلاف من الشباب المنتمين إليه ومئات الآلاف من المتعاطفين معه والمرتقبين لوهم إعادته دولة الخلافة الإسلامية، وكذا ما سوف يخلّفه ضرب هذا التنظيم من قتلى وجرحى وخراب.. فاعتبروا يا أولى الألباب.
وأخيرًا...
- هل يبقى بعد كل هذا مجال لاستمرار الصمت عن تبيين خطورة هذا الفكر الخارجي؟
- أم أن السكوت اليوم هو جريمة تصل بمرتكبها إلى درجة المشاركة فى الجريمة؟
- وهل بقى لدى العلماء شك فى أن إثم السكوت هنا يدخل صاحبه فى دائرة كتم العلم، وكتم الشهادة، وتضييع الدين؟
- أم هل بقى لدينا متسع لاستمرار المغيبين فى «الاندفاع» نحو هؤلاء الخوارج أو «الدفاع» عنهم والتبرير لجرائمهم؟".اهـ
قلت: وهذا التحليل لأهداف إيجاد هذا التنظيم الخارجي "داعش" في جملتها حقٌّ، وسبحان الله الذي قد يجري كلمة الحق على لسان الفاجر.
لكن الجفري الذي يدعو إلى وجوب تبيين خطورة هذا الفكر الخارجي –ونحن معه على هذا الإيجاب-، يرى أن السلفيين –حقًّا لا ادعاءً- وعلماءهم خوارج كذلك، بل لا يرى دخولهم في أهل السنة والجماعة، وهذا كان هدفه الرئيسي من مؤتمر الشيشان أن يظهر للعالم أن الدعوة السلفية –والتي تحمل رايتها الدولة السعودية- هي دعوة متطرفة، ولا فرق بينها وبين هؤلاء الخوارج الدواعش.
وفي مقال "سوريا المذبوحة" قال: "طرف دخل فيه من تسمّوا «المجاهدين» الذين نشأت حركتهم وترعرعت فى أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتى السابق بدعم سخى من الولايات المتحدة وحلفائها فى المنطقة.
وقد رفع أولئك شعار الانتصار للصحابة من الشيعة الذين يعتبرونهم كفارًا وأعداءً للإسلام وروّجوا لمفهوم أنهم أشد خطراً على المسلمين من اليهود، ما أعطاهم المبرر لجعل قتالهم مقدماً على قتال الكيان الصهيونى نفسه، بل وصل بهم الأمر إلى الاحتفاء بالعدوان الصهيونى المتكرر على سوريا بذريعة أن الصهاينة يهاجمون من هم أسوأ منهم!".
قلت: لا يشك منصف عاقل أن رافضة اليوم –خاصة رافضة إيران والعراق ولبنان- أشد بأسًا وتنكيلاً في المسلمين من اليهود، وأن الحقد الذي في قلوبهم على المسلمين ورغبتهم في إبادتهم فاق اليهود والنصارى بمراحل.
وكي تدرك تلاعب هذا الجفري، وأنه يظهر بوجهين على حسب المقام، ويستخدم التقية أحيانًا، راجع مقاطع طاماته الشركية المبثوثة على قناة "اليوتيوب"، ومنها ما يلي:
  • أولاً: غناؤه مع معمّم أزهري وطائفة من الصوفية في مسجد الحسين منشدين بصوت مرتفع، ورءوسهم تتمايل: "أنا بذكره –أي بذكر الحسين- أفضل متهني، أنا من حسين وحسين مني، مدد يا مولانا يا حسين مدد يا زين العابدين!!!".
قلت: ومن المعلوم أن المدد لا يطلب إلا من الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.
وقال الله عز وجل: {بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ}.
وقال سبحانه: { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}.
وهذا النداء للحسين رضي الله عنه دعاء لمن لا يسمع الدعاء، فإن الله هو السميع البصير، والحسين رضي الله عنه في عالم البرزخ لا يعلم شيئًا عن أحوال أهل الدنيا، ولا يملك سماع ندائهم، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ. إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
  • ثانيًا: دعواه أن الأدب في زيارة قبور الصالحين أن تقف مطرق الرأس بينك وبين القبر ثلاثة أذرع إعظامًا وإجلالاً لصاحب القبر؛ مستشعرًا هيبة الموقف الذي هو فيه، وليس التمسح حرامًا وليس التمسح شركًا كما يزعم الجهلة، إنما التمسح ينافي الأدب، ويغتفر لمن تمسح بدافع شدة الشوق والوجد وغلبته، فالمغلوب معذور، ولذلك سقط بلال وتمرغ؛ ولم يتمرغ أبو بكر، ولم يتمرغ عمر، ولم يتمرغ عثمان، ولم يتمرغ علي؛ لأنهم راعوا الأدب، وإنما تمرغ بلال لشدة الوجد والشوق التي أخذته لما رأى القبر".
قلت: وهل بلال رضي الله عنه لم يراع الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ولماذا لم يأخذ هذا الوجد وهذا الشوق أبا بكر وعمر وعثمان وعلي ولو مرة واحدة؟ هل كان بلال أكثر محبة وشوقًا للنبي صلى الله عليه وسلم منهم ؟!
هذا –والله- تلاعب بعقول العوام السُّذَّج، واستغفال لهم، واستغلال خسيس لعاطفتهم اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
  • ثالثًا: قول الجفري: "كان بعض السلف، وهو الإمام أبو الحسن الشاذلي، في ساعة استشعار مخطابة ومناجاة للربِّ جلَّ جلاله يقول: ربي كيف أحمدك كيف أشكرك يا رب حق الشكر على النعمة؟ قال: فهتف بي هاتف إذا لم تر منعمٌ عليه غيرك، قال –أي الربّ-: فالملوك لأمنك، والأنبياء لهدايتك، والعلماء لرعايتك ورشدك، فأهل التجارات لميرك وطعامك".
قلت: أولاً أبو الحسن الشاذلي ليس من السلف، فإن السلف إذا أطلق، فالمقصود به أهل القرون الثلاثة الأولى المفضّلة من الهجرة، والشاذلي توفي في سنة (656 هـ).
ولو سلّمنا أن أبا الحسن الشاذلي عاش في زمن السلف الصالح، وادعى هذه الدعاوى فإنها لا تقبل منه، وقد كان أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس كُلُّ فعل حدث في زمن السلف يكون حجة، فقد ظهر في زمن السلف: الجهم بن صفوان، وابن أبي دوآد، وعمرو بن عبيد المعتزلي، والحارث المحاسبي، وغيرهم من أئمة الضلال، وردَّ على أباطيلهم أئمة السلف الصالح، وفروها فري الأديم، حتى صارت هباء منثورًا.
والصوفية يتعلّقون بخرافة: "حدثني قلبي عن ربّي"، و"أخذتم علمكم عن الأموات، ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت".
  • رابعًا: سأل الجفري سائل فقال: "في كتب بعض أئمة التصوف يقولون الله يفوص الولي في التصرف في الأمور كما يشاء؟
فأجاب الجفري: الله أعطاهم مقدرة على التصرف، كما اتفقنا أن الإنسان خليفة الله في الأرض! ما هي وظيفتك إذا قلت لك يا شيخ محمد أنت خليفتي في الدار إذا سافرت.. ما معنى كلمة الخليفة؟ المتصرف، هذا المقصود من الخلافة.. يأ أخي الحديث واضح: "لئن سألني لأعطينه" ...
قال السائل: فهل تصريف الولي في الدنيا فقط؟
فأجاب الجفري: في الدنيا والآخرة، الملك ملك الله، تصريف الولي في الدنيا والآخرة، حتى في الآخرة، حتى في الجنة وفي النار، ربّنا يجعل الولي يدخل من يبغاه الجنة .. يقطع الجنة على كيفه، في الآخرة والدنيا وفي كل شيء!!".
قلت: وهذا شرك أكبر في ربوبية الله عز وجل، حيث جعل تصريف أمور الدنيا والآخرة، بل الجنة والنار بيد الولي المزعوم!
فأين الله عز وجل؟ ماذا تركت لله عز وجل من أفعال الربوبية؟!
والله لقد كان أبو جهل وأبو لهب والوليد بن عتبة وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وغيرهم من صناديد قريش أعرف بتوحيد الربوبية من الجفري.
أخرج البخاري (4648)، ومسلم (2796) من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، " فَنَزَلَتْ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الأنفال: 34].
قال العيني في عمدة القارئ (18/242): "(وَإِذ قَالُوا) أَي: ذكر حِين قَالُوا مَا قَالُوا، والقائلون هم كفار قُرَيْش مثل النَّضر بن الْحَارِث وَأبي جهل وإضرابهما من الْكَفَرَة الجهلة وَذَلِكَ من كَثْرَة جهلهم وعتوهم وعنادهم وَشدَّة تكذيبهم. قَوْله: (هَذَا هُوَ الْحق) أَرَادوا بِهِ الْقُرْآن، وَقيل: أَرَادو بِهِ نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء)، إِنَّمَا قَالُوا هَذَا القَوْل لشُبْهَة تمكنت فِي قُلُوبهم وَلَو عرفُوا بُطْلَانهَا مَا قَالُوا مثل هَذَا القَوْل مَعَ علمهمْ بِأَن الله قَادر على ذَلِك، فطلبوا إمطار الْحِجَارَة إعلاماً بِأَنَّهُم على غَايَة الثِّقَة فِي أَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بِحَق، وَإِذا لم يكن حَقًا لم يصبهم هَذَا الْبلَاء الَّذِي طلبوه".
قلت: والشاهد أن كفّار قريش لم يكفروا بربوبية الله، وأنه سبحانه المتصرف وحده في شئون الكون دون آلهتهم، فكانوا يعتقدون أن الربَّ وحده هو الذي يملك تصريف الأمور من إنزال المطر، والخلق، ورزق الخلائق، والإحياء والإماتة، والإنعام، ونحو ذلك من أفعال الربوبية، كما قال الله عز وجل عنهم: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
وأخرج مسلم (1185) من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلَكُمْ، قَدْ قَدْ» فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ".
قلت: فكان المشركون يعتقدون أن الله عز وجل يملك آلهتهم التي يتوجهون لها بالدعاء؛ كي تشفع لهم عند الله.
بل لقد كان زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أعلم بالتوحيد من حبيب الجفري، كما أخرج البخاري (3826) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلاَ آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ المَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ".
وأخرج مسلم (1784) من حديث أنس في قصة صلح الحديبية، أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «اكْتُبْ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا بِاسْمِ اللهِ، فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللهُمَّ..."، وأخرجه البخاري (2731) من حديث المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ.
قلت: والشاهد قول سهيل: "مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللهُمَّ"، ففيه تصريح بأنهم عرفوا الله عز وجل، أي: عرفوا ربوبيته.
فكيف إذا سمع زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قول الجفري: إن الله أعطى الولي تصريف في الدنيا والآخرة، بل وأعطاه الحق في تقسيم الجنة وتوزيعها لمن شاء ؟!! كيف يكون ردُّ فعله؟!! إذا كان لم يقبل من قريش أنهم أشركوا في العبادة، رغم إقرارهم بالربوبية، فما خطر على بالهم أن أولياءهم الذين عبدوهم مع الله يملكون تصريف أمور الدنيا والآخرة !!
  • خامسًا: قول الجفري: "كالبيتين اللّذين أُنشدَا للإمام أحمد الرفاعي -رضي الله عنه ونفعنا به- عندما وقف أمام الشباك الأعطر، وفي قلبه وروحه من الشوق ما فيه، وألقى السلام على سيد الأنام قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فسمع الردَّ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا ولدي، قال له: عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا جدّ... فأخذ لون سماع الرد بكليّات الإمام الرفاعي -رضي الله عنه ونفعنا به- فنطق لا بناطق الإحساس الظاهر الذي يبرد ويفنى بعد قليل، لكنه نطق بناطق تهيج المشاعر تهيج الذوق الذي تنتجه البصائر فأنشد وهو غائب الحس:
في حالة بُـعد روحي إن كنت أرسلها تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه نوبة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فإذا باليد الطاهرة تخرج أمام أعين الناس ومرآهم، فيقبلها الإمام الرفاعي أمام الناس... إلخ هذه الأسطورة المكذوبة".
قلت: هكذا الجفري غارق في خرافات الصوفية إلى أخمص أذنيه !
  • سادسًا: جلوسه مع مجموعة من الصوفية يتغنون ببردة البوصيري، وإذ به خاشع مطرق الرأس عند قراءته لقول البوصيري:
ومن جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللّوح والقلم
قلت:
  • سابعًا: قول الجفري في وصف احتضار الولي: "ساعة يُنادى من وراء سبعين ألف حجاب إن الله قد أرسلني يناديه ملك: إن الله قد أرسلني وأستئذنك أن أعطيك رسالة من ربِّك، فيأذن، فيدخل الملك ومعه الرسالة، فيناوله للعبد فيفض خاتمه الذي يفوح مسكًا فيقرأ ويقرأ حروفها التي تتلألأ نورًا، وإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت نحن الآن نشعر بنشوة عند ذكرها فكيف بصاحبها عندما ينالها من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت؛ لأنه اتصل بالذي لا يموت، عبدي قد اشتقت إليك فاقدم علي، وتسرج له دابة –كما جاء في بعض الروايات: أنها البراق، فيمتطي البُراق لو استشعرت النشوة التي تنازل روحه، وهي من ثمار أفعاله المادية في حياته من زواج وطعام وعمل وأخذ وعطاء وبيع وشراء ...".
قلت: هذا معتقد الحلول والاتحاد في عبارات مبطنة مبنية على الأسلوب القصصي الذي يخطف به قلوب المغفَّلين!
ونقول: أين هذا الاتصال الروحي بين روح المؤمن الصالح وذات الله عز وجل في أدلة الكتاب والسنة؟!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ، قَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، كَانَتْ فِي جَسَدٍ طَيِّبٍ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطِّيبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَيُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلَ السُّوءَ، قِيلَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَيُقَالُ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ، فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، فَلَنْ تُفْتَحَ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ".
قلت: كما يرى القارئ الفطن أن الحديث لا يتضمن ذكر هذه الرسالة المفتراة على الله عز وجل، وليس فيه ذكر البراق، إنما جاء فيه فقط أن الملك يعرج بروح المؤمن الصالح إلى السماء السابعة.
وفي حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ لَهُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ، فِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، نَزَلَ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ كَفَنِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، وَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرِّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى، قَالَ: فَيُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا عَمَلُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي أَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، وَهَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ ثَلَاثًا، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي..."، الحديث.
  • ثامنًا: قول الجفري: "بلغني رجوع قداسة البابا من رحلته العلاجية، فأردت أن أعوده وأطئمن على صحته.
الأمر الآخر أنّنا أبناء وطن واحد ونجتمع على قواسم كثيرة مشتركة، ونمر بمرحلة تقتضي أن يعرف الجميع أن أصل الصلة التي تقوم بيننا تاريخيًّا راقية وأن من يريد أن يشوش بين المسلمين والمسيحيين لا ينبغي أن يكون له مجال، وقد آن الأوان أن يسترجع أهل الدين بمختلف مللهم زمان الدين عمّن يريد أن يستغل للمصالح السياسية أو المقاصد الأخرى".
قلت: وهذا تملق ومداهنة ظاهرة من الجفري، وقوله: "وقد آن الأوان أن يسترجع أهل الدين بمختلف مللهم زمان الدين"، صريح في وحدة وأخوة الأديان، وأنه لا فرق عنده بين الإسلام –دين جميع الأنبياء والمرسلين-، والملل الأخرى، فينبغي أن يتم إحياؤها كلها.
وانظر ما قاله للرئيس الشيشاني مداهنًا إياه حين استقباله في المطار لشيخ الأزهر:
قال: "سيفرح رسول الله لقدومكم لاستقبال شيخ الأزهر؛ لأنكم تعلون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك !!".
هكذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام الإلهية: يعلم أحوال الدنيا، ويتابع حال هؤلاء المخرّفين، بل يبارك ضلالهم، ويعتبرها رفعة لسنته.
وهكذا يداهن الجفري الرئيس الشيشاني حيث توافقَا في التصوف الغالي.
والرئيس الشيشاني رمضان قاديروف له مقالات شنيعة صرَّح فيها بغلوه في التصوف، وببغضه الشديد للمنهج السلفي وحملته، والذين يطلق عليهم الوهَّابية، منها:
  • في مقطع مسجل يقول قاديروف: "نعم نجعل مع الله شريكًا –ندًا-؛ لأن هذا الولي .. قريب عند الله".
  • وقال في خطاب آخر: "الوهّابيون لعنة الله عليهم وعلى آبائهم وأمهاتهم، هم الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أقسم بالله لو يظهر في الشيشان وهابي أو أحد يشبهه فسأقتله".
قلت: وهل كان محمد بن عبدالوهاب التميمي –رحمه الله- موجودًا في زمن الصحابة؟!
لكنه الجهل المطبق بالمسلّمات، ومن شدة بغضه لدعاة التوحيد المنافي للتصوف الشركي، جعلهم خوارج وصوّرهم بأنهم هم الوهابيون الذين قاتلوا الصحابة!
ثم قال: "والله أقسم بالقرآن لن تقوم في هذه البلاد أي عقيدة أخرى غير عقيدة أولياء الصوفية".
  • وفي لقاء تليفزيوني قال: "لقد أقسمت ونذرت حياتي لمطاردة هؤلاء الشياطين، كلما كان عددهم أكبر كان جيدًا لي.. الرسول أمرنا بمعاقبة أمثالهم، هم يقولون: قاديروف ملتحٍ، لكنه منافق ومرتد .. لو ظهر هؤلاء الشياطين في روسيا، فسأقود عملية القضاء عليهم... فالتيارات الأخرى كالوهابية والسلفية هي مجرد بدع لا مكان لها في الشيشان، ولا في روسيا، إنهم شرٌّ وخيانة لتعاليم الدين وأحكام المولى ورسوله الكريم".
  • وقال مترجمه في حضوره وحضور الشيخ الأزهر: الناس ينصحونه لا ترد بهذا الشكل، وبهذه القوة على الوهابية والخوارج؛ لعلهم يقتلونك ! فقال: لا.. حتى لو أموت فسأرد عليهم.
قلت: وشيخ الأزهر يسمع هذا التطرف في معاداة منهج السلف الصالح –والذي يعلم أن حملته من أشد الناس منابذة للغلو بكل صوره، وأشدّ الناس على الخوارج- ويسكت مقرًا فرِحًا بكلامه كما ظهر منه.
  • وجاء في "الموسوعة الحرة" (الويكيبديا): "رمضان قاديروف هو الرئيس الأقرب الى الرئيس فلاديمير بوتين ويعتبر واحدًا من أكثر الشخصيات قربًا إلى الكرملين، وقد أعلن قاديروف عدة مرات وفي عدة مناسبات أنه يهب حياته دفاعًا عن روسيا وعن الرئيس فلاديمير بوتين، وكتب ذلك على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" كما صرح قائلاً: "إن رئيس الشيشان وجنود الشيشان جميعهم مستعدون للتضحية من أجل الرئيس بوتين من أجل الدفاع عن روسيا"، وأكَّد أنه مستعد للموت من أجل روسيا والرئيس بوتين، وبسبب قوة العلاقة بين فلاديمير بوتين ورمضان قاديروف فقد أُطلق على قاديروف لقب فتى بوتين المدل".
قلت: فإن كان رمضان قاديروف بهذه المثابة في معاداة اعتقاد ومنهج السلف الصالح، ومعاداة الدولة السعودية التي قامت على هذا المنهج الرباني، وبهذه المثابة في الولاء للشيوعيين المعادين للإسلام وأهله، فماذا تنتظر منه إلا ما وعد وتوعد به؟
توعد بأن يقتل دعاة التوحيد السلفيين –والذين سمَّاهم الوهَّابيين- عن بكرة أبيهم، وأنه مستعد للموت في سبيل القضاء عليهم، وأنه لن يسمح أن يقوم في الشيشان إلا معتقد التصوف القائم على تقديس الأولياء في قبورهم.
ووعد الشيوعيين بأنه مستعد أن يموت مع جنوده من أجل الدفاع عن روسيا ورئيسها الشيوعي.
فماذا بعد؟!
فلا نعجب من توافقه مع حبيب الجفري، وعلي جمعة فقد توافقوا جميعًا في الهدف والغاية.
وفي تقديري أن الجفري يقوم الآن بالدور الذي قام به ابن سبأ قديمًا، والدور الذي قام به جمال الدين الأفغاني حديثًا مع اختلاف الظروف.
والقاسم المشترك بينهم التظاهر بالحرص على مصلحة المسلمين ووحدتهم، وهم في حقيقة الأمر يبطنون الرفض والزندقة، ويسعون سعيًا حثيثًا للتمكين للأفكار الباطنية التي تسعى لاستئصال شأفة العقيدة الإسلامية المبنية على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
ودور ابن سبأ اليهودي في سعيه لتحريف الإسلام، هو الدور نفسه الذي قام به بولص اليهودي في تحريف دين المسيح عليه السلام القائم على التوحيد الخالص لله ربّ العالمين.
وأما الأفغاني فقد كان مبشرًا بمنهج الماسونية اليهودية في بلاد الإسلام تحت ستار وحدة الأديان وأخوتها، ودعوة الأخوة بين السنة والشيعة الرافضة.
والجفري استقى هذا السُّم الزعاف، ويسعى لاستفراغه في بلاد الإسلام عامة، لكن نظره الأكبر يتوجه إلى مصر والسعودية للقضاء على أي محاولة إصلاح يشتركان فيها؛ لإعادة الأمن إلى بلاد الإسلام.
وهذا بلا ريب بتكليف من الماسونية اليهودية التي تقودها الدولة الأمريكية لحرب الإسلام الصحيح القائم على منهج السلف الصالح.
يُتَّبع إن شاء الله ...
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-01-2016, 02:57 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

تابع... برهان البركان ضد مقررات مؤتمر الشيشان (7)
قال حبيب الجفري في صفحته في الفيس بوك في بيان توضيحي له باسم: "إدارة مؤتمر "من هم أهل السنة؟":
"بِسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
توضيح: نظرًا للاشتباه الذي حصل بسبب ما أثاره بعض أهل الفتنة إثر النجاح الذي حققه مؤتمر "من هم أهل السنة؟" المنعقد في جروزني عاصمة جمهورية الشيشان؛ ارتأت إدارة المؤتمر إضافة عبارة توضيحية في بيان معتقد أهل السنة لتكون على النحو التالي:
"أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية، ومنهم أهل الحديث المفوضة في الاعتقاد".
وذلك أن أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية شمل اعتقادهم مسلكي التفويض والتأويل، ومسلك أهل الحديث يشمل الأمرين مع اشتهار مسلك التفويض عنهم.
وهذه الإضافة كما سبق ذكره لا تعدو كونها إضافة توضيحية لإزالة اللبس عن بيان المؤتمر الذي انعقد لتصحيح المسار، وإزالة الغبش الذي لحق بأهل السنة من الانجراف وراء دعوات التبديع والتكفير، والقتل والتفجير، ونشر الكراهية والإقصاء... والله ولي التوفيق والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
إدارة مؤتمر "من هم أهل السنة؟".اهـ
قلت: اصطلاح "المفوضة" مبهم في كلام الجفري، والتفويض في الصفات له معنيان عند العلماء:
المعنى الأول: التفويض في إدراك كُنه وكيفية صفات الله عز وجل، وهذا الذي كان عليه السلف الصالح.
والمعنى الثاني: التفويض في معاني الصفات، وهذا المعنى هو الذي ذمّه المحقّقون من العلماء، وبيّنوا أنه ليس مذهبًا للسلف.
والجفري أراد أن يجعل مذهب السلف الصالح قائمًا على التأويل –على اصطلاح المتكلِّمين- والتفويض في معاني الصفات، وهذا كذب أبلج على السلف الصالح، ولا يوجد نتفة دليل عند الجفري وأمثاله لإثبات نسبة التأويل والتفويض إلى السلف، وقد ردَّ نسبة كلا الأمرين إلى منهج الرسل والأنبياء فضلاً عن السلف الصالح في كلام متين: شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في "درء تعارض العقل مع النقل" (1/201-208): "أن يقال: غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم، من المشهورين بالإسلام، هو التأويل أو التفويض، فأما الذي ينتهون إلي أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة.
والتأويل المقبول: هو ما دل علي مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلي دليل خاص.
وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد.
وأما التفويض: فإن من المعلوم أن الله تعالي أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضَّنا علي عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟
وأيضاً، فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلي النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلي التقديرين لم نخاطب بما بين فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر.
وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره علي الكفر والباطل، وأراد منا أن نفهم منه شيئاً، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه.
وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد.
وبهذا احتج الملاحدة، كابن سينا وغيره، علي مثبتي المعاد، وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم، وزعموا أن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يبين ما الأمر عليه في نفسه، لا في العلم بالله تعالي ولا باليوم الآخر، فكان الذي استطالوا به علي هؤلاء هو موافقتهم لهم علي نفي الصفات، وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم.
ولهذا كان أبن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف، يعين أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسل، وأولئك جعلوا الجميع تخيلا وتوهيماً.
ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة، فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة.
ثم إن ابن سينا وأمثاله من الباطنية المتفلسفة والقرامطة يقولون: إنه أراد من المخاطبين أن يفهموا الأمر علي خلاف ما هو عليه، وأن يعتقدوا ما لا حقيقة له في الخارج، لما في هذا التخييل والاعتقاد الفاسد لهم من المصلحة.
والجهمية والمعتزلة وأمثالهم يقولون: إنه أراد أن يعتقدوا الحق علي ما هو عليه، مع علمهم بأنه لم يبين في الكتاب والسنة، بل النصوص تدل علي نقيض ذلك، فأولئك يقولون: أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به، وهؤلاء يقولون: أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا علي نقيضه.
والمؤمن يعلم بالاضطرار أن كلا القولين باطل، ولا بد للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا: وإذا كان كلاهما باطلاً كان تأويل النفاة للنصوص باطلاً:
فيكون نقيضه حقاً، وهو إقرار الأدلة الشرعية علي مدلولاتها، ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد.
وما ذكرناه من لوازم قول التفويض: هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم، إذ قالوا: إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة، ولكن لم يبين للناس مراده بها، ولا أوضحه إيضاحاً يقطع به النزاع.
وأما علي قول أكابرهم: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها ـفعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه، لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه، وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة، والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة.
ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدي وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه هو ما أخبر به الربُّ عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهي، ووعد وتوعد، أو عمَّا أخبر به عن اليوم الآخر ـ لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين.
وعلي هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به.
فيبقي هذا الكلام سداً لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدي والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلاً عن أن يبينوا مرادهم.
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد".
قلت: وهذا كلام متين كشف عوار التأويل بغير بيّنة، وعوار تفويض معاني الصفات، وكأن الله عز وجل يخاطب عباده بلغة لا تفهم عند أحد من المكلّفين.
فإن قيل: أنتم تعلمون أن كثيرًا من السلف رأوا أن الوقف عند قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 6] ، بل كثير من الناس يقول: هذا هو قول السلف، ونقلوا هذا القول عن أبي بن كعب وابن مسعود وعائشة وابن عباس وعروة بن الزبير وغير واحد من السلف والخلف، وإن كان القول الآخر ـوهو أن السلف يعلمون تأويله ـ منقولاً عن ابن عباس أيضاً، وهو قول مجاهد ومحمد بن جعفر وابن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم، وما ذكرتموه قدح في أولئك السلف وأتباعهم.
قيل: ليس الأمر كذلك، فإن أولئك السلف الذين قالوا: لا يعلم تأويله إلا الله كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم، ولم يكن لفظ التأويل عندهم يراد به معني التأويل الاصطلاحي الخاص، وهو صرف اللفظ عن المعني المدلول عليه المفهوم منه إلي معني يخالف ذلك، فإن تسمية هذا المعني وحده تأويلا إنما هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم، ليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، لاسيما ومن يقول إن لفظ التأويل هذا معناه يقول: إنه يحمل اللفظ علي المعني المرجوح لدليل يقترن به، وهؤلاء يقولون: هذا المعني المرجوح لا يعلمه أحد من الخلق، والمعني الراجح لم يرده الله.
وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به ما أراده الله بلفظ التأويل في مثل قوله تعالي {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53] ، وقال تعالي {ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 59] ، وقال يوسف {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف: 100] ، وقال يعقوب له {ويعلمك من تأويل الأحاديث} [يوسف: 6] ، {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله} [يوسف: 45] ، وقال يوسف {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف: 37] .
فتأويل الكلام الطلبي: الأمر والنهي، وهو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه، كما قال سفيان بن عيينة: السنة تأويل الأمر والنهي، و «قالت عائشة: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم في يقول ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن» ، وقيل لعروة بن الزبير: فما بال عائشة كانت تصلي في السفر أربعاً؟ قال: تأولت كما تأول عثمان ونظائره متعددة.
وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر عنها، وذلك في حق الله: هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره، ولهذا قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وكذلك قال ابن الماجوشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن علمنا تفسيره ومعناه.
ولهذا رد أحمد بن حنبل علي الجهمية والزنادقة فيما طعنوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه علي غير تأويله، فرد علي من حمله علي غير ما أريد به، وفسر هو جميع الآيات المتشابهة، وبين المراد بها.
وكذلك الصحابة والتابعون فسَّروا جميع القرآن، وكانوا يقولون: إن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به، وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وكذلك يعلمون كيفية الغيب، فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ولا خطر علي قلب بشر، فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله، فمن قال من السلف إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعني، فهذا حق".اهـ
قلت: وهذا كلام موزون بميزان الشرع والحكمة، تقبل العقول الصحيحة والفطر السليمة، ويرده مَن لا يقبل أبسط البديهيات، ويرد المسلّمات التي يقبلها كلّ العقلاء، فلا مجال له وسط العقلاء، إنما مكانه وسط المهوِّسين الذين يهيمون في خيالات فاسدة.
وبلا ريب إذا قرأ هؤلاء المتعصِّبون اسم شيخ الإسلام تسارعت ألسنتهم باتهامه بالتجسيم والتشبيه، كدأب أسلافهم من المعطِّلة المؤولة، وبالتالي يردون الحق المبين؛ لأنه قاله ابن تيمية.
فلا يردنّ الشمس في رائعة النهار عاقل؛ لأن فلانًا –الذي يبغضه بغير حق- أخبره بأنها طلعت حسناء.
وعليه فإن أهل الحديث المتَّبعين لآثار السلف الصالح لم يعرفوا لا التأويل –بالمعنى الاصطلاحي عند المتكلِّمين-، ولا التفويض –أي تفويض المعاني-، فكلا المذهبين من مذاهب أهل البدع، مع الانتباه إلى دقيق عبارة شيخ الإسلام في قوله: " فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد"؛ لتدرك خبث الجفري في تدليسه بنسبة هذا المذهب إلى أهل الحديث؛ ليوهم السُّذَّج أن أهل الحديث لا يفهمون معاني النصوص، كالأصم الأبكم الذي لا يسمع ولا يرى، وأن أئمة الأشاعرة والماتريدية هم أصحاب الغوص في معاني النصوص.
ومن المفارقات أن يقرّر الجفري في بيانه هذا نحو ما قرَّره حسن البنا –مؤسس حزب الإخوان المسلمين- في رسالته في العقائد (قسم الإلهيات)، حيث نسب مذهب التفويض إلى السلف الصالح، وإن كان البنا يثبت سبع صفات على طريقة الأشاعرة، فهو أشعري مفوض صوفي.
لذلك كان الواجب على المؤتمرين أن لا يخرجوا حزب الإخوان المسلمين من دائرة أهل السنة –على مفهومهم-، لأنهم أشاعرة مفوضة صوفية، وإن كانوا خوارج وماسونية.
وكذلك الجفري وعلي جمعة والأزهري ليست الماسونية بعيدة عنهم، بل نكاد نجزم أنهم أعضاء بارزون فيها، أو على أقل الأحوال من أبرز العاملين في تحقيق أهدافها الخبيثة في بلاد الإسلام.
فما الفرق بينهم وبين حسن البنا وسيد قطب والقرضاوي؟!
العاقل المنصف يرى أنهم جميعًا إخوان في البدعة حرب على السنة وأهلها.
وفي زمن دولة الإخوان كان الجفري وعلي جمعة وشيخ الأزهر من المداهنين المهادنين للإخوان، وكانوا من المقربين لهم، فلمَّا سقط حزب الإخوان سياسيًّا، أخرجوه من دائرة أهل السنة.
والسؤال: هل تغيرت أصول حزب الإخوان بعد سقوطهم الأخير في مصر؛ كي يخرجهم أصحاب مؤامرة مؤتمر الشيشان من أهل السنة، رغم أنهم لم ينبتوا ببنت شفة قبل ذلك في التحذير من أصولهم البدعية؟!
لكن الذين اتبعوا سبيل المؤمنين لا يتقلبون مع السياسة، بل لهم موقف ثابت من حزب الإخوان من أول نشأته وإلى وقتنا هذا، فبيّن علماء السنة في مصر –في بداية نشأة الإخوان- أنه يسير على طريق الخوارج، وأنه يداهن النصارى والشيعة ...إلخ، كما في فتاوى ومقالات محدث مصر أحمد شاكر –الأزهري تعليمًا-، ومحمد حامد الفقي، ومحمد عبدالوهّاب البنا –رحم الله الجميع-، وقد جمعت هذه الفتاوى والمقالات في رسالة "فتاوى نادرة لثلاثة من كبار علماء مصر في التحذير من حسن البنا والإخوان المسلمين"، وهي مضمنة أيضًا في كتابي "كشف العلاقة المريبة بين الإخوان والشيعة"، وكتابي "الجمع المبين لفتاوى العلماء الربانيين في التحذير من الإخوان المسلمين".
وانتبه إلى الاختلاف بين التعديل والإضافة التي أجراها الجفري، وبين ما نصّ عليه شيخ الأزهر في بيانه في المؤتمر، ثم استدراكه في البيان الصادر منه بعد عودته إلى مصر.
ففي بيان شيخ الأزهر في المؤتمر نصّ على دخول أهل الحديث والمحدِّثين في مفهوم أهل السنة، وفي الاستدراك زاد كلمة "السلفية".
والشاهد أن شيخ الأزهر لم يقل: "أهل الحديث المفوضة في الاعتقاد"، كما قال الجفري، وهذا يؤكد تضارب مفهوم أهل السنة في أذهانهم، وصدق الله سبحانه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}.
يتَّبع إن شاء الله ...
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10-01-2016, 02:57 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

تابع... برهان البركان ضد مقررات مؤتمر الشيشان (9)
(فصل) رجوع بعض كبار أئمة الأشاعرة عن الأشعرية إلى منهج السلف
سبق وذكرت بالتفصيل رجوع أبي الحسن الأشعري عن أغلب أصوله الكلامية التي تمسك بها الأشاعرة بعده، وأنه التزم أصول المنهج السلفي في الجملة إلا ما بقي من أصول الكلاَّبية، كما بيّنت آنفًا.
وإمعانًا في إقامة الحجة على هؤلاء المتفلسفة المتعجرفة في مؤتمر الشيشان الذين يصرون على إقناع الأمة بأن أهل السنة فيها هم الأشاعرة والماتريدية، أذكر لهم ثلاثة نماذج من كبار أئمتهم -الذين هم يعترفون بإمامتهم- في تراجعهم عن المذهب الأشعري –وبعضهم رجع عن التصوف مع الأشعرية- إلى منهج أهل الحديث المبني على أصول السلف الصالح، فعارٌ عليهم أن يستشهدوا بأقوال هؤلاء العلماء التي تراجعوا عنها، وتبرءوا منها:
  • النموذج الأول: رجوع أبي المعالي الجويني إلى منهج السلف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (4/73): "وَهَذَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَرَكَ مَا كَانَ يَنْتَحِلُهُ وَيُقَرِّرُهُ وَاخْتَارَ مَذْهَبَ السَّلَفِ. وَكَانَ يَقُولُ: " يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ فَلَوْ أَنِّي عَرَفْت أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْت بِهِ " وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: " لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِيمَا نَهَوْنِي عَنْهُ. وَالْآنَ: إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الجُوَيْنِي وَهَا أنذا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي - أَوْ قَالَ -: عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ ". وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشِّهْرِسْتَانِيّ: " أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين إلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ " وَكَانَ يَنْشُدُ: لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْت الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا وَسَيَّرْت طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمٍ وَابْنُ الْفَارِضِ - مِنْ مُتَأَخِّرِي الِاتِّحَادِيَّةِ صَاحِبُ الْقَصِيدَةِ التَّائِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ " بِنَظْمِ السُّلُوكِ " وَقَدْ نَظَمَ فِيهَا الِاتِّحَادَ نَظْمًا رَائِقَ اللَّفْظِ فَهُوَ أَخْبَثُ مَنْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ فِي صِينِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
وَمَا أَحْسَنَ تَسْمِيَتَهَا بِنَظْمِ الشُّكُوكِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ نَفَقَتْ كَثِيرًا وَبَالَغَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي تَحْسِينِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِمَا فِيهَا مِنْ الِاتِّحَادِ - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ:
إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمْ ... مَا قَدْ لَقِيت فَقَدْ ضَيَّعْت أَيَّامِي
أُمْنِيَّةً ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا ... وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامِ".
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين"(4/189): "وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ فِي الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ ": ذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إلَى الِانْكِفَافِ عَنْ التَّأْوِيلِ، وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقْدَ اتِّبَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ فَالْأَوْلَى الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا، وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَالْمُسْتَقِلُّونَ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جَهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مَسُوغًا أَوْ مَحْتُومًا لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ لَهُمْ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنْ التَّأْوِيلِ، كَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا بِأَنَّهُ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ، فَحَقٌّ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنْزِيهَ الْبَارِي عَنْ صِفَاتِ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ، وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إلَى الرَّبِّ تَعَالَى.
وَعِنْدَ إمَامِ الْقُرَّاءِ وَسَيِّدِهِمْ الْوُقُوفُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] مِنْ الْعَزَائِمِ ثُمَّ الِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] .
وَمِمَّا اُسْتُحْسِنَ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ.
وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، فَلْتُجْرَ آيَةُ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَقَوْلُهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَقَوْلُهُ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وَقَوْلُهُ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وَمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، انْتَهَى كَلَامُهُ".
وقال الذهبي في السير (18/474): "وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال: حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه فقال: اشهدوا علي أني قــــد رجــــعت عـــــن كل مقالة تخالف السنة، وأني أمــــوت على ما يموت عليه عجائز نيسابور".

  • النموذج الثاني: رجوع أبي حامد الغزالي إلى منهج السلف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/72): "وَهَذَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَسُلُوكِهِ طَرِيقَ الزُّهْدِ وَالرِّيَاضَةِ وَالتَّصَوُّفِ يَنْتَهِي فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ وَيُحِيلُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَشْفِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَصَنَّفَ " إلْجَامَ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ".
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين"(4/190): "وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: الصَّوَابُ لِلْخَلَفِ سُلُوكُ مَسْلَكِ السَّلَفِ فِي الْإِيمَانِ الْمُرْسَلِ وَالتَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ، وَمَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بِلَا بَحْثٍ وَتَفْتِيشٍ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّفْرِقَةِ: الْحَقُّ الِاتِّبَاعُ وَالْكَفُّ عَنْ تَغْيِيرِ الظَّاهِرِ رَأْسًا، وَالْحَذَرُ عَنْ اتِّبَاعِ تَأْوِيلَاتٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَا الصَّحَابَةُ، وَحَسْمُ بَابِ السُّؤَالِ رَأْسًا، وَالزَّجْرُ عَنْ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ وَالْبَحْثِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُبَادِرُ إلَى التَّأْوِيلِ ظَنًّا لَا قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ فَتْحُ هَذَا الْبَابِ وَالتَّصْرِيحُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى تَشْوِيشِ قُلُوبِ الْعَوَامّ بُدِّعَ صَاحِبُهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ السَّلَفِ ذِكْرُهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ بِأُصُولِ الْعَقَائِدِ الْمُهِمَّةِ فَيَجِبُ تَكْفِيرُ مَنْ يُغَيِّرُ الظَّوَاهِرَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ قَاطِعٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ التَّأْوِيلَ فِي نَفْسِهِ وَتَوَاتَرَ نَقْلُهُ وَلَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَقُومَ عَلَى خِلَافِهِ بُرْهَانٌ فَمُخَالَفَتُهُ تَكْذِيبٌ مَحْضٌ، وَمَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ احْتِمَالُ تَأْوِيلٍ وَلَوْ بِمَجَازٍ بَعِيدٍ، فَإِنْ كَانَ بُرْهَانُهُ قَاطِعًا وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبُرْهَانُ يُفِيدُ ظَنًّا غَالِبًا وَلَا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ فِي الدِّينِ فَهُوَ بِدْعَةٌ، وَإِنْ عَظُمَ ضَرَرُهُ فِي الدِّينِ فَهُوَ كُفْرٌ.
قَالَ: وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ، بَلْ شَدَّدُوا الْقَوْلَ عَلَى مَنْ يَخُوضُ فِي الْكَلَامِ، وَيَشْتَغِلُ بِالْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ.
وَقَالَ أَيْضًا: الْإِيمَانُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْكَلَامِ ضَعِيفٌ، وَالْإِيمَانُ الرَّاسِخُ إيمَانُ الْعَوَامّ الْحَاصِلُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي الصِّبَا بِتَوَاتُرِ السَّمَاعِ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ بِقَرَائِنَ يَتَعَذَّرُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا.
قَالَ: وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْمَعَالِي: يَحْرِصُ الْإِمَامُ مَا أَمْكَنَهُ عَلَى جَمْعِ عَامَّةِ الْخَلْقِ عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، انْتَهَى.
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى ذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ".اهـ
وقال عز الدين بن إبراهيم بن الوزير الحسنى الهاشمي اليمني في "إيثار الحق على الخلق" (1/375): "وحكى الحاكم المعتزلي في مختصر له جلى في معرفة الله (تعالى) أن جعفر ابن مبشر وجعفر بن حرب من أئمة الكلام رجعا عن الخوض في دقيقة، وقد بالغ الغزالي في ذلك في "إحياء علوم الدين"، ولا حاجة إلى التطويل بذكر ذلك وهو معروف في مواضعه".
  • النموذج الثالث: رجوع أَبي عَبْدِ اللَّهِ فخر الدين مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي، المعروف بـ"ابن الخطيب" (م 606ه) إلى منهج السلف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/72): "وَكَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي أَقْسَامِ اللَّذَّاتِ: "لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ: أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي] وَكَانَ يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا:
نِهَايَةُ إقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثَنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا".
وترجم له الذهبي في تاريخ الإسلام (43/212)، فقال: "العلَّامة فخر الدّين، أَبُو عَبْد الله القُرشيّ، البكْريّ، التَّيْمِيّ، الطَّبرَستانيُّ الأصلِ، الرّازيّ، ابن خطيب الرّيّ، الشّافعيّ، المفسّر، المتكلّم، صاحب التّصانيف.
ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
اشتغل عَلَى والده الإِمام ضياء الدّين عُمَر، وكان مِن تلامذة مُحيي السُّنَّة أَبِي مُحَمَّد البَغَويّ.
قَالَ الموفّق أَحْمَد بْن أَبِي أُصَيبعة فِي «تاريخه»: انتشرت في الآفاق مصنّفاتُ فخر الدّين وتلامذته. وكان إذَا رَكِبَ، مشى حوله نحو ثلاثمائة تلميذ فقهاء، وغيرهم، وكان خُوارزم شاه يأتي إِلَيْهِ، وكان شديدَ الحرص جدًّا في العلوم الشرعيَّة والحكمية، حادَّ الذّهن، كثيرَ البراعة، قويَّ النّظر في صناعة الطّبّ، عارفا بالأدب، لَهُ شِعر بالفارسيّ والعربيّ، وكان عبلَ البدن، رَبْعَ القامة، كبيرَ اللّحية، في صوته فخامة. كانوا يقصِدُونه من البلاد عَلَى اختلاف مطالبهم في العلوم وتفنّنهم، فكان كلُّ منهم يجد عنده النهاية القصوى فيما يرومه منه. قرأ الحكمةَ عَلَى المجد الجِّيليّ بمراغة، وكان المجدُ من كبار الفضلاء وله تصانيف .
قلت: يَعنِي بالحكمة: الفلسفةَ.
قَالَ القاضي شمس الدّين ابن خَلِّكان فيه: فريدُ عصره ونسيجُ وَحْدهِ.
وشهرته تُغني عَنِ استقصاء فضائله، ولَقَبُه فخر الدّين.
وتصانيفه في عِلم الكلام والمعقولات سائرة في الآفاق، وله «تفسير» كبير لم يتمّمه. ومن تصانيفه في عِلم الكلام: «المطالب العالية» ، وكتاب «نهاية العقول» ، وكتاب «الأربعين» ، وكتاب «المحصّل» ، وكتاب «البيان والبرهان في الردّ عَلَى أهل الزّيغ والطُّغيان» ، وكتاب «المباحث العماديّة في المطالب المعادية» ، وكتاب «المحصول» في أصول الفقه، وكتاب «عيون المسائل» ، وكتاب «تأسيس التّقديس في تأويل الصّفات» ، وكتاب «إرشاد النُّظّار إِلى لطائف الأسرار» ، وكتاب «أجوبة المسائل البخاريَّة»، وكتاب «تحصيل الحقّ» ، وكتاب «الزُّبدة» ، وكتاب «المعالم» في أصول الدّين، وكتاب «الملخّص» في الفلسفة، وكتاب «شرح الإشارات»، وكتاب «عيون الحكمة»، وكتاب «السرّ المكتوم في مخاطبة النّجوم»، وشرح أسماء الله الحسنى.
ويقال: إنّه شرحَ «المفصّل» للزّمخشريّ، وشرح «الوجيز» للغزاليّ، وشرح «سقْط الزّنْد» لأبي العلاء.
وله مختصر في الإِعجاز ومؤاخذات جيّدة عَلَى النُّحاة، وله طريقة في الخلاف. وصَنّف في الطّبّ «شرح الكلّيات للقانون» وصَنّف في عِلم الفراسة. وله مصنّف في مناقب الشّافعيّ. وكلّ تصانيفه ممتعة، ورُزق فيها سعادة عظيمة، وانتشرت في الآفاق، وأقبل النّاسُ عَلَى الاشتغال فيها، ورفضوا كُتُبَ المتقدّمين.
وله في الوعظ باللّسانين مرتبة عالية، وكان يلحقه الوجدُ حالَ وعْظه، ويحضر مجلسَه أربابُ المقالات والمذاهب ويسألونه. ورجع بسببه خلق كثير من الكرّامية وغيرهم إِلى مذهب أهل السُّنَّة، وكان يُلقّب بهَرَاة: شيخ الإِسلام.
اشتغل عَلَى والده إِلى أن مات، ثُمَّ قصد الكمال السّمنانيّ، واشتغل عَلَيْهِ مدَّةً، ثُمَّ عاد إِلى الرّيّ، واشتغل عَلَى المجد الجيليّ صاحب مُحَمَّد بْن يَحْيَى الفقيه النّيسابوريّ، وتوجّه معه إلى مراغة لمّا طُلِبَ إليها.
ويقال: إنّه كَانَ يحفظ كتاب «الشّامل» في عِلم الكلام لإمامِ الحَرَمين، ثُمَّ قصد خُوارزم وقد تمهَّر في العلوم، فجرى بينَه وبينَ أهلها كلام فيما يرجع إِلى المذهب والعقيدة، فأُخْرِجَ من البلد، فقصد ما وراء النّهر، فجرى لَهُ أيضا ما جرى بخوارزم، فعاد إلى الرّيّ، وكان بها طبيب حاذق، له ثروة ونعمة، وله بنتان، ولفخر الدّين ابنان، فمرض الطّبيبُ، فزوّج بنتيه بابني الفخر، ومات الطّبيبُ فاستولى الفخر عَلَى جميع أمواله، ومن ثُمَّ كانت لَهُ النّعمةُ.
ولمّا وصل إِلى السّلطان شهاب الدّين الغُوريّ، بالغ في إكرامه والإِنعام عَلَيْهِ، وحصلت لَهُ منه أموال عظيمة، وعاد إِلى خُراسان واتّصل بالسّلطان خُوارزم شاه مُحَمَّد بْن تكش، وحظي عنده، ونال أسمى المراتب.
وهو أول مَنِ اخترع هذا التّرتيبَ في كتبه، وأتى فيها بما لم يُسبق إِلَيْهِ.
وكان يُكثر البكاءَ حالَ الوعظ. وكان لمّا أثرى، لازم الأسفار والتّجارة، وعامل شهابَ الدّين الغوريّ في جملةٍ من المال، ومضى إِلَيْهِ لاستيفاء حقّه، فبالغ في إكرامه، ونال منه مالا طائلا.
إِلى أن قَالَ ابن خَلِّكان: ومناقبه أكثر من أن تُعَدّ وفضائله لا تُحصى ولا تُحَدّ، واشتغل بعلوم الأصول عَلَى والده، وأبوه اشتغل عَلَى أَبِي القَاسِم الأنصاريّ صاحب إمام الحرمين، واسمه سليمان ابن ناصر.
وقال أبو المظفّر سبط ابن الجوزيّ، وأَبُو شامة: اعتنى الفخرُ الرّازيّ بكتب ابن سيناء وشَرَحها. وكان يعظ وينالُ من الكرّامية، وينالون منه سبّا وتكفيرًا.
وقيل: إنّهم وضعوا عَلَيْهِ مَنْ سقاه السُّمَّ فمات، وكانوا يَرْمُونه بالكبائر.
ولا كلامَ في فضله، وإنّما الشناعات قائمة عَلَيْهِ بأشياء.
منها: أَنَّهُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّد التّازيّ، وقال مُحَمَّد الرّازيّ، يعني النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفسه، والتّازي: هو العربيّ.
ومنها أَنَّهُ كَانَ يقرّر مسائلَ الخصوم وشُبَهَهُمْ بأتمّ عبارة، فإذا جاء بالأجوبة، قَنِعَ بالإِشارة، ولعلّه قصد الإِيجاز، ولكن أين الحقيقة من المجاز. وقد خالف الفلاسفة الّذين أخذ عنهم هذا الفنّ فَقَالَ في كتاب «المعالم» : أطبقت الفلاسفة عَلَى أنّ النّفس جوهر وليست بجسم، قَالَ: وهذا عندي باطل لأنّ الجوهر يمتنع أن يكون لَهُ قرب أو بُعد من الأجسام.
قَالَ الإِمام أَبُو شامة: وقد رأيتُ جماعة من أصحابه قدِموا علينا دمشق، وكُلُّهُمْ كَانَ يعظّمه تعظيما كبيرا، ولا ينبغي أن يُسمع فيمن ثبتت فضيلتُه كلامٌ يستبشع، لعلّه مِن صاحب غرض مِن حسدٍ، أو مخالفة في مذهب أو عقيدة.
قَالَ: وبلغني أَنَّهُ خلَّف من الذَّهب ثمانين ألف دينار سوى الدّوابّ والعقارِ، وغير ذَلِكَ. وخلّف ولَدَيْنِ كَانَ الأكبر منهما قد تجنَّد في حياة أَبِيهِ، وخدم السّلطان خُوارزم شاه.
قلت: ومن تلامذته مصنِّف «الحاصل» تاج الدّين مُحَمَّد بْن الحُسَيْن الأُرْمَويّ، وقد تُوُفّي قبل وقعة بغداد، وشمس الدّين عَبْد الحميد بْن عيسى الخُسْرُوشاهي، والقاضي شمس الدّين الخُوَيّي، ومحيي الدّين قاضي مرند.
وتفسيره الكبير في اثنتي عشرة مجلَّدةٍ كِبار سماه «فتوح الغيب» أو «مفاتيح الغيب» . وفسّر «الفاتحة» في مجلَّدٍ مستقلّ. وشرح نصف «الوجيز»، للغزاليّ. وله كتاب «المطالب العالية» في ثلاث مجلّدات، ولم يتمَّه، وهو من آخر تصانيفه، وله كتاب «عيون الحكمة» فلسفة، وكتاب في الرمل، وكتاب في الهندسة، وكتاب «الاختبارات العلائية» فيه تنجيم، وكتاب «الاختبارات السّماوية» تنجيم، وكتاب «المِلَل والنِّحَل» ، وكتاب في النَّبْض، وكتاب «الطّبّ الكبير» ، وكتاب «التّشريح» لم يتمّه، ومصنّفات كثيرة ذكرها الموفّق ابن أَبِي أصيبعة، وقال: كَانَ خطيب الرّيّ، وكان أكثر مقامه بها، وتوجّه إلى خوارزم ومرض بها، وامتدّ مرضه أشهرا، ومات بهَرَاة بدار السّلطنة.
وكان علاء المُلك العلويّ وزير خُوارزم شاه قد تزوّج بابنته. وكان لفخر الدّين أموال عظيمة ومماليك تُرْك وحَشَم وتجمُّل زائد، وعلى مجلسه هيبة شديدة.
ومن شِعره:
نِهَايَةُ إقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ ... وأَكْثَرُ سَعْي العَالَمِينَ ضَلالُ
وأَرْوَاحُنا في وحْشَةٍ مِن جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنيانَا أذى وَوَبَالُ
ولَمْ نَسْتَفِدْ مِن بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلَةٍ ... فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وزَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتهَا ... رِجَالٌ فَزالُوا والجِبَالُ جِبَالُ".
ثم ذكر الذهبي تراجعه فقال: "ومِن كلام فخر الدّين قَالَ:
[رأيت الأصلحَ والأصوبَ طريقة القرآن، وهو تركُ الرّبّ، ثمّ ترك التّعمّق، ثُمَّ المبالغة في التّعظيم مِن غير خوضٍ في التّفاصيل، فأقرأ في التّنزيه قوله: وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ، وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، وأقرأ في الإثبات: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ، اسْتَوى، ويَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ ، وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وأقرأ في أنّ الكلّ من الله قوله: قُلْ كُلٌّ من عِنْدِ الله، وفي تنزيهه عَنْ ما لا ينبغي: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، وعلى هذا القانون فقس. وأقولُ مِن صميم القلب من داخل الروح: إنّي مُقِرٌّ بأنَّ كُلَّ ما هو الأكملُ الأفضلُ الأعظم الأجلّ، فهو لك، وكلّ ما فيه عيب ونقص، فأنت مُنَزَّه عَنْهُ. [وأقول: إنّ عقلي وفهمي قاصرٌ عَنِ الوصول إِلى كُنْه صفة ذَرَّةٍ من مخلوقاتك.
قَالَ الإِمام أَبُو عَمْرو بْن الصّلاح: حدّثني القطْبُ الطُّوغانيّ مرّتين أنّه سَمِعَ الفخر الرّازيّ يَقُولُ: ليتني لم أشتغل بالكلام، وبكى".
ثم ذكر وصيته فقال: "أوصى بهذه الوصيَّة لمّا احتضر لتلميذه إِبْرَاهيم بْن أبي بَكْر الأصبهانيّ:
«يَقُولُ العبد الراجي رحمة ربَّه، الواثقُ بكرم مولاه، مُحَمَّد بْن عُمَر بْن الحُسَيْن الرازيّ، وهو أوَّلُ عهده بالآخرة، وآخرُ عهده بالدّنيا، وهو الوقتُ الّذي يلينُ فيه كُلّ قاسٍ، ويتوجَّه إِلى مولاه كلُّ آبق: أحَمَد الله تَعَالَى بالمحامد الّتي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات مَعارِجهم، ونطق بها أعظمُ أنبيائه في أكملِ أوقات شهاداتهم، وأحمده بالمحَامد الّتي يستحقّها، عَرَفْتُها أو لم أعرفها، لأنّه لا مناسبة للتّراب مَعَ ربِّ الأرباب. وصلاته عَلَى الملائكة المقرّبين، والأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصّالحين.
ثُمَّ اعلموا إخواني في الدّين وأخِلائي في طلب اليقين، أنّ الناس يقولون: إنّ الإِنسان إذَا مات انقطع عملهُ، وتعلُقُه عَنِ الخلق، وهذا مخصَّص من وجهين: الأول: أَنَّهُ بَقَى منه عمل صالح صار ذَلِكَ سببا للدّعاء، والدّعاء لَهُ عند الله أثر، الثّاني: ما يتعلَّق بالأولاد، وأداءِ الجنايات.
أمّا الأوّلُ: فاعلموا أنّني كنتُ رجلا مُحِبًّا للعلم، فكنتُ أكتُبُ في كلّ شيء شيئا لأقف عَلَى كَمِّيته وكَيْفِيَّته، سواء كَانَ حقّا أو باطلاً، إلّا أنّ الّذي نظرته في الكتب المعتبرة أنّ العالم المخصوصَ تحت تدبير مُدَبِّر مُنَزَّهٍ عَنْ مماثلةِ المُتَحَيَّزات، موصوفٍ بكمال القدرة والعلم والرحمة.
ولقد اختبرتُ الطُّرق الكلاميَّة، والمناهجَ الفلسفيَّة، فَما رأيتُ فيها فائدة تساوي الفائدة الّتي وجدتها في القرآن([1])؛ لأنّه يسعى في تسليم العظمة والجلالة للَّه، ويمنع عَنِ التّعمُّق في إيراد المعارَضات والمناقَضات، وما ذاك إلّا للعلم بأنّ العقولَ البشريَّة تتلاشى في تِلْكَ المضايق العميقة، والمناهج الخفيّة، فلهذا أقول: كلّ ما ثبت بالدّلائل الظّاهرة، مِن وجوب وجوده، ووَحْدته، وبراءته عَنِ الشركاء في القِدَم، والأزليَّةِ، والتّدبير، والفعاليَّة، فذلك هُوَ الّذي أقولُ بِهِ، وألْقَى الله بِه.
وأمّا ما انتهى الأمرُ فيه إِلى الدِّقة والغُموض، وكلُّ ما ورد في القرآن والصِّحاح، المتعَيّن للمعنى الواحد، فهو كما هُوَ ، والّذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين، إنّي أرى الخَلْقَ مُطْبِقينَ عَلَى أنّك أكرمُ الأكرمين، وأرحمُ الراحمين، فلك ما مَدَّ بِهِ قلمي، أو خطر ببالي فاسْتَشْهِد وأقول: إنْ عَلِمْتَ منّي أنّي أردتُ بِهِ تحقيقَ باطل، أو إبطالَ حَقٍّ، فافعل بي ما أَنَا أهلُه، وإن عَلِمْتَ منّي أنّي ما سعيتُ إلّا في تقريرٍ اعتقدتُ أَنَّهُ الحقّ، وتصورّتُ أَنَّهُ الصِّدق، فلتكن رحمتُكَ مَعَ قصدي لا مَعَ حاصِلِي، فذاك جُهْدُ المُقِلِّ، وأنت أكرمُ مِنْ أن تُضايقَ الضَّعيفَ الواقعَ في زَلَّةٍ، فأغِثني، وارحَمْني، واستُرْ زلَّتي، وامْحُ حَوْبتي، يا من لا يَزيدُ ملكَه عِرفان العارِفين، ولا ينقص ملكه بخطإ المجرمين وأقول: ديني متابعةُ الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتابي القرآن العظيم، وتَعْويلي في طلب الدّين عليهما، اللَّهمّ يا سامِعَ الأصوات، ويا مُجيب الدَّعَوات، ويا مُقِيلَ العَثَرات، أَنَا كنتُ حَسَنَ الظَّنِّ بك، عظيمَ الرجاء في رحمتك، وأنتَ قلتَ: «أَنَا عند ظنّ عبدي بي»، وأنت قَلتَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ، فهَبْ أنّي ما جئتُ بشيءٍ، فأنت الغنيّ الكريم، وأنا المحتاج اللّئيم، فلا تخيّب رجائي، ولا تَرُد دعائي، واجعلني آمنا من عذابك قبلَ الموت، وبعدَ الموت، وعندَ الموت، وسَهِّلْ عليَّ سكراتِ الموت فإنّك أرحمُ الراحمين.
وأمّا الكتب الّتي صنّفتها، واستكثَرْتُ فيها من إيراد السّؤالات، فَلْيَذكرني مَنْ نظر فيها بصالح دعائه، عَلَى سبيل التّفضُّل والإِنعام، وإِلا فَلْيَحذِف القولَ السّيّئ([2])، فإنّي ما أردتُ إلّا تكثيرَ البحثِ، وشحذَ الخاطر، والاعتماد في الكلِّ عَلَى الله.
الثّاني، وهو إصلاح أمرِ الأطفال، والاعتماد فيه عَلَى الله» .
ثُمَّ إنّه سَرَد وصيّته في ذَلِكَ، إِلى أن قَالَ: «وأمرت تلامذتي، ومَن لي عَلَيْهِ حقٌ إذَا أَنَا مِتُّ، يبالغون في إخفاء موتي، ويدفنوني عَلَى شرط الشّرع، فإذا دفنوني قرءوا عليَّ ما قَدَرُوا عَلَيْهِ من القرآن([3])، ثُمَّ يقولون: يا كريمُ، جاءك الفقيرُ المحتاج، فأحسِن إليه» .
سمعت وصيّته كلها من الكمال عُمَر بْن إلياس بْن يونس المَراغي، أَخْبَرَنَا التّقيّ يوسف بْن أَبِي بَكْر النَّسائيّ بمصر، أَخْبَرَنَا الكمال محمود بْن عُمَر الرازيّ، قَالَ: سَمِعْتُ الإِمام فخر الدّين يوصي تلميذه إِبْرَاهيم بن أبي بكر، فذكرها".اهـ
قلت: ومن يتأمل كتاب "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين"، يجد أن الرازي أنكر كثيرًا من طرق أهل البدع والزيغ، وشدّد الأمر على الروافض والحلولية –وإن كان حسَّن أمر بعض فرق التصوف-، فقال كما في (ص73): "الخامسة الحلولية وهم طَائِفَة من هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ يرَوْنَ فِي أنفسهم أحوالاً عَجِيبَة وَلَيْسَ لَهُم من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة نصيب وافر فيتوهمون أَنه قد حصل لَهُم الْحُلُول أَو الِاتِّحَاد فَيدعونَ دعاوى عَظِيمَة وَأول من أظهر هَذِه الْمقَالة فِي الْإِسْلَام الروافض فَإِنَّهُم ادعوا الْحُلُول فِي حق أئمتهم". اهـ
وجاء في كتاب "القائد في تصحيح العقائد" (ص74): عن الرازي أنه قال: "لقد اخترت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فائدة تساوي الفائدة التي في القرآن الكريم".
وقال الفخر الرازي([4]):
العلم للرحمن جلّ جلاله وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم
قلت: وقد أشار ابن الوزير اليماني إلى رجوع الغزالي والرازي إلى منهج السلف الصالح، بقوله في أبياته الدالية:
وابن الخطيب وحجة الإسلام قد خمدَا
نارًا ذكاهما لم تخمداه
إلى أن قال:
وبعده تابَا ولكن بعدما سلاَّ على
الإسلام سيفًا لا أراه مغمدًا".
يتَّبع إن شاء الله ...
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان

([1]) هذا الكلام في موعظة بليغة للثلاثي: الجفري، وعلي جمعة، وأسامة الأزهري؛ الذين يحسِّنون الطرق الكلامية والفلسفية بكل الطرق والوسائل، غير معتبرين بتراجع بعض أساطين الفلسفة وعلم الكلام عن طرائقهم لما تبين لهم بعد ضياع عمرهم أنها ضرتهم في دينهم ولم تنفعهم.

([2]) وهذا نصٌّ واضح في تراجعه عن السيء من كتاباته الكلامية التي بنيت على الجدل المذموم، والتي ردَّ عليه فيها شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-.

([3]) الراجح أن قراءة القرآن على الميت بعد موته، وعلى القبر بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من أصحابه رضي الله عنهم، وهم أحرص الناس على فضائل الأعمال.

([4]) نقله عنه: ابن الوزير في "إيثار الحق على الخلق" (1/353).

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10-01-2016, 02:58 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

تابع... برهان البركان ضد مقررات مؤتمر الشيشان (9)
فصل: نقد مقالات علي جمعة –مفتي مصر الأسبق-
إن علي جمعة منذ أن تولّى الإفتاء في الديار المصرية، بل -من قبل ومن بعد- له فتاوى شاذة، أغلبها يستنكرها المسلم بفطرته –ولو كان جاهلاً- فضلاً عن العالم؛ لبعدها عن الصراط المستقيم ولمنافاتها للفطر السليمة.
وأذكر نُبَذًا من هذه الفتاوى، خاصة التي نصر فيها خرافات الصوفية وخزعبلاتهم؛ كي ندرك أن توافقه مع حبيب الجفري، وأسامة الأزهري لم يأتِ من فراغ، إنما لتوافقهم في المعتقد الصوفي الخرافي.
وأغلب هذه الفتاوى هي عبارة عن مقاطع صوتية مسجلة بصوت علي جمعة، ومنشورة على الشبكة العالمية للاتصالات:
أولاً: سئل علي جمعة: هل الرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور؟
الجواب: أمال مخلوق من إيه؟ !يعني إيه مخلوق من نور! ما هو نور، ولّا أنت عايز أصل الخلقة يعني علشان نحلِّله يعني ولّا عايزين إيه بالضبط؟! هو نور، عليه الصلاة والسلام".
قلت: ما هو الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خُلِق من النور؟
لم يصح دليل في هذا، إنما يحتّجون بحديث مكذوب لا أصل له، وهو حديث:
"أول ما خلق اللهُ نورُ نبِيكِ يا جابر، الحديث"، يُعزى إلى عبدالرزاق ولا وجود له في المصنّف المطبوع.
وأورده العجلوني في كشف الخفا (1/265) عن جابر بن عبدالله بلفظ: قال قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء.
قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقُدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جِنِّيٌ ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم ومن الثاني اللوح ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حَمَلَة العرش، ومن الثاني: الكرسي، ومن الثالث: باقي الملائكة، ثم قسَّم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسَّم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهى المعرفة بالله ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله... الحديث".
قلت: وهذا حديث منكر اللفظ لا يشك في نكارته عالم شمَّ رائحة العلم، وعرف نصوص الكتاب والسنة، كيف وهو لا أصل له في الكتب المسندة.
وكما هو ظاهر من نص الحديث أنه جعل "النور المحمدي"، والذي جعله أصل مادة المخلوقات جميعًا، وهذا غلوٌ شنيع يعارض صريح القرآن والسنة.
فمن نكارته البيّنة دعواه أن الأرض والسماء خلقت من جزء من النور المحمَّدي، وقد قال الله جلَّ وعلا في أصل نشأة السماء والأرض: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، قال بعض المفسِّرين: "إن الدخان الذي ذكر الله تعالى أنه أصل السماء أصله من بخار الماء الذي كان عليه عرش الرحمن قبل خلق السماوات والأرض وما فيهن من الكائنات.
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ».
قال الألباني تعليقًا على هذا الحديث في الصحيحة (1/820): "وفيه إشارة إلى بطلان الحديث المشهور على ألسنة الناس: "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"، ونحوه من الأحاديث التي تقول: بأنه صلى الله عليه وسلم خُلِق من نور، فإن هذا الحديث دليل واضح على أن الملائكة فقط هم الذين خلقوا من نور، دون آدم وبنيه، فتنبه، ولا تكن من الغافلين".
ثانيًا: سئل علي جمعة: هل نتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
فأجاب: نعم نتوسل بالنبي، أم نتوسل بمن؟ نحن نتوسل لله، لكن نقول: يا رب من أجل حبّك للنبي افعل لي كذا، من الذي يعمل؟ من الذي يستجيب؟ ..الله... يعني يا ربّ عشان خاطر النبي، ليس فيها شيء.. هكذا.. توسل بالنبي عليه الصلاة والسلام".
قلت: أولاً قوله: أم نتوسل بمن؟ جوابه: نتوسل بأسماء وصفات الله عز وجل وبالعمل الصالح، هذا هو التوسل المشروع الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة.
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيقصد به أحيانًا معنًى صحيحًا، وأخرى معانٍ باطلة، وقد خلط بينها علي جمعة في كلامه؛ تلبيسًا للحق بالباطل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في "حكم التوسل والوسيلة" (ص86): "وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته.
والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون ويسألون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح.
وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة.
فأما المعنيان الأوليان - الصحيحان باتفاق العلماء -:
فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته.
والثاني: دعاؤه وشفاعته... فهذان جائزان بإجماع المسلمين.
ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيِّنا فاسقنا، أي بدعائه وشفاعته.
قوله تعالى (5: 35) : {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي القربة إليه بطاعته. وطاعةُ رسوله طاعته، قال تعالى (4: 80) : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاع الله} .
فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسُّل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائماً.
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان:
أحدهما: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: لا يُسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك.
قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة...".اهـ
ثالثًا: سُئل علي جمعة: ما رأيكم في نهج البردة للبوصيرى ؟
فكان الجواب: هو نهج البردة مش للبوصيري، ده لأحمد شوقي، إنما البوصيري له البردة نفسها".
وقوله : إن من جودك الدنيا وضرتها، ومن علومك علم اللوح والقلم؟
فأجاب: طبعًا طبعًا أُمّال إيه؟! طبعًا، من جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا وضرتها، طبعًا أُمّال إيه؟!".
قلت: قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، كما في الدرر السنية (11/214): "اعلم: أن البردة التي تنسب للبوصيري، قد ضمنها أبياتًا شركية، تنافي ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيده، وقد افتتن بها كثير من الناس، وجعلوها أفضل من الأوراد النبوية التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم اشتغل بها عن القرآن.
ومن المعلوم عند أهل السنة والجماعة: أن أبيات حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير وأمثالهم، أفضل منها لوجوه: منها: أنه على الوجه العربي. ومنها: أن اللُّغة سليقتهم. ومنها: أنه ليس فيها من الإطراء- الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم - شيء.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها واستحسنها، وهم صحابته، وهؤلاء عدلوا عنها إلى شعر المولِّدين، الذين جمعوا فيه الغث والسمين، وتصرفوا في الدين بآرائهم التي لم ينزل الله بها سلطانًا.
وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [سورة الجن آية: 21-22] ، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 188]...".
وقال الشيخ ابن عثيمين كما في "الفتاوى والرسائل" (9/57): " ومن الغلو قول البوصيري في "البردة" المشهورة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
قال ابن رجب وغيره: إنه لم يترك لله شيئا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمَّدًا عبد الله، بل شهد أن محمَّدًا فوق الله! كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد؟!
وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة".
رابعًا: قال علي جمعة: "كان زمان الشيخ علي الخواص، بلغ مرتبة الولاية؛ لأنه كان ينظف للكلاب مساقيها، وكان يلف على أخلية المساجد بعد العشاء لتنظيفها، فوصل إلى مرحلة القطبانية، الشيخ علي الخواص، وكان شيخًا للإمام الشعراني، ليه؟ ينظف المساجد، ينظف دورات المياه؛ لأن الدين بتاعنا مبني على الطهارة، ماقلش لأ دا أنا رجل صالح وكبير ومتصدر والناس بييجوا يتعلموا عندي، أبدًا، تواضع لله فرفعه، حقيقة مش مجازًا، وخلانا أهو دلوقت إحنا بعد 500 سنة بنجيب سيرته، ونقول رضي الله عنه، إيه ده؟! ده لازم عمل حاجة كبيرة أوي، أخلص لله، ... بنقول سيدي علي الخواص وهو ماكنش يعرف يقرأ ويكتب، ليس بالقراءة وبالكتابة، دا شيء وقر في القلب".
قلت: هل يعرف علي جمعة مَن هو علي الخوّاص؟ بلا شك يعرف؛ لأنه لا يخفى على مثله ما جاء في ترجمته في كتب التراجم، ولنذكر طرفًا منها؛ لنرى حال الخوَّاص:
أولاً: نقل أبو محمد عبدالوهَّاب بن أحمد بن علي الحَنَفي -نسبه إلى محمد ابن الحنفية- الشَّعْراني (ت 973هـ) في كتابه "لوافح الأنوار في طبقات الأخيار" المشهور بـ: "الطبقات الكبرى" في ترجمة علي الخواص: "إنه –أي الخوّاص- كان يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة"، وقال: "وكذلك وقع لفقيرة من تلامذتنا أنها رأت في المنام أن الحق تعالى أعطاها ورقة فانطبقت كفها حين استيقظت فلم يقدر أحد على فتحها فألهمني الله تعالى أني قلت لها إنوِ بقلبك أنه إذا فتح الله كفَّك أن تبتلعيها فنوت وقربت يدها إلى فمها فدخلت الورقة في فيها قهراً عليها فقال الولي بم عرفت ذلك فقلت ألهمت أن الله تعالى لم يرد منها أن يطلع أحد عليها، وقد أطلعني الله تعالى على الفرق بين كتابة الله تعالى في اللوح المحفوظ وغيره وبين كتابة المخلوقين وهو علم عجيب رأيناه وشاهدناه انتهى" (اليواقيت والجواهر ص 84 ج2(.
ثانيًا: نقل زين الدين محمد عبدالرءوف الْمُناوي في "الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية"، المشهور بـ: "الطبقات الكبرى" (3/417): "عليُّ الخوَّاص البُّرُلُّسيُّ، الأميُّ المعروف بين الخواص بالخوَّاص، كان من أكابر أهل الاختصاص، ومن ذوي الكشف الذي لا يُخطئ، والاطلاع على الخواطر على البديهة فلا يبطئ".
وقال: "وكان معه تصريف ثلاثة أرباع مصر، والرُّبُع مع محسن المجذوب.
وكان إذا شاوره أحدٌ لسفر، يقول: قل بقلبك عند الخروج من السُّور أو العمران: دستور يا أصحاب النَّوبة، اجعلوني تحت نظركم حتى أرجع، فإنهم يحبُّون الأدب معهم، ولهم اطلاع على خواطر مَن يمرُّ بهم في دركهم، وعلى معرفة أعمالهم، ولهم تأديب مَن حصلت منه زلَّة".
وقال في (3/421): "وقال: صرَّحوا بأن من شرط الشيخ أن يسمع نداء مريده له، ولو كان بينهما مسيرة ألف عام.
وقال: شرط صحة بداية المريد أن يمشى على الماء والهواء، وتطوى له الأرض، ومَن لم يقع له ذلك ليس في مقام الإرادة".
قلت: هكذا لم يجد علي جمعة مثالاً يُحتذى به في هذا العمل الصالح ذي الأجر الكبير إلا هذا الدجَّال الذي يدّعي علم الغيب، وكان يكفيه ما جاء في السنة:
أخرج البخاري (460)، ومسلم (957) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ -أَوْ شَابًّا- فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي»، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ - فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ» فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ».
خامسًا: سئل علي جمعة: هل يجوز قراءة صلاة ابن بشيش رضي الله عنه؟
الجواب: نعم يجوز، مالها صلاة ابن بشيش؟!
قلت: عبد السلام بن بشيش أو مشيش، من كبار شيوخ الشاذلية، وكان من أهل وحدة الوجود.
وإليك نصّ هذه الصلاة البدعية: "اللهم صلِّ على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم بأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه سابق ولا لاحق، فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا هو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، صلاة تليق بك إليه كما هو أهله اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك اللهم ألحقني بنسبه وحققني بحسبه وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل وأكرع بها من موارد الفضل، واحملني على سبيله إلى حضرتك حملاً محفوفًا بنصرتك واقذف بي على الباطل فأدمغه، وزج بي في بحار الأحَدِيَّة، وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي وروحه سر حقيقتي وحقيقته جامع عوالمي بتحقيق الحق الأول يا أول يا آخر يا ظاهر، يا باطن اسمع ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا وانصرني بك لك وأيدني بك لك واجمع بيني وبينك"، [الحزب الكبير للدسوقي وأذكار الطريقة الشاذلية].
قلت: أرأيتم هذا الغلو الذي فاق غلو النصارى؟! ولم يكن إلا قوله: "ولا شيء إلا هو به منوط"، لكفى به.. فماذا ترك لله عز وجل إن كان كل شيء منوط بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! فكيف وقد قال أيضًا: "وزجَّ بي في بحار الأحَدِيَّة، وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة"، أي وحدة الوجود، فجعل توحيد الله أوحالاً، واعتقاد وحدة الخالق مع المخلوق في بحر الوحدة هو الغاية العظمى.
ثم يأت علي جمعة ويقول: صلاة ابن بشيش لا شيء فيها، أي: ليست بها مخالفة ولا إشكال!".
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى رقم (4911):
"لا يجوز التعبد بما في هذا الكتاب -أوراد الطريقة البرهامية- لما في ذلك من قراءة القرآن للأموات بل لأموات مخصوصين يتوقع أنها قرئت لهم رجاء بركتهم، كما في فواتح أهل السلسلة، وفيه من البدع جعل قراءة الفواتح لهؤلاء مفتاحًا للأوراد ولما في الأساس الذي يقرأ بعد الصبح وبعد العصر من بدعة تحديد الوقت لهذا الذكر وتحديد عدد مائة مرة للبسملة وعدد مائة مرة للذكر بكلمة - يا دائم - فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل حدا لذلك من الوقت أو العدد، بل لم يثبت عنه أنه تقرب إلى الله بتكرار البسملة مجردة ولا أنه ذكر الله بكلمة - يا دائم - مجردة.
ولمَا جاء فيه من التوسل بالعرش والكرسي والنور النبوي في الدعاء، وذلك تحت عنوان: التحصين الشريف والغوثية، ولما جاء في الحزب الكبير من ذكر وأدعية بدعية، ومن التوسل بالحروف المقطعة في أوائل السور وبأسماء مجهولة المعنى غير عربية مثل كد كد، كردد كردد - كرده كرده - ده ده - بها بها بها - بهيا بهيا بهيا - بهيات بهيات بهيات، ولما جاء في صلاة ابن مشيش من الكلمات المنكرة مثل قوله في النبي صلى الله عليه وسلم: ولا شيء إلا وهو به منوط إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، وقوله في الدعاء: "وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها ..." إلى آخره، ولما فيه من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته والشافعي والبدوي والرفاعي والاستغاثة بغير الله وذلك بمنظومة تحت عنوان (التوسل) ....إلى غير ذلك من البدع الشركية ووسائل الشرك والخرافات، وعلى هذا فلا يجوز التعبد بهذه الأوراد، وعلى كل مسلم أن يتعبد بما ثبت التعبد به عن النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن والأذكار والدعوات الثابتة عنه في سننه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم".اهـ
سادسًا: سئل علي جمعة: يسأل عن الصلاة التفريجية اللهم صلي صلاة كاملة وسلم سلامًا تامًا على نبيك تنحل به العقد، وتنفرج به الكرب وتقضى به الحوائج وتنال به الرغائب وحسن الخواتيم ويستسقى الغمام بوجهه الكريم وعلى آله؟
الجواب: هي حلوة، هم المسلمين يقولوا –كذا- حلوة، مش أنا... أنت إيه اللي معاكسك فيها؟! ويستسقى الغمام بوجهه الكريم، ما هو مش عايز يستسقى الغمام بوجهه الكريم.. أبو طالب قال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، هو إحنا يابني! ده أبو طالب اللي قال، والنبي عليه الصلاة والسلام سمع ورضي بذلك... وكان الشيخ التازي يقرأها أربعة أربعة أربعة أربعة، يعني 4444، فسميت الصلاة التازية، ما فيه مانع... تنحل به العقد؟ ما هو وسيلتنا إلى ربنا سبحانه وتعالى، يدعو لنا، قال: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، تعرض عليَّ أعمالكم فإن وجدت خيرًا حمدت الله، وإذا وجدت غير ذلك استغفرت لكم"، ما هو يدعوا لنا، هل {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} نسخت؟!... فالقرآن، والسنة، والإجماع، والعمل على هذا، عايز إيه؟! هتلحس دماغنا ودماغك ليه؟! أتأكد بس، تأكد من إيه؟! ما الذي جعل في قلبك الريبة والشك؟ أغلقوا على أنفسهم الباب، افتح يا بني، افتح الباب، افتح، افتح وصلِّ على النبي عليه الصلاة والسلام، النبي ده رجل عظيم جدًّا، تنحل به الكرب، وتقضى به الحوائج، وتنال به الرغائب، وحسن الخواتيم، ويستسقى الغمام بوجهه الكريم ومهما قلنا فلن نوفيه حقَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من .. هو الإيمان، وهو أصل الإسلام، وحبُّه بهذه الطريقة العاطفية مطلوب كل يوم بالذات، كل يوم ليه؟ لأن الحرب عليه تزداد صلى الله عليه وسلم من المشرق إلى المغرب، فينبغي على أهل نصرته أن ينصروه ويعزّروه ويؤيدوه، لأنفسهم مش له، ما خلاص هو سبق، لأنفسهم، إذا أردت أن تكون شيء".اهـ
قلت: هكذا رفع علي جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مرتبة الألوهية، فجعل النبيَ صلى الله عليه وسلم: [تنحلُّ به الكرب، وتقضى به الحوائج، وتنال به الرغائب، وحسن الخواتيم، ويستسقى الغمام بوجهه الكريم]، والله عز وجل يقول: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، وكان الجواب: {قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}.
وقال سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}.
وقال في حقِّ رسوله: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِين}.
وهل الشيخ التازي هذا حجة؟!
وأما حديث: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم..."، فقد استقصى طرقه وشواهده العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة (975)، وبيّن عدم ثبوته.
وأما احتجاجه بآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}، فهو احتجاجٌ في غير موضعه، فالصحابة –وهم حملة القرآن ومفسِّروه- لم يفهموا منها الإتيان إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم طلبًا للاستغفار، أو التوسل به بعد موته، بل اتفقت التفاسير المعتبرة على أن المقصود بالآية جماعة من المتحاكمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أي في حياته، فالمقصود الإتيان إليه في حياته لا الإتيان إلى قبره بعد موته.
واذكر ما قاله الزمخشري في "كشّافه" –على اعتزاله-؛ نظرًا لأن القوم يعظِّمون تفسيره، ويعتبرونه من المراجع الأساسية عندهم، خاصة في التفسير اللُّغوي البلاغي، حيث قال في "الكشَّاف" (1/528): "وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من ذلك بالإخلاص، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك بردّ قضائك، حتى انتصبت شفيعًا لهم إلى اللَّه ومستغفرًا لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا لعلموه توابًا، أى لتاب عليهم".
قال ابن الجوزي في زاد المسير (1/428): "وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} يرجع إلى المتحاكمين اللَّذين سبق ذكرهما، قال ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرّسول: {جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ}، من صنيعهم".
قلت: والمراد بالمتحاكمين ما جاء في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63)}.
قال ابن كثير في تفسيره (2/346): "هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرِيدُ التَّحَاكُمَ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ تَخَاصَمَا، فَجَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُحَمَّدٌ. وَذَاكَ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَقِيلَ: فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، مِمَّنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، أَرَادُوا أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّهَا ذَامَّةٌ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَحَاكَمُوا إِلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ هَاهُنَا".
قلت: وأمّا ما ذكره ابن كثير بعد ذلك من قصة العتبي، دون أن يبيّن حكم إسنادها، فهذا مِمَّا يؤخذ عليه –رحمه الله-، والقصة كما ساقها ابن كثير: "وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ "الشَّامِلِ" الْحِكَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عَنْ العُتْبي، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبِّي ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا خيرَ مَنْ دُفنَت بِالْقَاعِ أعظُمُه ... فَطَابَ منْ طِيبِهِنَّ القاعُ والأكَمُ ...
نَفْسي الفداءُ لقبرٍ أَنْتَ ساكنُه ... فِيهِ العفافُ وَفِيهِ الجودُ والكرمُ ...
ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ: يَا عُتْبى، إلحقْ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ له".
قلت: انظر "بطلان قصتي الأعرابي والعتبي عند قبر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وبيان مخالفتهما للدين"، تأليف الأخ الفاضل الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله العُمَيسان، حيث بيّن أن مدار أسانيد هذه القصة على محمد بن روح بن يزيد البصري (ت 245 ه)، ونقل قول الذهبي في ميزان الاعتدال (3/546): "قال يونس: منكر الحديث"، وبقية الرواة أغلبهم مجاهيل أو ضعفاء.
وقال شيخ الإسلام في التوسل والوسيلة (ص24): "ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحدًا منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئًا، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه....".
سابعًا: وسئل: هل المرسي أبو العباس رأى الرسول في اليقظة؟
الجواب: كل يوم كان بيراه في اليقظة، إيه يعني!
وقال: بيقول كيف رأيت الرسول في اليقظة؟
الجواب: شوف الغتاتة –كذا-! مش مصدق ولا إيه..كنت مشتغل بقراءة السيرة العطرة، وقرأت كثيرًا جدًّا أكثر من حوالي أربعين كتابًا، قرأتهم وراء بعض وراء بعض وراء بعض وراء بعض وراء بعض، فكأني عشت فيه، يعني في جو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته في المنام ثم رأيته في اليقظة، قاعد أنا متوقف في أمانة الله وراح داخل عليَّ صلى الله عليه وسلم ولابس عباءة، واللي حصل حصل، أنت مالك بقى؟! أجيبك معايا علشان تشوف ايـ .. شاف ولا ماشفش؟! أنا باقولك أنا شوفته –أي رأيته- في اليقظة صدقت صدقت، ما صدقتش عندك بحر النيل أهو اشرب منه، أنت حرٌّ!! لكن ما الذي حدث حصل بالتفصيل؟ لا أستطيع أنا أقول إيه اللي حصل بالتفصيل..! ده حاجة خاصة، أنا قلت لك اللي ينفعك وبس، أنت بتسأل: هل ده ممكن؟ آه ممكن، ليه؟ لأنه حصلّي، ماقدرش أقول إنه مش ممكن، أكذب يعني أقول لكم إيه!! والذين يدعون أنهم يرون رسول الله يقظة إنما هم من الكذابين، ماقدرش أقول كده، لحاجة بسيطة أوي، لسبب أني أنا شوفته –أي رأيته-.. أعمل إيه؟! عاجبكم عاجبكم، لا يعجبكم إنساها يا سيدي، إنساها، ومن يراني في المنام فسيراني في اليقظة، فرأيته في المنام ورأيته في اليقظة، أعمل أنا إيه بقى! أقولّه ماتجيش تاني؟! ما حاجة تغيظ، وسيدنا المرسي أبو العباس قال: لو أنني انقطَعَتْ رؤيتي عنه ما عددت نفسي من المسلمين، كان بيشوفه علطول –أي يراه دائمًا-، إيه بقى –أي لماذا- التكذيب؟... نقول مثلاً أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! ولا إيه؟ "من رآني فقد رآني حقًّا، فإن الشيطان لا يتمثل بي..."، ثم قال: "ومتفق بين كل المسلمين وكل العقلاء أن الشرع الشريف هو مقياس الحق، وأن هذه الرؤى إنما هي بشرى ، لا يؤخذ منها شرع، ولا يثبت بها شيء، إنما بشرى .. باقية، الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له...".
قلت: أخرج البخاري في كتاب "التعبير" (بَابُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَنَامِ) (6993)، ومسلم (2266) من حديث أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي»، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ».
وأخرج البخاري بعده (6994) من حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي، وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ».
وأخرج مسلم (2268) من حديث جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدْ رَآنِي، إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي».
وأخرج البخاري بعده (6996)، ومسلم (2267) من حديث أَبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الحَقَّ».
وأخرج البخاري بعده (6997) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الحَقَّ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَكَوَّنُنِي».
قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/154): "أى أن رؤياه- عليه السلام- حق ليس فيها للشيطان عمل ولا تلبيس، وأن الشيطان غير متسلط على التصور فى المنام على صورته".
وقال يحيى بن هبيرة في الإفصاح عن معاني الصحاح (6/185): "في هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه وتعالى كما حمى صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة عن أن يتمثل بها شيطان لئلا يغير على المسلمين أحكامهم، ولا يجرى كما جري في حق سليمان عليه السلام؛ إذ قال الله سبحانه: {وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب}، حمى الله مثال صورته في المنام ليكون ما أداه إلى أمته في اليقظة محروسًا محميًا مصونًا، وما يلقيه إليهم بعد موته في المنامات، وهي المبشرات التي أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة محمية من أن يخالطها نفث الشيطان بحال".
قال الحافظ في الفتح (12/385): "وَالْحَاصِلُ مِنَ الْأَجْوِبَةِ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ ثَانِيهَا أَنَّ مَعْنَاهَا سَيَرَى فِي الْيَقَظَةِ تَأْوِيلَهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوِ التَّعْبِيرِ، ثَالِثُهَا: أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَهْلِ عَصْرِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ... خَامِسُهَا: أَنَّهُ يَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ لَا مُطْلَقٌ مَنْ يَرَاهُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ لَمْ يَرَهُ فِي الْمَنَامِ، سَادِسُهَا: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً وَيُخَاطِبُهُ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِشْكَالِ".
وكان قد قال قبل هذا بعد أن ذكر دعوى مَن رآه في اليقظة: "وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ صَحَابَةً وَلَأَمْكَنَ بَقَاءُ الصُّحْبَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ جَمْعًا جَمًّا رَأَوْهُ فِي الْمَنَامِ ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ وَخَبَرُ الصَّادِقِ لَا يَتَخَلَّفُ وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى مَنْ قَالَ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَأَى حَقِيقَتَهُ ثُمَّ يَرَاهَا كَذَلِكَ فِي الْيَقَظَة كَمَا تقدم قَرِيبًا".
وقال الطيبي في شرح المشكاة (9/3002): "يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه، وحصول شفاعته ونحو ذلك".
وقال يحيى بن هبيرة في الإفصاح عن معاني الصحاح (6/185): "فأما قوله: (فسيراني في اليقظة)؛ فإنه يدل على أنه لا يراه في المنام إلا مؤمن، فلذلك وعد -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيراه في اليقظة يعني في القيامة".
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل (3/376): "وَهَذَا كالبشارة لمن يرَاهُ بِأَنَّهُ يلقاه يَوْم الْقِيَامَة".
وقال العلامة الألباني -رحمه الله- "شرح العقيدة الطحاوية" (ص31): "ومن هنا جاء ضلال بعض الدجالين يزعمون أنهم يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم يقظة، ويسألونه عما خفي عليهم من بواطن نفوس من يخالطونهم ، ويريدون تأميرهم في بعض شؤونهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ليعلم مثل ذلك في حال حياته {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، فكيف يعلم ذلك بعد وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى".
يتَّبع إن شاء الله ...
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 10-01-2016, 03:04 PM
الصورة الرمزية أسامة بن عطايا العتيبي
أسامة بن عطايا العتيبي أسامة بن عطايا العتيبي غير متواجد حالياً
المشرف العام-حفظه الله-
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 5,364
شكراً: 2
تم شكره 271 مرة في 211 مشاركة
افتراضي

المصدر:

شبكة سحاب السلفية - المنبر الإسلامي

http://www.sahab.net/forums/index.ph...5#_msoanchor_1
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
طريقة عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:18 PM.


powered by vbulletin