المنع من إطلاق عبارة (وربِّ المصحف، وربِّ القرآن)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فالحلف برب المصحف مما يمنع لما فيه من الإيهام، فقد يقصد بالمصحف الورق والمداد فهو حلف برب المداد والورق وهذا حلف صحيح لو سلم من الإيهام لأنه قد يراد برب المصحف أي رب القرآن، وهذا حلف موهم لأن الجهمية جعلوا القرآن مخلوقا وهذا يوهم مذهبهم وإن كانت كلمة رب تأتي بمعنى صاحب كقولنا رب الدار أي صاحبها، ولكنه موهم لمذهب الجهمية القائلين بأن معنى رب القرآن خالقه. وكان الجهمية يعلقون هذه العبارة في المساجد زمن المحنة بخلق القرآن، لذلك يجتنب الحلف برب المصحف.
وهنا فائدتان:
الأولى: ضعف أثر ابن عباس رضي الله عنهما في إنكاره لفظة (يا رب القرآن) ولكن قد اعتمد السلف على فحوى الكلام.
فالأثر رواه بحشل في تاريخ واسط (ص/189)، وابن أبي حاتم-كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (2/ 230رقم376) -، والطبراني في السنة-كما ذكر الضياء المقدسي-، والسجزي في الإبانة-كما في الآلئ المصنوعة (1/ 14) -، والبيهقي في الأسماء والصفات (1/ 590 - 591رقم519 - 520)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 332)، والجورقاني في الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، والضياء المقدسي في «اختصاص القرآن بعوده إلى الرحيم الرحمن» (رقم2)، من طريق الحسن بن صبيح المؤدب المعروف بأبي هريسة حدثنا علي بن عاصم حدثنا عمران بن حدير عن عكرمة قال: شهدت بن عباس صلى على جنازة رجل من الأنصار فلما سوى في اللحد وحثى التراب عليه قام رجل منهم فقال: اللهم رب القرآن ارحمه، اللهم رب القرآن أوسع عليه مداخله، فالتفت إليه ابن عباس مغضباً فقال: يا عبد الله، أما تتقي الله، يا عبد الله أما تتقي الله، أما علمت أن القرآن منه؟! قال: فرأيت الرجل نكس رأسه ومضى استحياء مما قال له بن عباس كأنه أتى على كبيرة .
وقال الضياء المقدسي «وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ».
وفي لفظ عن ابن عباس: «مه، لا تقل له مثل هذا، منه بدأ، ومنه يعود»، وفي لفظ: «ثكلتك أمك، إن القرآن منه». وإسناده ضعيف بسبب علي بن عاصم فهو صدوق يخطئ ويصر.
الثانية: قال الإمام ابن بطة في الإبانة: "وَمِمَّا غَالَطَ بِهِ الْجَهْمِيُّ مَنْ لا يَعْلَمُ، أَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ رَبُّ الْقُرْآنِ ، وَكُلُّ مَرْبُوبٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَاحْتَجَّ الْجَهْمِيُّ بِكَلِمَةٍ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا الْقُرْآنُ، وَلا جَاءَ بِهَا أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلا مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَّخِذُ ذَلِكَ حُجَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ خَفَّتْ عَلَى أَلَسُنِ بَعْضِ الْعَوَامِّ، وَجَازَتْ بَعْضُ اللُّغَاتِ، فَتَجَافَى لَهُمْ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي جَوَازِ ذَلِكَ كَمَا اسْتَجَازُوا أَنْ يَقُولُوا : مَنْ رَبُّ هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا رَبُّ هَذِهِ الدَّابَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ خَلَقَهَا، وَكَمَا يَقُولُونَ : مَنْ رَبُّ هَذَا الْكَلامِ، وَمَنْ رَبُّ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَمَنْ رَبُّ هَذَا الْكِتَابِ، أَيْ : مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلامِ؟ وَمَنْ أَلَّفَ هَذَا الْكِتَابَ؟ وَمَنْ أَرْسَلَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ؟ لا أَنَّهُ خَالِقُ الْكَلامِ، وَلا خَالِقُ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةَ، فَلِذَلِكَ اسْتَجَازَ بَعْضُ الْعَوَامِّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَخَفَّتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لا أَصْلَ لَهَا عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ، وَإِنَّمَا قَالُوا : يَا رَبَّ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِمْ : يَا مَنْزِلَ الْقُرْآنِ، وَيَا مَنْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ، وَيَا قَائِلَ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مِنَ اللَّهِ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، جَازَ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ كُفْرَ الْجَهْمِيَّةَ وَكَذِبَهَا فِي دَعْوَاهَا أَنَّ كُلَّ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقٌ، قَالَ اللَّهُ تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه} ، أَفَتَرَى ظَنَّ الْجَهْمِيُّ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ خَلَقُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ ! وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ :{ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} ، يَعْنِي : عِنْدَ سَيِّدِكَ.".
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه:
أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي
19/ 11 / 1435هـ