في بيان عبادة الله تعالى..
(عبادة الله تعالى)
واعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به أقسام:
أجلها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها؛ فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم؛ ولهذا كان أفضل ما يسأل الرب الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ فقال: «يا معاذ والله إني أحبك فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك »؛ فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته تعالى.
ويقابل هؤلاء القسم الثاني: المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة لهم ولا استعانة، بل إن سأله تعالى أحدُهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته؛ والله سبحانه وتعالى يسأله من في السموات ومن في الأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيمد هؤلاء وهؤلاء؛ وأبغض خلق الله إبليس ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عونا على مرضاته كانت زيادة في شقوته وبعده؛ وهكذا كل من سأله واستعان به على ما لم يكن له عونا على طاعته كان سؤاله مبعدا له عن الله. فليتدبر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه ويكون منعه منها حماية له وصيانة. والمعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة.
وعلامة هذا أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر إذا رآه سبحانه وتعالى يقضي حوائج غيره يسيء ظنه به تعالى وقلبه محشو بذلك وهو لا يشعر. وأمارة ذلك حمله على الأقدار وعتابه في الباطن لها. ولقد كشف الله تعالى هذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى: [COLOR="rgb(0, 100, 0)"]{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا }[/COLOR] أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته علي، ولكنه ابتلاء مني وامتحان له: أيشكرني فأعطيه فوق ذلك أم يكفرني فأسلبه إياه وأحوله عنه لغيره. وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه عليّ، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له: أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته أم يسخط فيكون حظه السخط. وبالجملة فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه سبحانه وتعالى يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لهوانه عليه، وإنما يكرم سبحانه وتعالى من يكرم من عباده بأن يوفقه لمعرفته ومحبته وعبادته واستعانته. فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به عليها.
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:
أحدهما أهل القدر القائلون بأنه سبحانه وتعالى قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف وأنه لم يبق في مقدوره إعانة على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعدها إعانة مقدورة يسأله إياها. وهؤلاء مخذولون موكلون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض توحيده.
النوع الثاني من له عبادة وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر وأنها بدون المقدور كالموت الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له وأن القدر كالروح المحرك لها، والمعول على المحرك الأول. فلم تنفذ بصائرهم من السبب إلى المسبب ومن الآلة إلى الفاعل، فقل نصيبهم من الاستعانة. وهؤلاء لهم نصيب من التصرف بحسب استعانتهم وتوكلهم، ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم. ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه لأزاله.
فإن قيل ما حقيقة الاستعانة عملا؟ قلنا هي التي يعبر عنها بالتوكل، وهي حالة للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى وتفرده بالخلق والأمر والتدبير والضر والنفع وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فتوجب اعتمادا عليه وتفويضا إليه وثقة به. فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطفل إلى أبويه فيما ينوبه من رغبته ورهبته. فلو دهمه ما عسى أن يدهمه من الآفات لم يلتجئ إلى غيرهما، فإن كان العبد مع هذا الاعتماد من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة. [COLOR="rgb(0, 100, 0)"]{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }[/COLOR] أي كافيه.
القسم الرابع من له استعانة بلا عبادة، وتلك حالة من شهد بتفرد الله بالضر والنفع ولم يدر بما يحبه ويرضاه، فتوكل عليه في حظوظه فأسعفه بها. وهذا لا عاقبة له سواء كانت أموالا أو رياسات أو جاها عند الخلق أو نحو ذلك. فذلك حظه من دنياه وآخرته
من كتاب :
.تجريد التوحيد المفيد
للشيخ الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (رحمه الله تعالى)
المتوفى سنة 845 هـ
__________________
روى اللالكائي عن أوس الربعي أنّه كان يقول: " لأن يجاورني القردة و الخنازير في دار، أحب إليّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء".أ.هـ شرح أصول اعتقاد أهل السنةوالجماعة ص 131
|