فائدة من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله: متى يكون المفتي آثماً؟
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين: "ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى".
ثم قال: "الفائدة الحادية عشرة:
إذا نزلت بالحاكم أو المفتي النازلة: فإما أن يكون:
(*) عالما بالحق فيها أو غالبا على ظنه بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته، أو لا،
(*) فإن لم يكن عالما بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي، ولا يقضي بما لا يعلم، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله، ودخل تحت قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]
فجعل القول عليه بلا علم أعظم المحرمات الأربع التي لا تباح بحال؛ ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر.
ودخل تحت قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ{168} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:168-169].
ودخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه».
وكان أحد القضاة الثلاثة الذين ثلثاهم في النار.
(*) وإن كان قد عرف الحق في المسألة علما أو ظنا غالبا لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بغيره بالإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهو أحد القضاة الثلاثة والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة.
وإذا كان من أفتى أو حكم أو شهد بغير علم مرتكبا لأعظم الكبائر، فكيف من أفتى أو حكم أو شهد بما يعلم خلافه؟
(*) فالحاكم، والمفتي، والشاهد، كل منهم مخبر عن حكم الله؛ فالحاكم مخبر منفذ، والمفتي مخبر غير منفذ، والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم الديني الأمري؛ فمن أخبر منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدا {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ،
(*) ولا أظلم ممن كذب على الله وعلى دينه،
(*) وإن أخبروا بما لم يعلموا فقد كذبوا على الله جهلا -وإن أصابوا في الباطن-، وأخبروا بما لم يأذن الله لهم في الإخبار به.
وهم أسوأ حالا من القاذف إذا رأى الفاحشة وحده فأخبر بها فإنه كاذب عند الله، وإن أخبر بالواقع؛ فإن الله لم يأذن له في الإخبار بها إلا إذا كان رابع أربعة.
فإن كان كاذبا عند الله في خبر مطابق لمخبره حيث لم يأذن له في الإخبار به، فكيف بمن أخبر عن حكمه بما لم يعلم أن الله حكم به، ولم يأذن له في الإخبار به؟
قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ {116} مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:116-117].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر: 32].
والكذب على الله يستلزم التكذيب بالحق والصدق، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].
وهذه الآيات وإن كانت في حق المشركين والكفار فإنها متناولة لمن كذب على الله في توحيده ودينه وأسمائه وصفاته وأفعاله.
ولا تتناول المخطئ المأجور إذا بذل جهده واستفرغ وسعه في إصابة حكم الله وشرعه، فإن هذا هو الذي فرضه الله عليه، فلا يتناول المطيع لله وإن أخطأ، وبالله التوفيق".
انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله.
وما قاله ذلك الإمام هو المقرر عند جميع أهل العلم، ومعلوم في كتب أصول الفقه عند ذكر شروط الاجتهاد، وعند ذكر آداب المفتي والمستفتي.
فليس معنى كون هذا عالماً مجتهداً أنه يجوز له أن يتكلم بغير علم، أو يعدل أو يجرح بدون علم، أو يتكلم بدون ضوابط وأصول الفتوى، وأصول وضوابط الجرح والتعديل.
والبلاء كل البلاء في العجلة في الفتوى، وكذلك الكلام بسبب التحريش، وكذلك عدم النظر إلى مآلات الأمور، وعدم مراعاة المصالح والمفاسد من الكلام.
ومن محاسن دين الإسلام، ومحاسن المنهج السلفي أن الخطأ مردود لو كان من كبير مبجل، وكذلك لا يجوز تقليد من علم خطؤه ولو كان كبيرا في العلم والمنزلة.
فإنكار المنكر الصادر من العالم مع مراعاة ضوابط إنكار المنكر مما يتميز به المنهج السلفي عن جميع المناهج.
أما الحزبيون فلا ينكرون على معظَّمِيهم، ولا يقبلون من أحد إنكارا على من يعظمونه، ويصعقون إذا بين أحدٌ خطأ معظَّمِهم، أو رد عليه ردا علميا سلفيا..
فلعنة الله على الحزبية والعصبية المقيتة التي أفسدت الدين، وغيرت الشريعة، ونشرت البغضاء والفرقة.
والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه:
د. أسامة بن عطايا العتيبي
6/ 4/ 1440هـ