بسم الله الرحمن الرحيم
عن أبي حيان التيمي أنه قال: العلماء ثلاثة: فعالم باللّه ليس عالماً بأمر اللّه ، وعالم بأمر اللّه ليس عالماً باللّه ، وعالم باللّه عالم بأمر اللّه . فالعالم باللّه هو الذي يخافه ، والعالم بأمر اللّه هو الذي يعلم أمره ونهيه . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "واللّه إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه ، وأعلمكم بحدوده".
وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحون في الكتاب والسنة ، لم يكونوا مستحقين للذم ، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات ، ويدل عليه قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13، 14] ، وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ، فوعد بنصر الدنيا وبثواب الآخرة لأهل الخوف ، وذلك إنما يكون لأنهم أدوا الواجب ، فدل على أن الخوف يستلزم فعل الواجب ؛ ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف اللّه . ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [النساء:17] .
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية ، فقالوا لي: كل من عصى اللّه فهو جاهل ، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب . وكذلك قال سائر المفسرين . قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته . وقال الحسن وقتادة وعطاء والسُّدِّي وغيرهم: إنما سموا جهالاً لمعاصيهم ، لا أنهم غير مميزين . وقال الزجاج: ليس معنى الآية: أنهم يجهلون أنه سوء ؛ لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءاً ، وإنما يحتمل أمرين:
أحدهما: أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه .
والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة ، وآثروا العاجل على الآجل ، فسموا جهالاً لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة ، والعافية الدائمة . فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل ، وإما فساد الإرادة ، وقد يقال: هما متلازمان ، وهذا مبسوط في الكلام مع الجهمية.
والمقصود هنا أن كل عاص للّه فهو جاهل ، وكل خائف منه فهو عالم مطيع للّه ، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه من اللّه ؛ إذ لو تم خوفه من اللّه لم يعص . ومنه قول ابن مسعود رضي اللّه عنه : كفى بخشية اللّه علماً ، وكفى بالاغترار باللّه جهلاً ، وذلك لأن تصور المخوف يوجب الهرب منه ، وتصور المحبوب يوجب طلبه ، فإذا لم يهرب من هذا ، ولم يطلب هذا ، دل على أنه لم يتصوره تصوراً تاماً ، ولكن قد يتصور الخبر عنه ، وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المخبر عنه ، وكذلك إذا لم يكن المتصور محبوباً له ولا مكروهاً ، فإن الإنسان يصدق بما هو مخوف على غيره ومحبوب لغيره ، ولا يورثه ذلك هرباً ولا طلبا . وكذلك إذا أخبر بما هو محبوب له ومكروه ، ولم يكذب المخبر بل عرف صدقه ، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به ، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب.
وفي الكلام المعروف عن الحسن البصري ويروى مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "العلم علمان: فعلم في القلب ، وعلم على اللسان . فعلم القلب هو العلم النافع ، وعلم اللسان حجة اللّه على عباده" .
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة ، طعمها طَيِّب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة ، طعمها طيب ، ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ، ريحها طيب وطعمها مر . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحَنْظَلَة ، طعمها مر ، ولا ريح لها" . وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن يحفظه ويتصور معانيه ، وقد يصدق أنه كلام اللّه ، وأن الرسول حق ، ولا يكون مؤمنا ، كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وليسوا مؤمنين ، وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما . لكن من كان كذلك ، لم يكن حصل له العلم التام والمعرفة التامة . فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه لا محالة ؛ ولهذا صار يقال لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل، كما تقدم .
المصدر :
كتاب الإيمان لابن تيميه - رحمه الله -
دراسة وتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -