منتديات منابر النور العلمية

العودة   منتديات منابر النور العلمية > :: الـمـــنابـــر الـعـلـمـيـــة :: > منبر التراجم والتعريف بالشخصيات المشهورة

آخر المشاركات خطب الجمعة والأعياد (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          مجالس شهر رمضان المبارك لعام 1445هـ (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          تسجيلات المحاضرات واللقاءات المتنوعة (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          جدول دروسي في شهر رمضان المبارك لعام 1445 هـ الموافق لعام2024م (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          تنبيه على شبهة يروجها الصعافقة الجزأريون الجدد وأتباع حزب الخارجي محمود الرضواني (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          صوتيات في الرد على الصعافقة وكشف علاقتهم بالإخوان وتعرية ثورتهم الكبرى على أهل السنة (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          راجع نفسك ومنهجك يا أخ مصطفى أحمد الخاضر (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          [محاضرة] وقفات مع حادثة الإفك الجديدة | الشيخ عبد الله بن مرعي بن بريك (الكاتـب : أبو عبد الله الأثري - )           »          شرح كتاب (فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب) وكتاب (عمدة السالك وعدة الناسك) في الفقه الشافعي (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          التنبيه على خيانة الصعافقة الهابطين في نشرهم مقطعا صوتيا للشيخ محمد بن هادي بعنوان كاذب! (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-02-2012, 10:27 AM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي ترجمة الشيخ العلامة المحدث تقي الدين الهلالي للشيخ د. عاصم بن عبد الله القريوتي

ترجمة الشيخ العلامة المحدث تقي الدين الهلالي
الشيخ د. عاصم بن عبد الله القريوتي

نسبه:
هو العلامة المحدث، واللغوي الشهير، والأديب البارع، والشاعر الفحل، والرحالة المغربي، الرائد الشيخ السلفي الدكتور: محمد التقي المعروف بـ محمد تقي الدين، كنيته أبو شكيب (حيث سمى أول ولد له على اسم صديقه الأمير شكيب أرسلان) بن عبد القادر بن الطيب بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن عبد النور بن عبد القادر بن هلال بن محمد بن هلال بن إدريس بن غالب بن محمد المكي بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن أبي القاسم بن علي بن عبد القوي بن عبد الرحمن بن إدريس بن إسماعيل بن سليمان بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وفاطمة بنت النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وقد أقر هذا النسب السلطان الحسن الأول حين قدم سجلماسة سنة 1311 هـ.

نشأته:
ولد الشيخ سنة 1311 هـ بقرية الفرخ، وتسمى أيضا بـ الفيضة القديمة، على بضعة أميال من الريصاني، وهي من بوادي مدينة سجلماسة المعروفة اليوم بتافيلالت الواقعة جنوبا بالمملكة المغربية.
وقد ترعرع في أسرة علم وفقه، فقد كان والده وجده من فقهاء تلك البلاد.

رحلاته لطلب العلم وخدمته للدعوة:
قرأ القرآن على والده وحفظه وهو ابن اثنتي عشر سنة، ثم جوَّده على الشيخ المقرئ أحمد بن صالح، ثم لازم الشيخ محمد سيدي بن حبيب الله التندغي الشنقيطي، فبدأ بحفظ مختصر خليل، وقرأ عليه علوم اللغة العربية والفقه المالكي إلى أن أصبح الشيخ ينيبه عنه في غيابه، وبعد وفاة شيخه توجه لطلب العلم على علماء وجدة وفاس آنذاك إلى أن حصل على شهادة من جامع القرويين.
ثم سافر إلى القاهرة ليبحث عن سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فالتقى ببعض المشايخ أمثال الشيخ عبد الظاهر أبو السمح، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محمد الرمالي وغيرهم، كما حضر دروس القسم العالي بالأزهر، ومكث بمصر نحو سنة واحدة يدعو إلى عقيدة السلف ويحارب الشرك والإلحاد.
وبعد أن حج توجه إلى الهند لينال بغيته من علم الحديث، فالتقى علماء أجلاء هناك فأفاد واستفاد؛ ومن أَجَلِّ العلماء الذين التقى بهم هناك المحدث العلامة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري صاحب «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي»، وأخذ عنه من علم الحديث وأجازه، وقد قرّظه بقصيدة يُهيب فيها بطلاب العلم إلى التمسك بالحديث والاستفادة من الشرح المذكور، وقد طبعت تلك القصيدة في الجزء الرابع من الطبعة الهندية؛ كما أقام عند الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليماني نزيل الهند آنذاك، وقرأ عليه أطرافا من الكتب الستة وأجازه أيضا.
ومن الهند توجه إلى الزبير (البصرة) في العراق، حيث التقى العالم الموريتاني السلفي المحقق الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مؤسس مدرسة النجاة الأهلية بالزبير، وهو غير العلامة المفسر صاحب «أضواء البيان» واستفاد من علمه، ومكث بالعراق نحو ثلاث سنين ثم سافر إلى السعودية مرورا بمصر حيث أعطاه السيد محمد رشيد رضا توصية وتعريفاً إلى الملك عبد العزيز آل سعود قال فيها: «إن محمدا تقي الدين الهلالي المغربي أفضل مَن جاءكم من علماء الآفاق، فأرجو أن تستفيدوا من علمه»، فبقي في ضيافة الملك عبد العزيز بضعة أشهر إلى أن عُيِّن مراقبا للتدريس في المسجد النبوي، وبقي بالمدينة سنتين ثم نقل إلى المسجد الحرام والمعهد العلمي السعودي بمكة وأقام بها سنة واحدة.
وبعدها جاءته رسائل من إندونيسيا ومن الهند تطلبه للتدريس بمدارسها، فرجح قبول دعوة الشيخ سليمان الندوي رجاء أن يحصل على دراسة جامعية في الهند، وصار رئيس أساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء في مدينة لكنهو بالهند حيث بقي ثلاث سنوات تعلم فيها اللغة الإنجليزية ولم تتيسر له الدراسة الجامعية بها.
وأصدر باقتراح من الشيخ سليمان الندوي وبمساعدة تلميذه الطالب مسعود عالم الندوي مجلة "الضياء".
ثم عاد إلى الزبير (البصرة) وأقام بها ثلاث سنين معلما بمدرسة "النجاة الأهلية" المذكورة آنفا.
وبعد ذلك سافر إلى جنيف بالسويسرا وأقام عند صديقه، أمير البيان شكيب أرسلان، وكان يريد الدراسة في إحدى جامعات بريطانيا فلم يتيسر له ذلك، فكتب الأمير شكيب رسالة إلى أحد أصدقائه بوزارة الخارجية الألمانية يقول فيها: «عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله، وهو يريد أن يدرس في إحدى الجامعات، فعسى أن تجدوا له مكانا لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة»، وسرعان ما جاء الجواب بالقبول، حيث سافر الشيخ الهلالي إلى ألمانيا وعين محاضراً في جامعة "بون" وشرع يتعلم اللغة الألمانية، حيث حصل على دبلومها بعد عام، ثم صار طالباً بالجامعة مع كونه محاضراً فيها، وفي تلك الفترة ترجم الكثير من الألمانية وإليها، وبعد ثلاث سنوات في بون انتقل إلى جامعة برلين طالباً ومحاضراً ومشرفاً على الإذاعة العربية، وفي سنة 1940م قدم رسالة الدكتوراه، حيث فند فيها مزاعم المستشرقين أمثال: مارتن هارثمن، وكارل بروكلمان، وكان موضوع رسالة الدكتوراه «ترجمة مقدمة كتاب الجماهر من الجواهر مع تعليقات عليه»، وكان مجلس الامتحان والمناقشة من عشرة من العلماء، وقد وافقوا بالإجماع على منحه شهادة الدكتوراه في الأدب العربي.
وأثناء الحرب العالمية الثانية سافر الشيخ إلى المغرب، وفي سنة 1947م سافر إلى العراق وقام بالتدريس في كلية "الملكة عالية" ببغداد إلى أن قام الانقلاب العسكري في العراق فغادرها إلى المغرب سنة 1959م.
وشرع أثناء إقامته بالمغرب -موطنه الأصلي- في الدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشرك واتباع نهج خير القرون.
وفي هذه السنة (سنة 1959م) عين مدرسا بجامعة محمد الخامس بالرباط ثم بفرعها بفاس.
وفي سنة 1968م تلقى دعوة من سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة آنذاك للعمل أستاذاً بالجامعة منتدباً من المغرب فقبل الشيخ الهلالي وبقي يعمل بها إلى سنة 1974م حيث ترك الجامعة وعاد إلى مدينة مكناس بالمغرب للتفرغ للدعوة إلى الله، فصار يلقي الدروس بالمساجد ويجول أنحاء المغرب ينشر دعوة السلف الصالح.
وكان من المواظبين على الكتابة في مجلة (الفتح) لمحب الدين الخطيب، ومجلة (المنار) لمحمد رشيد رضا رحم الله الجميع.

شيوخه:
من شيوخه -رحمه الله- :
الشيخ محمد سيدي بن حبيب الله الشنقيطي.
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالرحيم المباركفوري .
الشيخ محمد العربي العلوي.
الشيخ الفاطمي الشراوي.
الشيخ أحمد سوكيرج.
الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليماني.
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (غير صاحب "أضواء البيان").
الشيخ رشيد رضا.
الشيخ محمد بن إبراهيم.
بعض علماء القرويين.
بعض علماء الأزهر.

مؤلفاته:
مؤلفات الشيخ تقي الدين الهلالي -رحمه الله- كثيرة جدا وجمعها ليس بالأمر الهين؛ لأنها ألفت في أزمنة مختلفة وبقاع شتى، ومنها:
الزند الواري والبدر الساري في شرح صحيح البخاري [المجلد الأول فقط].
الإلهام والإنعام في تفسير الأنعام.
مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل.
الهدية الهادية للطائفة التجانية.
القاضي العدل في حكم البناء على القبور.
العلم المأثور والعلم المشهور واللواء المنشور في بدع القبور.
آل البيت ما لهم وما عليهم.
حاشية على كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
حاشية على كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب.
الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق.
دواء الشاكين وقامع المشككين في الرد على الملحدين.
البراهين الإنجيلية على أن عيسى داخل في العبودية وبريء من الألوهية.
فكاك الأسير العاني المكبول بالكبل التيجاني.
فضل الكبير المتعالي (ديوان شعر).
أسماء الله الحسنى (قصيدة).
الصبح السافر في حكم صلاة المسافر.
العقود الدرية في منع تحديد الذرية.
الثقافة التي نحتاج إليها (مقال).
تعليم الإناث وتربيتهن (مقال).
ما وقع في القرآن بغير لغة العرب (مقال).
أخلاق الشباب المسلم (مقال).
من وحي الأندلس (قصيدة).

وفاته:
في يوم الإثنين 25 شوال 1407هـ الموافق لـ 22 يونيو 1987م أصيبت الأمة الإسلامية بفاجعة ومصيبة يصعب على القلم وصفها، وهي مصيبة موت الشيخ تقي الدين الهلالي -رحمه الله- وذلك بمنزله في مدينة الدار البيضاء بالمغرب. وقد شيع جنازته جمع غفير من الناس يتقدمهم علماء ومثقفون وسياسيون.
و قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «إنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّو» رواه البخاري.
فنسأل الله الكريم أن يرحم الشيخ رحمة واسعة ويدخله فسيح جناته.

منقول من شبكة الآجري:
http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=28306
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .

التعديل الأخير تم بواسطة بلال الجيجلي ; 11-02-2012 الساعة 02:22 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-02-2012, 02:27 PM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي

و هذا رابط لكتاب شيق للشيخ العلامة تقي الدين الهلالي وفيه فوائد جمة (الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة):
http://www.archive.org/download/abu_...hla_hilali.pdf
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-02-2012, 07:29 PM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي

ومن فوائد هذا الكتاب: " كانت عندي نسخة من عون المعبود شرح سنن أبي داود تأليف جماعة من علماء أهل الحديث منهم شيخنا عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبارك فوري كما أخبرني هو رحمه الله بذلك, و لا تصح نسبته إلى شخص واحد و إن كان الشيخ شمس الحق العظيم آبادي هو الذي كان ينفق على أولئك الجماعة زمان تأليفه و يشاركهم في العمل ".اهـ
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11-06-2012, 06:36 PM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي

الدعوة إلى الله في الإسكندرية

وبعدما خرجت من الطريقة التجانية ودخلت في الطريقة الحنيفية توجهت إلى مصر ولقيت إمام الدعوة في ذلك الزمان السيد محمد رشيد رضا- رحمة الله عليه- ولقيت أكثر الدعاة إلى السلفية في مصر كالشيخ محمد الرمالي بالقاهرة والشيخ حسن عبد الرحمن في مزرعته بين دمنهور والإسكندرية والشيخ عبد الظاهر أبى السمح والشيخ محمد أبي زيد في دمنهور والشيخ حامد الفقي بالقاهرة والشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة بكفر عامر والشيخ الألمعي عبد العزيز الخولي بالقاهرة.

ولما وصلت إلى الإسكندرية وإلى رملها بشاطئ بحرها لقيت أهل بيت (لا أقول أسرة ولا عائلة) من بلادنا سجلماسة بالمغرب الأقصى مستوطنين بالإسكندرية ففرحوا بي فرحا عظيما لأنهم يعرفون والدي، وكان من علماء بلادنا ويجلونه، فأكرموني لأجل ذلك، ووجدتهم تجانيين (طوخ) يعني غارقين في الطريقة سكارى بنشوتها، وكلمة (طوخ) فارسية فيما أظن، تستعمل في العراق بالمعنى المتقدم، فقلت في نفسي: يجب علي أن أنقذهم من هذه الطريقة كما أنقذني الله منها، ولكن خيل لي وأنا في أوائل الشباب أنني إذا صرحت لهم بانتقاد الطريقة سينفرون ولا يقبلون الدعوة، فأردت أن أخادعهم فأظهرت لهم أني لا أزال تجانيا.

ولما أخذت أتلطف معهم في انتقاد بعض الأمور كالاجتماع لذكر الوظيفة جماعة بلسان واحد، فجاء رجل مصري من تجانيي الإسكندرية وقال لهم: (يا إخواننا أنا الراكل ده بعيني شفته يخش ويخرك في مسكد الوهابية بالرمل، والوهابية ما بيخلوا خد يخش في مسكدهم إلا إذا كان منهم) معناه بعيني رأيت هذا الرجل- يعني كاتب المقال- يدخل ويخرج في مسجد الوهابية برمل الإسكندرية ومن عادة الوهابيين أنهم لا يتركون أحدا يدخل مسجدهم إلا إذا كان منهم، ويعني بالمسجد مسجد أبي هاشم المهندس رحمة الله عليه، وكان قد خصص جزء ا من أرضه وبنى فيه مسجدا صغيرا للشيخ عبد الظاهر أبي السمح وجماعة السلفيين بالرمل، وسبب إقامتي في هذا المسجد مدة شهرين ما يتلو.

* امتحان الدعاة إلى الله*

اعلم أن الدعاة إلى الله يمتحنون على قدر إيمانهم وصبرهم وتجلدهم، ومنهم الشيخ عبد الظاهر أبو السمح- رحمه الله- فإنه كان يدعو إلى الله برمل الإسكندرية وقد أنكر دعوته جميع من ينتسب إلى العلم في رمل الإسكندرية وفي الإسكندرية نفسها، وكان معلما لبنات محمد باشا الديب- بالدال المهملة كما ينطق به في العامية المصرية- ويدعو إلى الله بإلقاء الدروس في المسجد المذكور وصلاة الجمعة لوجه الله فمنع من ذلك؛ فدعاني لأن أنوب عنه وعما قليل يأتيك سبب المنع، أي بعد أن أتم قصتي مع المغاربة.

فلما سمع المغاربة من ذلك الرجل المصري التجاني ذلك الكلام غضبوا عليه غضبة مغربية فقالوا له: إنكم معشر المصريين عودتمونا سماع ما نكره في كل عزيز لدينا فلا يطيب لكم عيش إلا إذا أسأتم إلينا، نحن نعرف هذا الشاب وأباه وأمه وأهل بيته وهو لم يقدم من المغرب إلا منذ وقت قصير ونحن في المغرب ليس عندنا وهابيون فمن أين تعلم الوهابية، وصاحوا عليه صياحا منكرا.

وكان الرجل داهية فلم يغضب بل قابل غضبهم بحلم وسعة صدر وقال لهم:

(يا إخواننا يا مغاربة ما تزعلوش المسألة بسيطة عندنا الشيخ محمد بن مبارك السوسي ولا تشكون في علمه وفضله، وأنه أكبر عالم تكاني في مصر نكتب له ونسأله عن الشاب ده إذا قال هو تكاني صحيح أنا أكي وأبوس روسكم وركليكم كمان، وأطلب منكم المسامحة وإذا قال غير ذلك تعرفوا أن الحق عليكم) معناه أن الشيخ محمد بن مبارك المغربي هو شيخنا في الطريقة التجانية وهو يعرف ضيفكم هذا فهلم نتحاكم إليه فإن حكم بأن محمد تقي الدين الهلالي ضيفكم العزيز هو تجاني حقا اعتذرنا إليكم وقبلنا رءوسكم وأرجلكم.

وكان المغاربة قد هددوا المصريين بأنهم يفترقون عنهم ويتخذون زاوية خاصة لأنفسهم وأكون أنا مقدمهم، ففرحت أنا بهذا السراب الذي خيل لي أنه شراب ولكن الرجل المصري بدهائه أحبط عملي. ومن ذلك الحين علمت يقينا أنني أخفقت في مسعاي؛ لأن الشيخ السوسي المذكور يعلم يقينا أنني من المنتقدين للطريقة التجانية وسبب ذلك: أن أخص مريديه وهو محمد الدادسي كان يغسل رأسي في بيته بالقاهرة فقال لي: هنيئا لكم معشر أهل البيت فإن الجنة مضمونة لكم على أي حال كنتم فقلت ومن ضمنها لنا؟ قال: ألم تطلع على ما ذكره الشيخ الاكبر ابن عربي الحاتمي في تفسير قوله تعالى: ) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( [الأحزاب: 33] فقلت: وماذا قال؟ فقال: قال الشيخ الاكبر: ((إن أبناء فاطمة خلقهم الله طاهرين طهارة عينية فلا تصدر منهم المعاصي ألبتة وكل ما نراه في الظاهر من صدور المعاصي منهم يجب أن نكذب أعيننا ونصدق الله تعالى.

فقلت: وهل ابن عربي معصوم من الخطأ؟ فقال لي: إن سيدنا الشيخ التجاني نقل عنه ذلك وصدقه. فقلت: وهل الشيخ التجاني معصوم من الخطأ؟ فأصابه حزن عظيم ظهر في وجهه واختصر غسل رأسي وسكت على مضض، فعلمت أنه لابد أن يوصل ذلك إلى شيخه.

وغبت عن الإسكندرية أياما ثم رجعت (لأجس) النبض وليس لي إلا أمل ضئيل. فكظم المغاربة ما في أنفسهم، ولم يظهروا لي شيئا ودعينا إلى العشاء عند بعض التجانيين عند المغاربة لآخرين فجرى ذكر الملك حسين بن علي ملك مكة فانتقدت أنا تحالفه مع الإنكليز والفرنسيين وإدخال جيوشهم إلى قرب الحرم المكي، فانفجر أحد التجانيين غيظا، وقال: ((صدق من قال: مثل العالم الذي لا يعمل بعلمه كجلد كلب ملئ عسلا)) يعني أن الملك حسينا وهو من أهل البيت لا يصدر عنه إلا الطاعات فانتقادي له جهل وسفاهة؛ لأن فيه إنكار على شيخ الطريقة.

وسكت أصحابي ولم يدافعوا عني، فلما خرجنا جذبني أحد المغاربة من التجانيين المعتدلين، وقال لي: ألم يبلغك ما أجاب به الشيخ السوسي فقلت: لا. أفدني يرحمك الله، فقال: إنه أجاب التجانيين فقال في جوابه: إن محمدا تقي الدين الهلالي من آل البيت، وقد أوصانا سيدنا رضي الله عنه يعني التجاني بإكرام أهل البيت، فأكرموه ولا تأخذوا عنه شيئا من أمور الدين فعلمت أن القضية قد انتهت بالإخفاق كما كنت أتوقع وعقدت العزم على أن لا أداهن ولا أداجي في دين الله ما دمت حيا؛ بل أقول الحق من أول وهلة، للربح أو للخسارة، وما لقيت إلا الربح إلى حد الآن وسيأتيك الدليل فلا تعجل.
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 11-09-2012, 09:15 PM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي

الدعوة إلى الله في الريرمون:

فتوكلت على الله وسافرت بالقطار إلى مدينة ملوي فكنت أسمع بالشيخ عبد الظاهر الريرموني أنه من دعاة السلفية فسألت عنه فوجدته، ونزلت عند مغربي يسمى الشيخ إبراهيم الدادسي وهو طبيب عيون يقدح العيون على طريقة الطب الإسلامي القديم بميل من حديد بدون تخدير فيخرج البياض من العين ثم يعالج الجرح بالأدوية إلى أن تشفى العين التي كانت عمياء لا تبصر شيئا ويعود إليها نورها بإذن خالقها، وهذه الطريقة لا تزال مستعملة إلى يومنا هذا في بعض القرى النائية عن المدن في بلاد المغرب وغيرها.

فوجدت الشيخ عبد الظاهر الريرموني وفرح بي وأظهر السرور وأكثر الترحيب واعتذر لي عن دعوته إياي إلى قريته الريرمون، فقال: أيها الأخ العزيز إن ضيافتك واجبة علي ولكن قريتي تبعد عن هذه المدينة بقدر نصف ساعة للراكب على الحمار الفاره، وأنا لا أشتغل في الغيط يعني- في المزرعة- وكل أهل القرية يخرجون إلى غيطانهم صباحا ويرجعون مساء وأنا أجيء كل يوم إلى هذه المدينة فأمكث فيها من الصباح إلى المساء، فإن دعوتك إلى القرية فإما أن تبقى وحدك أو تتكلف المجيء كل يوم معي صباحا وترجع مساء وفي ذلك من المشقة عليك ما لا يخفى، فشكرته على ذلك ورأيت عذره قائما.

وأقمت عند الشيخ إبراهيم الدادسي بمدينة ملوي من مديرية أسيوط، من بلاد الصعيد أربعة أيام ثم عزمت على التوجه إلى قصبة المديرية وقاعدتها، وهي مدينة أسيوط، وكنت أجتمع بالشيخ عبد الظاهر الريرموني كل يوم ونتذاكر مسائل العلم. وفي صباح يوم الخميس استعددت للسفر بالقطار إلى أسيوط، فبينما أنا على ذلك إذا براكبين على حمارين قد أقبلا ونزلا وسلما على الشيخ إبراهيم الطبيب وقالا له: أين الأستاذ المغربي الذي بلغنا أنه عندك؟ فقال لهما وأشار إلي: هذا هو يريد أن يسافر إلى أسيوط الآن. فقال أحدهما وهو الشيخ عبد العليم رحمة الله عليه: أيها الأستاذ إن إخوانك السلفيين في الريرمون يقرؤونك السلام ويلتمسون أن تتفضل عليهم بالزيارة ولو ليوم واحد فإن أستاذنا الشيخ عبد الظاهر أخبرنا منذ أربعة أيام بقدومك فالتمسنا منه أن يدعوك إلى قريتنا، فقال: إنك مستعجل تريد السفر إلى أسيوط ولا تستطيع أن تزورنا فقلنا له: ولا يوما واحدا فقال: ولا يوما واحدا وكررنا عليه الطلب في اليوم الثاني والثالث حتى يئسنا منه، فأرسلنا إخوانك لندعوك إليهم لما علموا أنك عزمت على السفر إلى أسيوط وقالوا لنا: إن وجدتموه سافر فسافرا إلى أسيوط وأبلغاه دعوتنا، واعلم أيها الأستاذ المحترم أننا معشر السلفيين في قرية الريرمون لا يزيد عددنا على مائة بيت، وقد اشتدت العداوة بيننا وبين قومنا المبتدعين عباد الأضرحة وشيوخ التصوف حتى انتقلت العداوة من أمور الدين إلى أمور الدنيا، وشيخ البلد منهم والعمدة معهم ونحن محاربون لأجل عقيدتنا فنرجو أن يهدي الله بك إخواننا ويجمع شملنا على كلمة التوحيد وأتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تخيب رجاءنا، فقلت لهما: أيها الأخوان العزيزان لستما في حاجة إلى كل هذا الإلحاح فإنني نذرت لله أن أدعو إلى توحيده وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حيثما كنت وهذا أهم غرض لي في الحياة.

* الدعوة إلى الله في الصعيد

فركبت أحد الحمارين وتوجهت إلى الريرمون مع الشيخ عبد العليم فلما وصلت نزلت في مندرة- أي مضيف- الشيخ إسماعيل الصيفي رحمة الله عليه، واجتمع الإخوان السلفيون واحتفلوا بي كأني أحد الأمراء، ولم يكن عندي من الكتب إلا مجموعة الرسائل التي نشرها عيسى بن رميح رحمه الله وهي رسائل في التوحيد، فبدأت الدعوة بعد صلاة المغرب في المندرة المذكورة واجتمع أهل القرية كلهم تقريبا فلم تسعهم المندرة فجلسوا في الشارع. وكان في مقدمتهم شيخ البلد الشيخ يوسف رحمة الله عليه فأخذ يلقي علي أسئلة في التوسل بالأولياء وشد الرحال إلى زيارة قبور الصالحين والذبح والنذر وأوراد الطريقة والاستمداد من الشيوخ والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وما إلى ذلك وأنا أجيبه بحلم وأناة وصبر وهبنيه الله لم أعهده في نفسي قبل ذلك.

إذا اصطفاك لأمر هيأتك له يد العناية حتى تبلغ الأملا

وحضر هذا الدرس أستاذ الجماعة الشيخ عبد الظاهر الريرموني فأخذ يبحث عن عثراتي في النحو والصرف واللغة، ويلقي علي أسئلة بقصد الزراية وإظهار نقصي فقابلت- بتوفيق من الله- كل ذلك بأدب وحلم كما يفعل التلميذ المتأدب مع أستاذه، وصرت إذا أجبته عن سؤال فلم يقبل جوابي أسلم له وأقول له: تفضل يا حضرة الأستاذ وأفدنا في هذه المسألة بما علمك الله، فصبر الجماعة لهذه المقاطعات على مضض ثم عيل صبرهم فقال الشيخ إسماعيل صاحب البيت: يا شيخ عبد الظاهر هذه المسألة اللغوية التي تقطع بها على الأستاذ المغربي كلامه لا فائدة لنا فيها دعها إلى الوقت المناسب لها، ثم انطلقت في الوعظ شوطا أو شوطين، وإذا بالشيخ عبد الظاهر يعود إلى أسئلته فأعود أنا إلى التسليم والأدب، فيزداد المستمعون غيظا ويعيدون عليه قولهم، واستمر الأمر على ذلك ثلاث ليال ولم ينته عما نهوه عنه فخشنوا له القول وانتهروه فقال لهم: هذا ضيفي أصنع به ما أشاء ويحق لي لو شئت أن أقول له: إن أيام الضيافة ثلاثة، وقد انقضت فتفضل فارحل لقلت له ذلك، فقال له أحدهم وأظنه الشيخ إسماعيل: (إيه ده يا خوي أنت ما تقدرش تقوله كده ده ما هو ضيفك ده ضيفنا إحنا دعوناه واحنا كبناه بعدما ترجيناك أنت تدعوه ويئسنا منك) معناه: ما هذا يا أخي؟! إنه ليس ضيفك وإنما هو ضيفنا نحن ولا تستطيع أن تقول له: ارحل فعند ذلك غضب الشيخ عبد الظاهر ولم يعد يحضر دروس الوعظ والدعوة.

* السر الخفي *

كأني بك أيها القارئ قد تلجلج في صدرك سؤال تريد الإجابة عنه، وهو لماذا امتنع الشيخ عبد الظاهر عن دعوتك، ولماذا يعكر درسك، وفي النهاية يريد أن يطردك؟

الجواب: إذا ظهر السبب زال العجب. اعلم يا أخي أن الشيخ عبد الظاهر كان قد خط لنفسه خطة في الدعوة، وهي أنه كان يفرض على كل واحد من السلفيين في الريرمون أن يبايعه بيعة تشبه في بعض نواحيها بيعة المريد المتصوف لشيخ الطريقة، وكانت شروط هذه البيعة شديدة إلى حد أنه لو وقع من أحد الإخوان شيء طفيف مما يخالف ما يريده الشيخ عبد الظاهر، يغضب عليه ويقول له: انتقضت بيعتك فتب إلى الله، وبايعني من جديد فلا يسعه إلا أن يتوب ويبايع من جديد وإلا طرده الشيخ وأخرجه من حظيرة الإخوان.

ومن أمثلة ذلك أن الشيخ عبد الظاهر كان قد بلغ من العمر خمسا وثلاثين سنة ولم يتزوج فعتب عليه بعض الجماعة وقالوا له: أنت أستاذنا وإمامنا فلا ينبغي لك أن تبقى عزباً وأنت تعلم ما فرض الله على مستطيعى الباءة فقال لهم: أنا فقير لا يرض أحد أن يزوجني ابنته، فقال أحدهم: أنا أزوجك ابنتي فسكت الشيخ، ومضى على ذلك سنتان فجاء خاطب فخطب الفتاة فوعده أبوها خيرا، فلما سمع بذلك الشيخ غضب عليه غضبا شديدا وقال له: انتقضت بيعتك فتب إلى الله واعدل عن تزويج الفتاة بذلك الخاطب فقد وعدتني بها منذ سنتين فكيف تزوجها شخصا آخر؟! فقال: أيها الأستاذ حقا عرضت عليك ابنتي فلم تجبني ببنت شفة، ومضى على ذلك سنتان فلم يبق عندي شك أنه لا أرب لك فيها فقال الشيخ: كان الواجب يقضي عليك حين جاءك الخاطب أن تأتيني، وتسألني عن رأي في التزوج بها فإما أن أتزوج وإما أن أرخص لك في تزويجها فاختلف الإخوان السلفيون في هذه القضية، فبعضهم صوب رأي الشيخ وبعضهم صوب رأي أبي الفتاة واشتد نزاعهم. وكان كثير من الإخوان يشكون في البيعة، ويظنون أنها غير مشروعة وليست من السنة في شيء، لأنهم لم يروا أحدا من الدعاة إلى السلفية فرضها عليهم قبل هذا الشيخ فهاتان مسألتان معضلتان تحتاجان إلى أبي حسن يكشف عنهما ظلام الإشكال ويبين حكم الله فيهم، ولما رآني الشيخ عبد الظاهر في مدينة ملوي، خاف أن أتصل بإخواننا فيسألوني عن القضيتين فأجيب بخلاف رأيه فلذلك فعل ما فعل ليحول بيني وبينهم، ولم يدر أنه لا حيلة تنفع في رد المقدور فوقع ما خافه ولذلك أخذ يعاكسني في دروس الوعظ وحاول أن يطردني.

* * *
* عودة إلى دروس الوعظ*

استمررت في إلقاء الدروس كل مساء في مندرة الشيخ إسماعيل الصيفي، ونسيت أن أقول إن الشيخ عبد الظاهر الريرموني رحمه الله بلغ في المعارضة والمعاكسة إلى أن خالفني في أمر لم يزل يقرره ويدعو إليه، وهو منع شد الرحال إلى زيارة قبور الصالحين، فقال له إخوانه: يا لله العجب.. أنت نفسك لم تزل تقرر المنع فقال: تغير رأي وهل أنا معصوم! ومن طباع المصريين المحمودة- وما أكثرها - أن المرءوس إذا ظهر له الحق لا يفكر في مذهب الرئيس واعتقاده بل يتلقى الحق بالقبول وإن خالف رئيسه، ولذلك كان الناس في أثناء الوعظ يتوبون إلى الله ويعلنون توبتهم من الشرك والبدعة ففي كل ليلة يتوب اثنان أو ثلاثة.

وفي الليلة السادسة أو السابعة قام شيخ البلد فأعلن توبته وقال: أيها الشيخ المغربي: إنك لم تأتنا بشيء جديد فكل هذه المسائل التي دعوتنا إليها سبقك إليها الشيخ علي التونسي والشيخ عبد الظاهر الريرموني وفلان وفلان ولكن الفرق بين دعوتك ودعوتهم أننا إذا جادلناك تصبر على جدالنا وتجيبنا بلطف ولين حتى نقتنع وننتقل إلى مسألة أخرى ثم أخرى إلى أن يزول ما عندنا من الإشكال. وأما الدعاة الذين تصدوا للدعوة قبلك فقد كان لهم أسلوب آخر متى جادلناهم وعرضنا عليهم شبهاتنا قالوا لنا: كفرتم! فنقول لهم: وأنتم أكفر ونفترق على أقبح ما يكون، ثم التفت إلى الشيخ إسماعيل الصيفي صاحب البيت وقال له: يا شيخ إسماعيل جزاك الله خيرا على دعوة هذا الأستاذ المغربي الذي هدانا الله إلى الحق بسببه، ولك الفضل والحق أن تكون الدروس في مندرتك، وأن يكون الأستاذ المغربي ضيفك ولكني أطلب من فضلك أن تسمح لي بأن يكون الأستاذ أسبوعا عندك وأسبوعا عندي. هذا في الدروس الخاصة التي تلقى في المنادر وأنا أطلب من الأستاذ المغربي أن يلقي لنا درسا في المسجد الجامع يوميا وأن يصلي بنا الجمعة مادام مقيما عندنا فقال الشيخ إسماعيل: إني أقبل هذا الاقتراح بكل سرور.

فانتقلت إلى مضيف شيخ البلد واستمررت على إلقاء الدروس وأضفت إليها درسا بعد العصر في المسجد الأعظم، واعتذرت إلى الشيخ يوسف عن قبول ما عرضه علي من صلاة الجمعة إماما وقلت له: إنني لا أحب الدعاء للملك فؤاد في كل خطبة ولا أريد أن أكون سببا في شر يصيبك فحسبي أن ألقي الدروس، فقال رحمه الله: أيهما صواب، الدعاء للملك في كل خطبة جمعة أم تركه على ما جاءت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت له: أنا أرى تركه هو الصواب فقال: (إيه ده يا خوي) نحن نعبد الله أو نعبد فؤاد؟ إذا رأيت الملك فؤادا أمامك في الصف الأول فلا تبال به أنا المسؤول وصل كما أمرك الله واخطب كما أمرك الله.

وبعد توبة الشيخ يوسف تاب أهل البلد عن بكرة أبيهم إلا بيتين، أحدهما بيت شيخ الطريقة والثاني بيت العمدة المرفوت، والمرفوت عندهم هو المعزول، وخدامهما، وبعدما كان السلفيون ممنوعين من جميع المساجد لأنهم وهابيون أهل مذهب خامس تصافح أهل القرية كلهم وزال كل ما كان بينهم من العداوة في الدين والدنيا، وانتقلت العزلة التي كانت ملازمة لهم إلى شيخ الطريقة والعمدة المرفوت وخدامهما، فأخذوا يصلون منعزلين في زاوية في وسطها قبر عليه تابوت كانوا يعبدونه، وبلغت العداوة بين الفريقين إلى أن صار يتهم بعضهم بعضا بإحراق الزروع في البيادر، واتهم المبتدعون السلفيين بإحراق تابوت ذلك الضريح الذي كانوا يعبدونه. والحقيقة أن امرأة أوقدت شمعة تتقرب بها إلى صاحب الضريح وجعلتها على التابوت فلما انقضت الشمعة وصلت النار إلى التابوت فأحرقت بعضه.

وكأني بعابد القبر يقول يا هذا لقد أسرفت في القول فهل يعبد مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبرا؟ فأقول في الجواب: يمكنك أن تغالط بهذا الكلام غيري أما أنا فلا تستطيع أن تغالطني لأنني أنا بنفسي كنت أعبد القبور، فهداني الله إلى توحيده وهدى بي خلفا كثيرا ولله الحمد وأريدك على ذلك ما يخرسك ويلقمك حجرا أن الجهال في هذا الزمان من أهل البلاد الإسلامية - وما أكثرهم- يعبدون القبور والأنصاب بل والأشجار ويعبدون كل شيء حتى الحمير ودونك البرهان القاطع:

أما عبادة الأضرحة فأمر متواتر مشاهد بالعيان في أكثر البلدان المنتسب أهلها إلى الإسلام كما هو في بلاد النصارى وهؤلاء يزيدون التماثيل.

وأما عبادة الأشجار فقد حدثت من عهد بعيد فقد ذكر ابن أبي شامة في كتاب البدع له: أن شجرة كانت تعبد في دمشق في زمانه. وأما في هذا الزمان فحدث عن البحر ولا حرج فقد شاهدت شجرة عظيمة وافرة الأغصان تعبد في مصر، وأخبرني الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة أنه هم بقطعها وأخذ فأسا واشتغل طول الليل إلى أن كاد الفجر يطلع فلم يستطع أن يقطع إلا جزءاً يسيراً من أغصانها، فجاء عبادها في الصباح بالنذور فوجدوا بعضها مقطوعا فغضبوا غضب العابد لمعبوده، واتهموا الشيخ المذكور ورفعوا شكوى إلى العمدة فطالبهم بالبينة فقالوا: لا يوجد أحد في هذه الناحية يشنع على المتبركين بها إلا هذا الرجل، فقال العمدة: إنني لا أستطيع أن أعاقبه بهذه الحجة التي لا تتجاوز الظنون. وأخبرني الحاج (محمد أجانا)- وهو رجل قضى عمره في البدع حتى بلغ السبعين ثم هداه الله إلى التوحيد بدعوتنا- أن له شجرتين يعبدهما الفلاحون إحداهما اسمها أبو بكر والأخرى نسيت اسمها، وأن الفلاحين يضعون أدوات الحرث وغيرها مما يثقل عليهم حمله إلى جانب إحدى الشجرتين فلا يتجرأ أحد أن يسرق شيئا من ذلك مع أنهم سرقوا حصر المسجد ولو ذهبنا نعدد وقائع عبادة الأشجار لطال بنا الكلام.

وأما عبادة الأحجار فهي كثيرة أورد بعض وقائعها: فمن ذلك حجر كبير ناشز في جبل بالصعيد في مديرية أسيوط أخبرني أصحابنا أنه كان يسمى الشيخ دغارا وأن جماعة منهم ذهبوا ذات ليلة بمعاولهم، واشتغلوا طول الليل فتركوا الشيخ دغارا أثرا بعد عين. ومنها أن صخرة في مرسى مدينة طنجة داخل البحر تسمى سيدي ميمون يعبدها أهل تلك الناحية. وسبب إطلاعي على عبادتها أني كنت راكبا في سيارة حافلة من طنجة إلى تطوان سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى وأتباعهم، وكان إلى جانبي رجل معه امرأة فسلم على وقال لي: أنا ممن يحضر دروسك في الجامع الكبير، وقد هداني الله إلى التوحيد بسبب ذلك ولكن زوجتي هذه لا تزال متمسكة بالشرك فأرجو من فضلك أن تعظها لعل الله يهديها بوعظك كما هداني أنا وذكر لي قضية اشتد نزاعهما فيها تتعلق بعبادة الصخرة البحرية المسماة بسيدي ميمون وحاصلها أنها لا يعيش لهما الأولاد إذا بلغ الصبي سنة يموت، فنذرت زوجته أن تذبح عن ولدها في كل سنة شاة لسيدي ميمون، وقد حانت النهاية السنة الأولى من عمر الصبي قال: فامتنعت أنا من الوفاء بهذا النذر، وقلت: إن عمر الصبي بيد الله وميمون صخرة لا تضر ولا تنفع فلم تقبل. فوعظتها من طنجة إلى تطوان مدة ساعة ولا أدري هل انتفعت بوعظي وتابت من الشرك أم بقيت على شركها. وأكتفي بهذا القدر من الشواهد على عبادة الأحجار.

ومن عبادة المياه أن بئرا بالقصر الكبير يعبدها السفهاء ويسمونها سيدي ميمونا ويزعمون أن ابن أمير الجن شمهورش كثيرا ما يحضرها خبرني بذلك غير واحد في البلد المذكور وشاهدت حوادث أخرى من عبادة المياه فلا أطيل بذكرها.

وأما عبادة الحمير فأذكر فيها قصتين: إحداهما وقعت في طرابلس الغرب على ما حدثني به ثقة، وذلك أنه كان في تلك الديار شيخ متصوف اسمه عبد السلام الأسمر كان يرقص مع أصحابه ويضربون بالدفوف حتى يخروا صرعى على الأرض ويعتقدون أن الدف الذي كان يضرب به الشيخ عبد السلام نزل من الجنة، وكان يضرب به علي بن أبي طالب للنبي، والشيخ عبد السلام والمريدون المنقطعون للعبادة معه لم يكونوا يكتسبون معيشتهم لأنهم كانوا بزعمهم متوكلين. وكان للشيخ المذكور حمار يطوف على بيوت البلدة وحده كل صباح ومساء وعليه خرج فكلما وقف بباب بيت يضع أهله شيئا من الطعام في ذلك الخرج فيرجع إلى الشيخ والمريدين بطعام كثير غدوة وعشية، فلما مات الشيخ وتفرق المريدون وبقي الحمار بلا عمل فصار الناس يقدمون له العلف ويتبركون به إلى أن مات فدفنوه وعكفوا على قبره يعبدونه. والقصة الثانية في المغرب الأقصى: قرأت في سنة ستين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى في صحيفة العلم مقالا لمعلمة اسمها خديجة النعيمي من الدار البيضاء قالت خديجة: خرجنما مع نسوة جاهلات نتجول خارج المدينة فمررنا بكوم من حجارة فأخذت النسوة يقبلن تلك الحجارة ويتمسحن بها قائلات: (أنتاع الله لله يا للاحمارة) معناه نسألك متاع الله أي ما أعطاك الله من الكرامة يا سيدتنا الأتان، قالت: فأنكرت صنيعهن وقلت لهن: ويحكن تتخذن أولياء حتى من الحمير، فقلن لي: اسكتي إنك لا تعرفين قدر هذه الولية فكم قضت من حاجات ونخاف عليك أن تضربك ضربة يكون فيها حتفك فسلمي للفارغ لكي تنجي من العامر (قلت: وهذا مثل يضربه المغاربة لمن اعترض على عبادة شخص وقال: إنه لا ينفع ولا يضر يقول له عباده: (سلم للخاوي تنج من العامر) معناه هب أنه فارغ من الولاية فخير لك أن لا تعترض عليه وأن لا تنكر ولايته لأنك إن استمررت في الإنكار يخشى عليك أن تصادف وليا حقيقيا فيصبك بشر). ثم وجهت الكاتبة المذكورة دعوة إلى العلماء وقالت: يا علماء الدين اتقوا الله وعلموا الناس توحيد الله وشعائر دينهم، فإنكم ضيعتم الأمانة التي حملكم الله إياها حتى وصل الناس إلى عبادة الحمير دون الله. فكتبت ثلاث مقالات تلبية لدعوتها ونشرت في صحيفة العلم ولم يلب دعوتها أحد غيري من قراء صحيفة العلم وهم يعدون بالآلاف وأظن أن هذا القدر يكفيك إن كنت منصفا، ويقمعك إن كنت متعسفا.

*عودة إلى الريرمون *

أول جمعة صليتها إماما في الريرمون في المسجد الأعظم كانت يوم عيد عند أهل الريرمون، وتمكن السلفيون لأول مرة من الصلاة في المسجد الأعظم وتعانق الناس، وصاروا إخوانا متحابين. وكان للسلفيين مسجد بنوه باللبن وسقفوا نصفه بخشب النخل فصلى في ذلك اليوم الشيخ عبد الظاهر في ذلك المسجد إماما، وقال في خطبة الجمعة يا إخواننا لا يخفى عليكم (أن المركب اللي فيها ريسين تغرك) يعني أن السفينة إذا كان لها ربانان فمآلها الغرق لأن الربانين يختلفان فيؤدي اختلافهما إلى اختلاف النوتية ويفضي بهم ذلك إلى الغرق، وأن هذا المغربي قد فرق جماعتنا ووالى أعدائنا وأحدث فتنة في البلد، ولا يستمع لحديثه، فما فرغ من الصلاة ولم يصل معه إلا الشيوخ الضعفاء الذين شق عليهم المشي للجامع الأعظم- حتى غضبوا عليه وزجروه زجرا شديدا وقالوا له: ما نظن إلا أنك أصبت بالجنون وأن هذه الصلاة التي صليناها خلفك مشكوك في صحتها لأنك تكلمت باللغو الذي لا يناسب خطبة الجمعة، وهذا الرجل الذي تكلمت فيه بغير حق ما رأينا منه إلا خيرا وهو يجلك غاية الإجلال فقال لهم: هذا فراق بيني وبينكم.

وقبل ذلك بيوم دعاني أحد الإخوان للغداء ودعا الشيخ عبد الظاهر، فقال لي: يا شيخ محمد سمعت بأن المنافق يوسف شيخ البلد جاءك وأظهر لك أنه تاب من شركه وبدعته؟ فقبلت توبته وأظنك لا تعلم أنه كبر عدو للسلفيين ولي أنا بالخصوص وأنا شيخ هذه الطائفة وإمامها، فإن كان صادقا فيما يزعم فهلا جاء إلى والتمس مني العفو وبايعني بل أنت بنفسك يجب عليك أن تبايعني وأن لا تخرج عن رأي!! فقلت له: يا شيخ عبد الظاهر والله أني لأحب أن أرضي الله ثم أرضيك ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فهب أن رجلا في الروضة- وهي بلدة قريبة من الريرمون- يدعو إلى مثل ما ندعو إليه من التوحيد وإتباع السنة وهذا الشيخ يوسف عدو لي ولك، فجاءه هذا الداعي ودعاه فتاب إلى الله على يده من الشرك والبدعة وبقي مع ذلك مصرا على عداوتنا، ألا ينبغي لنا أن نفرح بتوبته لأنه أنقذ من شر عظيم يوجب له الخلود في نار جهنم، أما عداوتنا نحن فإنها معصية لا يخرجه من الإسلام وقد تزول فنصطلح معه ونعود إلى الوفاق فقال لي: هذا رأيك أنت، أما أنا فأقول: يجب على كل من أراد أن يتوب من الشرك والبدعة أن يرضيني ويبايعني فقلت له: إني أوثر رضي الله على رضاك فقال: هذا فراق بيني وبينك. وسمعت بأنه كان يتعاطى الأفيون وهو مخدر سام- الله أعلم بصحة هذا الخبر- وبقيت في الريرمون على تلك الحال نحو ثلاثة أشهر، ثم حان وقت الحج وكنت في أثنائها أظهر الغنى ولم أسمح لأحد أن يدفع عني أجرة البريد لرسالة أرسلها في البريد فضلا عن غير ذلك حتى صار الناس يعتقدون أنني غني، ولم يتجرأ أحد أن يقدم لي شيئا لا دراهم ولا ثيابا إلا شيئا من الخبز اليابس وشيئا من السمن في إناء من خزف انكسر حين ركبت العربة قبل أن اصل إلى مستقري في القاهرة وإلا كسوة كسانيها الشيخ يوسف رحمه الله بعد أن قدم لها مقدمات من الإلحاح الكثير.

* المناظرة *

لما استجاب لي شيخ البلد وتبعه الناس كلهم إلا من ذكرت- أعني العمدة المرفوت وشيخ الطريقة- أصاب هذين الرجلين من الغم والحزن شيء كثير فبعثا إلى الجامع الأزهر ودعيا أحد كبار الأساتذة المعروفين بغزارة العلم وطلاقة اللسان لمناظرتي فجاء الأستاذ الأزهري ونزل في قصر العمدة المرفوت، فجاء أصحابنا وأخبروني بقدومه وقالوا لي: ناظره فستنتصر عليه يقينا فإن الأزهريين ضعفاء في علم السنة والتوحيد ونحن العوام نغلبهم، فقلت لهم: إني أرى في هذه القضية رأيا مخالفا لرأيكم، وهو أنني لا أناظره فأنا حارث وزارع وقد دعوت أهل البلد فاستجابوا لي؟ فليتقدم وليدعهم هو إلى الرجوع إلى الشرك والبدعة فإن رجع معه أحد فأبعده الله ومن تبعه فهو له ومن تبعني فهو لي، والمناظرة تعتريها المشاغبة ثم المضاربة فلا تحق حقا ولا تبطل باطلا فقالوا لي: كلامك هذا يسبب لنا الهزيمة ويصدق قول أعدائنا إنك مغربي حاج ما درست في الأزهر ولا عندك الشهادة العالمية فقلت لهم: صدقوا أنا جاهل ما درست في الأزهر ولا عندي الشهادة العالمية، ولكن هذه المسائل التي أدعو إليها لو جاء شيخ الأزهر ومعه علماء الأزهر كلهم لم يستطيعوا أن ينقضوا منها شيئا غير أنني لا أحب المناظرة ودعوا الأعداء يقولون ما شاءوا، فلم يعجبهم كلامي.

وبقي الأستاذ الأزهري في بيت العمدة خمسة عشر يوما حاول في أثنائها أن يهجم على في الدرس الذي ألقيه كل يوم بعد العصر بالمسجد الجامع فنهاه شيخ البلد وقال له: نحن نثق بهذا الرجل ولا نشك في صحة ما دعانا إليه والله إن فتحت (بقك) أي فمك بكلمة واحدة لآمرن خفيرين أي حارسين يأخذانك إلى محطة السكة الحديدية لأنك تريد أن تحدث تشويشا وفتنة، فبقي شيخ الطريقة وصاحبه العمدة حائرين وفي النهاية عمدا إلى حيلة مكنتهما مما أراد.

وذلك أننا كنا في شهر رمضان وفي ذات يوم دعاني العمدة الحقيقي وهو رجل ملحد إلى العشاء فأجبته، وألقيت كلمة أمامه فقال لي: أنا على الحياد لست معك ولا مع خصومك يعني شيخ الطريقة والعمدة المرفوت، ولكن عقيدتكم أنتم أقرب إلى العقل من عقيدتهم لأن عبادة القبور وشيوخ الطريقة إهانة للكرامة الإنسانية.

ولما انصرفت من عنده كان طريقي يمر على باب قصر العمدة المرفوت فلما حاذيت بابه جاءني شيخ الطريقة وسلم علي وقال: إن سعادة العمدة يدعوك إلى فنجان قهوة فقلت: عندي الآن درس، فقال لي: لا يستحسن أن ترد دعوته ولا تزيد على خمس دقائق، فذهب بي حتى أدخلني إلى مقصورة وجدت فيها شيخا ذا عمامة ولحية فظهر لي أنه هو العالم الأزهري الذي دعي إلى مناظرتي، وكان ظني صادقا فلم يكد المجلس يستقر بي حتى هجم علي الأستاذ الأزهري وقال لي: يا فلان بلغني أنك تقول كذا وكذا وكذا وعدد مسائل من التوحيد وأتباع السنة فقلت له: أما كذا وكذا فقلته حقا وذكرت له دليله وأما كذا وكذا فلم أقله. ووقعت المناظرة فعلا، فحانت مني التفاتة فرأيت حديقة القصر كلها عمائم وقلانس لم يبق أحد من أهل البلد إلا حضر وتركوا لذلك صلاة التراويح فلم تزد المناظرة على نصف ساعة وكان الأستاذ الأزهري نسيت اسمه الآن من خيرة علماء الأزهر فجعل يقول في أثناء المناظرة أشهدكم أني رجعت عن كل ما قلته في هذا الأستاذ المغربي؛ فإن الناس نقلوا لي عنه مسائل مكذوبة عليه، وأشهد أنه من العلماء المحققين وإن كنت أخالفه في بعض المسائل. فعند ذلك علم العمدة المرفوت أنه أخفق في سعيه، فقال: أيها الأستاذ أرجوكم أن تقطعوا هذه المناظرة أنا ما دعوت الأستاذ المغربي إلى المناظرة، وإنما دعوته لأتعرف به ويشرب عندي فنجانا من القهوة، فانتهت المناظرة على ما يحبه أصحابنا ويكرهه خصومنا، ومن رأي أني أبعد عن المناظرة وأتجنبها فإذا اضطررت إليها استعنت بالله وخضت غمارها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا)).
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 08-06-2013, 07:46 PM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي

* الحدث الثاني في تطوان ونواحيها*

وضعت حاشية على كتاب كشف الشبهات لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وطبعتها ونشرتها، ولكنني استعملت في ذكر اسمه ما يسمى في مصطلح الحديث بتدليس الشيوخ، وهو جائز بل مستحسن إذا أريد به الإصلاح، وذلك أن الشيخ يكون له اسمان اشتهر بأحدهما ولم يشتهر بالآخر فيذكره الراوي عنه بالاسم الذي لم يشتهر به لمصلحة في ذلك، أما إذا فعل ذلك، ليوهم الناس علو سنده وترفعه عن الراوية عنه ليوهم الناس أنه لا يتنزل للرواية عن مثله لصغر سنه أو عدم شهرته وغير ذلك من حظوظ النفس الأمارة فهو مذموم، وقد سميت الشيخ محمد عبد الوهاب بن سليمان الدرعي فنسبته إلى جده ثم نسبته إلى الدرعية وذلك حق فهي بلدته ولكن لم يشتهر بذلك، وزاد الأمر غموضا أن في المغرب كورة تسمي (درعة) والنسبة إليها درعي، فنجحت فيما قصدته من ترويج الكتاب، فقد طبعت ألف نسخة فبيعت في وقت قصير، ولم يتفطن أحدا لذلك حتى الشيخ أحمد بن الصديق مع سعة إطلاعه وعلو همته في البحث وكثرة ما في خزائنه من الكتب بقي في حيرة لأنه بحث في تاريخ المنسوبين إلى (درعة) فلم يجد أحدا منهم يسمى بذلك ولا أثر عنه هذا الكتاب، فبعث إلي يسألني عن هذا المؤلف من هو فأخبرته بالحقيقة، ولما اطلع العلم الأجل مفتي المملكة العربية السعودية وشيخ شيوخها الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه على هذا العمل استحسنه كل الاستحسان. وإنما فعلت ذلك لأن المتأخرين من رجال الدولة العثمانية حرضوا شرار العلماء في جميع البلاد الإسلامية على تشويه سمعة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكذبوا عليه، وأوهموا أتباعهم أنه جاء بدين جديد، وأنه يتنقص جانب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ويكفر المسلمين، إلى غير ذلك من الأكاذيب. وقد تبين لأكثر الناس بطلان تلك الدعوى وعلموا علم اليقين أن محمد بن عبد الوهاب من كبار المصلحين الذين فتح الله بدعوتهم عيونا عميا وآذانا صما، وأنه أحيا العمل بكتاب الله وسنة رسوله في جزيرة العرب بعدما كاد يندثر. وإلى الآن لا يزال بعض الغربان ينعقون بسبه كالغراب الذي تقدم ذكره، وذلك لا يضره: إن كانوا مسلمين فإن سبهم له يجعل حسناتهم في صحيفته وإن كانوا مشركين فإن الله يزيدهم عذابا.

ولما طبع هذا الكتاب غضب عباد القبور وأصحاب الطرائق وخطب كثير من أئمة المساجد خطبة الجمعة ونبهوا المستمعين إلى ما في هذا الكتاب من الضلال بزعمهم، لأن توحيد الله عندهم أعظم الضلال ولكن لم يستمع لهم أحد، أما العلماء المحققون، كالأستاذ محمد الطنجي والأستاذ المجاهد عبد السلام المرابط والأستاذ العبقري عبد الله كنون فإنهم رحبوا بطبع هذا الكتاب وأثنوا عليه وعلى مؤلفه وناشره، ولا يضر السحاب نبح الكلاب.

ماضر بدر السما في الأفق تنبحه سود الكلاب وقد مشى على مهل

ثم طبعت رسالة زيارة القبور مع حواش قليلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية وسميته أحمد عبد الحليم الحراني، ولم اذكر لفظ ابن تيمية للعلة السابقة الذكر، فراج الكتاب وانتشر ونفع الله به المسلمين، ولما بعثت من كل من الكتابين نسخة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه فرح بنشرهما واستحسن الطريقة التي سلكتها لبعد نظره ووفور عقله وحكمته.

وقد جربت في بلاد المغرب في الشمال والجنوب أن نشر كتب التوحيد واتباع السنة يتوقف على نجاح الدعوة إلى الله في المساجد فإذا درس الداعي كتابا من كتب التوحيد وبين للمستمعين ما فيه من كنوز العلم والحكمة يرغب المستمعون في اقتناء ذلك الكتاب، وبقراءته تتسع معرفتهم للحق ويزدادون اطمئنانا ويقوى إيمانهم وتندفع عنهم الشبهات. فمن ذلك: أنني درست في الجامع الكبير كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وختمته في ذلك المسجد مرتين، فانتشر هذا الكتاب انتشارا عظيما حتى أني طلبت من جلالة الملك الفيصل جزاه الله عنا وعن المسلمين أحسن الجزاء، بواسطة فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم بارك الله في حياته أن يمدني بنسخ من فتح المجيد، فأمر بإرسال ثلاثمائة وثلاث وأربعين نسخة بالبريد الجوي، فبدا لي أن لا أوزعها مجانا لأمرين: أحدهما: أنني لا آمن أن تقع بعض النسخ في أيدي أعداء التوحيد فيحرقوها، وقد رأيناهم يفعلون ذلك في المشرق والمغرب فإذا فرضنا أن شخصا أو أشخاصا بلغ بهم التعصب إلى أن يشتروا الكتاب ويحرقوه فإن ذلك لا يضرنا، لأننا نجمع دراهمه ونطبعه مرة أخرى ولا شك أنه لا يفعل ذلك منهم إلا قليل، لأن الناس مجبولون على حب المال والبخل به ولا يبذلونه إلا فيما هو أحب منه إليهم، الأمر الثاني: ما قاله المؤلف الإنكليزي الطائر الصيت (برنارد شو) أن الكتاب الذي لا يدفع ثمنه لا يقرأ.

فبيعت تلك النسخ كلها إلا قليلا منها منحته للمستحقين ولم آخذ منهم لعلمي بفقرهم وصدقهم. بيعت في مدة قصيرة وصار الكتاب في حكم المفقود، وكنت أبيع النسخة بستة دراهم فقط، ولم يكن يروج إلا في البلدان التي تلقى فيها دروس التوحيد كمكناس وتطوان وأرفود، أما مكناس وأرفود فإنني ألقي فيهما دروسا في التوحيد وأما تطوان فقد تقدم أني دعوت إلى التوحيد فيها. وفي هذا الزمان يوجد فيها داع وهو أخي الأستاذ محمد العربي الهلالي، وصار الناس في هذه النواحي يبحثون عن هذا الكتاب ليشتروه بضعف ثمنه فلم يجدوا منه شيئا، ولما ذكرت ذلك لصاحب السماحة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمتع الله المسلمين بطول بقائه وأخبرته أنني جمعت من بيع تلك النسخ ألفا وثمانمائة وخمسين ريالا سعوديا قال: لي وأنا أتبرع بستمائة ريال تضاف إلى ذلك ونشترك في طبعه من جديد، والكتاب الآن تحت الطبع، وذكرت ذلك أيضا للعالم الجليل بقية السلف الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ أمتع الله المسلمين بطول بقائه فوعدني بتحصيل ألف نسخة، وهو كريم لا شك أنه يفي بوعده. وهذا الكتاب مع وجود الداعي الناجح في دعوته يساعد على نشر الدعوة مساعدة عظيمة لا ينقضي منها العجب. أما البلد الذي ليس فيد ذاع فإنه لا يروج فيه أصلا، فقد بعثت خمس نسخ إلى مدينة مشهورة في المغرب فبيع منها في سنة ثلاث نسخ فقط.
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 08-06-2013, 07:53 PM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي

هم جماعة من الناس بقتلي

وهذا الحدث فيه عبرة لمن اعتبر. فإني أصبت بداء الربو في تطوان واشتد علي ففرح المشركون عباد القبور وأصحاب الطرائق وقالوا إن الولي الأكبر رئيس الأولياء في تطوان واسمه السعيدي وله ضريح عليه قبة يعبده كثير من الناس، وإذا قحطوا يذهبون إليه ويسألونه المطر ويوافقهم سفهاؤهم الذين يسمونهم فقهاء.

فبينما أنا مريض ملازم للفراش في بيت منفرد خارج تطوان وزجاج طاقته مكسور، فمن أراد أن يرميني برصاصة لا يحتاج إلا إلى حجر واحد يضعه إلى جانب الجدار فيطل علي ويرميني، بينما أنا كذلك جاءني أحد تلامذتي- وهو السيد محمد العبودي- فقال لي: إن فلان جاءني وقال لي: إنه هو وأمير قبيلة بني عروس وجماعة معهم وعدد الجميع خمسة وعشرون رجلا قد اجتمعوا في بيت أحدهم وتعاهدوا على قتلك وجمعوا الدية حتى إذا كان لك ورثة يدفعونها لهم، وقال لي:

إن صاحبكم في حكم الأموات فعما قريب نقتله ونريح الناس من شره، لأن الوقاحة بلغت به إلى أن طعن في جدنا القطب عبد السلام بن مشيش، قال لي ذلك وأنا مريض ملازم للفراش كما تقدم فقلت:) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ( [التوبة: 51-52].

ولما أصبحت تحملت كلفة المشي إلى الزعيم عبد الخالق الطريس رحمه الله وأخبرته الخبر فقال لي: إن هذا الرجل ومن معه هم أتباع وأقارب خالد الريسوني أمير العرائش وقد أطلق المستعمرون يده يفعل ما يشاء ففوض أمرك إلى الله وتوكل عليه، فقلت: له هذا هو الرأي الذي عزمت عليه وإنما قصدت إخبارك.

ومضت على ذلك سنتان وأنا أقاسي ألم الربو وأبيت الليالي الطوال جالساً أسعل وألهث، وكلما اشتدت نوبة الربو تخور عزيمتي وأقرر في نفسي أنني متى أقلعت عني هذه النوبة أذهب إلى القنصل الفرنسي واستسلم وأطلب العفو، لأني أعلم بواسطة الأطباء أن دوائي هو الهواء الناشف، والأراضي الشمالية التي بأيدي الإسبانيين كلها رطبة قريبة من البحر الذي كان يسمى بحر الروم، ويسمى الآن عبد الأوربيين ومن تبعهم بما معناه البحر الأبيض المتوسط وهو الذي عليه مراسي شمال المغرب والجزائر وتونس وطرابلس- التي تسمى اليوم ليبيا- والإسكندرية وبيروت ومراسي أوروبا والبلاد التركية، فأعرض مكان في هذا القسم من المغرب لا يزيد عرضه على ثلاثين ميلا وهو مستطيل من الغرب إلى الشرق، ولكني حين تزول عني نوبة الربو تعود إلى شجاعتي وتجلدي. بقيت على ذلك ثلاث سنين ونصفا إلى أن يسر الله لي الرجوع إلى العراق ولم أستسلم، وتقدمت محاورتي مع القنصل الفرنسي في تطوان، وفررت من الرطوبة إلى غرناطة من بلاد الأندلس وأقمت فيها أربعة أشهر، ولكنها هي أيضا ليست بعيدة من البحر.

ثم رجعت إلى تطوان وقيل لي إن مدينة شفشاون على جبل عال ثم إنها بعيد من البحر نحو خمسة عشر ميلا فلو جربت الإقامة بها، فسافرت إليها يرافقني تلميذي الحاج أحمد هارون بارك الله فيه، فلما أردنا أن نأخذ غرفة في الفندق الجميل المخصص للسائحين امتنع صاحبه- وهو نصراني إسباني- أن يعطينا غرفة لما رآني أسعل وألهث وأبصق في كل حين، ورأى أن لم ذلك يتقزز منه النازلون في الفندق وكلهم من المترفين، فبقيت في مكتب الفندق جالسا على كرسي أفكر أين أنزل، فجاءني رجل أبيض أشيب تدل هيئته على أنه من أعيان البلد، فقال لي: تعرفني؟ قلت: لا. فقال لي: أنا أحمد الريسوني، وأنا من المحبين لك وأنا مستعد لإنزالك في بيتي على الرحب والسعة وسأكون سعيدا بإقامتك عندي ما شئت من الزمن، ولكن الحكومة سنت قانونا يمنعنا من إنزال الضيوف عندنا في الليلة الأولى، ويوجد هنا فندق حقير يمكن أن تمضي فيه هذه الليلة وفي الغد تنزل في بيتي فقلت له: جزاك الله خيرا، فأمضيت تلك الليلة في ذلك الفندق الذي أخبرني به ثم نزلت عنده وبقيت عنده بضعة أشهر وأكرمني غاية الإكرام.

وحين استقررت في بيته حكى لي حكاية المؤامرة على قتلي بالتفصيل فقال لي: بلغنا أنك تطعن في كرامات الأولياء وولايتهم وتطعن بالخصوص في جدنا مولاي عبد السلام بن مشيش، فغضبنا لذلك وعزمنا على قتلك وجمعنا أن نشاور رئيسنا سيدي خالد الريسوني فذهبنا إليه ثلاثتنا وتكلم أمير بني عروس وهو يبكي وقال: يا بن العم لا خير في الحياة بعد أن نسمع القدح والطعون في شيخ الشيوخ وإمام العارفين جدنا عبد السلام بن مشيش والذي يطعن فيه وينتهك حرمته رجل غريب حقير وهو فلان- وسماني- وقد عزمنا على قتله وجمعنا ديته وما بقي لنا إلا إذنك، فأيدت أنا وفلان كلامه وإذا بالأمير خالد يتكلم ويقول: إن محمدا تقي الدين الهلالي عالم من خيرة العلماء وأنتم لا تعرفونه وأنا أعرفه، وجدنا عبد السلام عالم فاتركوا العلماء إذا تكلموا بعضهم في بعض فليس للجهال أن يتعرضوا لهم. ثم قال لنا: أيكم سمع طعنه في جدنا؟ فقلنا: هذا متواتر على ألسنة الناس، فقال الناس: يكذبون ويفسدون في الأرض ولا يصلحون. كل منكم ينصرف إلى شأنه واتركوا هذا الأمر فهذا ليس من شأنكم.

قال: فأما أمير بني عروس فقد رضي بقوله ولم يبق في قلبه شيء وقال: يا بن عمي أنت عالم ونحن جهال إذا أخطأنا تردنا إلى الصواب قال: أما أنا وفلان- ولم أسمه لأنه حي يرزق ولم يبلغني ندمه على ذلك- فإننا لم نقتنع بما قاله لنا سيدي خالد ولكننا لا نستطيع أن نعمل شيئا بدون رضاه، قال: فتفرقنا فانطلق فلان إلى أهله وتوجهت أنا إلى تطوان لا ألوي على شيء حتى لقيت وزير الأوقاف محمد بن موسى، فقلت: أيها الوزير أما تخاف الله كيف تعطي من أوقاف المسلمين خمسمائة بسيطة لهذا الضال المضل الهلالي الذي ما ترك أحد إلا طعن فيه؟! طعن في مذهب الإمام مالك ورجاله وطعن في الأولياء كلهم وأنكر كرامتهم وبلغت به الوقاحة إلى أن طعن في جدنا القطب عبد السلام بن مشيش قال: فقال لي: لا ينبغي لنا أن نحكم بقيل، وقال: إنه يلقي ثلاثة دروس في كل أسبوع فماذا يضرك أن تحضر دروسه وتسمع كلامه قال: فقلت: أفعل إن شاء الله.

قال: وأقمت أسبوعا في تطوان حضرت دروسك فيه فما سمعت إلا خيرا وندمت على ما كان مني. وقد مضت على سنتان طالما هممت أن آتيك وأطلب منك العفو فلم أوفق إلى أن سنحت لي هذه الفرصة السعيدة، فحياك الله وأهلا وسهلا بك.

ووجدت أن هواء شفتاون خصوصا في الصيف أقل ضررا من هواء تطوان فبقيت فيها خمسة أشهر إلى أن حدثت الحادثة الآتي ذكرها إن شاء الله.
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 08-06-2013, 08:06 PM
بلال الجيجلي بلال الجيجلي غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
الدولة: الجزائر- ولاية جيجل - حرسها الله من كل سوء-
المشاركات: 941
شكراً: 13
تم شكره 43 مرة في 40 مشاركة
افتراضي

قصة الشيخ الصوفي و الشاب القطب

والمخازي التي ذكرتها في القصيدة المذكورة أهمها قصة وقعت له مع شخص محتال- لا أسميه لأنه لا يزال في قيد الحياة- وكان ذلك الرجل شابا يحسن الاحتيال فجاء إلى ذلك الشيخ المتصوف المفتون، وكان يعلم أنه يعتقد أن في كل زمان القطب الغوث الفرد الذي لا تتحرك ذرة في العالم إلا بإذنه، وهو المتصرف في السماوات والأرض وبه تقوم السماوات والأرض وهو محل نظر الحق من خلقه، وهو خليفته في خلقه ولو غفل عن العالم طرفة عين لاندك العالم وصار عدما محضا (أنظر كتابي الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية) فجاء ذلك الرجل إلى الشيخ المذكور وادعى له أنه القطب فافتتن به وأخذ يخدمه بنفسه مع أن الخادم تجاوز السبعين والمخدوم في أوائل الشباب، وكانت عند الشيخ ابنة استحسنها القطب الكاذب فأمره أن يزوجه إياها فأحضر الشهود في الحين وزوجه بها وصار أهل المدينة يسخرون منه وقد دنا وقت الحج.

* * *

* السفر إلى مكة في لحظة *

فقال الشيخ للقطب: يا سيدي سمعنا أن بعض الشيوخ يحج بطريق الخطوة بحيث يسافر إلى مكة بخطوة واحدة فما رأيكم في ذلك؟ فقال: ذلك صحيح وأنا من الذين يحجون على هذه الطريقة، فقال: يا سيدنا وهل يمكنك أن تصحب معك أحدا؟ فقال: كيف لا يمكن؟! كل شيء عند أولياء الله ممكن. قال: يا سيدي فهل لك أن تحج بنا في هذه السنة؟ فقال: يكون ذلك قال: أريد أن ترافقنا زوجتي أيضا، فقال: لا بأس. وعند ذلك ازداد الشيخ تعظيما لهذا المحتال، وبالغ في عبادته هو وأهل بيته، ولما جاء يوم عرفة اغتسل وزوجته ولبسا ثياب الإحرام، وبقيا ينتظران القطب يأخذ بأيديهما ويطير بهما إلى مكة إلى أن كادت الشمس تغرب، فعيل صبر. الشيخ وقال: يا سيدي إن الفقهاء يقولون لابد من الوقوف بعرفة قبل غروب الشمس وقد كادت الشمس تغرب. فقال: بسم الله قوما. فصعد بهما إلى السطح.

ومن عادة أهل تطوان أن يجعلوا في كل سطح جلاء. وهذا الجلاء يكون على اقدر ما تدخل الشمس والنور والهواء ويكون مربعا في كل ركن من أركانه تبنى سارية قصيرة ويوضع على السواري سقف فيدخل النور والهواء إلى أسفل من أربع جهات ولا يدخل المطر، فذهب القطب يتقدمهما حتى وقف على الجلاء وقال أنتما أعميان ألا تنظران هذه الكعبة؟! فهلم نطوف بها فطافوا بذلك الجلاء سبعة أشواط ولكن الشيخ لم ير كسوة الكعبة ولا الحجر ولا مقام إبراهيم ولا زمزم ولا أحد يطوف بتلك الكعبة ولكنه لم يستطع أن يتكلم تعظيما للقطب.

ولما سمع أهل تطوان بهذا الحج المبرور ازدادوا سخرية وصار الناس لا يتحدثون ويتفكهون إلا بهذه الحكاية، فجاء أصدقاء الشيخ وأخبروه بأنه صار مضغة في الأفواه وأن هذا الشاب قد جعله أضحوكة ونصحوا له بطرده فطرده وأجبره على تطليق ابنته.
__________________
ذكر ابن عبد الهادي في ذيله على ذيل ابن رجب على طبقات الحنابلة في ص 52: قال أخبرت عن القاضي علاء الدين ابن اللحام أنه قال: ذكرَ لنا مرة الشيخُ [ابن رجب] مسألة فأطنب فيها ، فعجبتُ من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعتْ بعد ذلك في محضر من أرباب المذاهب ، وغيرهم ؛ فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ! فلما قام قلتُ له: أليس قد تكلمتَ فيها بذلك الكلام ؟! قال : إنما أتكلمُ بما أرجو ثوابه ، وقد خفتُ من الكلام في هذا المجلس .
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
طريقة عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:03 AM.


powered by vbulletin