قال أبو قُتيلة مرثد بن وداعة الحمصي رضي الله عنه: «اتقوا فراسة العلماء فإنه حق يجعله الله تعالى على أبصارهم وفي قلوبهم»
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد روى الإمام اللالكائي في كرامات الأولياء(رقم111) –وفي المخطوط(ق53/أ)-:
أخبرنا محمد بن رزقويه، أنبا أبو سهل [بن] زياد، ثنا عبد الكريم، ثنا أبو اليمان، ثنا حريز، عن غيلان المقرائي، عن أَبِي قُتَيْلَةَ-رضي الله عنه-، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَجْعَلُهُ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ وَفِي قُلُوبِهِمْ»،
«وَذَكَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَوْمَاً الْفِتْنَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ السَّكُونِ: فَأَيْنَ أَسْيَافُنَا؟ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنِّي أَخَافُ إِنْ حَضَرْتَها أَنْ تَعْوِرَ عَيْنَكَ وَتَكْسِرَ سِنَّكَ، فَحَضَرَ السَّكُونِيُّ يَوْمَ صِفِّينَ فعَوِرَتْ عيْنُهُ وَكُسِرَتْ سِنُّهُ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَاحِدَةٌ كَانَتْ تَكْفِينِي»،
«وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ: نِعْمَ الْفَتَى غُضَيْفٌ تَفَرَّسَ فِيهِ الْخَيْرَ».
وهذا إسناد صحيح، وقد تفرد به الإمام اللالكائي حسب علمي، ولقول عمر رضي الله عنه في غضيف بن الحارث أسانيد أخرى بعضها صحيح(1).
ورواه أبو أحمد العسكري في الأمثال-وذكره ابن عبدالبر في جامع بيان العلم بدون إسناد- من طريق عمير بن هانئ عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «تقوا فراسة العلماء، فإنهم ينظرون بنور اللَّه، إنه شيء يقذفه اللَّه في قلوبهم، وعلى ألسنتهم». وإسناده منقطع بين عمير وأبي الدرداء رضي الله عنه.
* وهذا الأثر فيه بيان فراسة أهل العلم، وأن الله يوفقهم للحق، وهذا في علماء السنة، الذين يسلكون المنهج الصحيح في تعليمهم وإفتائهم، وهي صفة الراسخين في العلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»(2)، قال الحافظ ابن عبدالبر: «يريد العالم الفاضل»(3).
ولا يعني أن الواحد منهم معصوم، بل قد يخطئ، ولكن تخطئتهم تكون بالدليل لا بمجرد الاعتراض، والفيصل عند التنازع الرجوع إلى الدليل.
* وفيه فراسة أبي الدرداء رضي الله عنه، وأن الله أنطقه بشيء حصل في المستقبل على وفق ما تكلم به، وهذا ليس من ادعاء الغيب، بل من الموافقة لقدر الله.
فكلام أبي الدرداء رضي الله عنه للتحذير من المشاركة في الفتنة، وذكر له عور العين، وكسر السن لأن هذا من الأمور التي تكثر في القتال، فوقع الأمر كما قاله رضي الله عنه.
* ومن التفرس ثناء عمر بن الخطاب رضي الله عنه على غُضيف بن الحارث السكوني، ووجه ذكر أبي قتيلة له-وهو حمصي مثل غضيف بن الحارث-: هو ما وصله حال غضيف من الرفعة في بلاد الشام، فكان مطبقاً للسنة، رافضاً للبدعة التي حدثت في زمن مروان بن الحكم من رفع اليدين على المنبر خلال خطبة الجمعة، وكان إذا غاب خالد بن يزيد بن معاوية خطب غضيف مكانه، فإذا سمع الجند بذلك تداعوا لحضور خطبته، وكان خطيباً واعظاً بليغاً.
* والفراسة ليست مما يدعيه الإنسان، ويفخر به، ولا مما يطلبه الإنسان ويسعى إليه، بل هي نور يقذفه الله في قلب المؤمن لا سيما العالم السني ، فيتكلم بما يوافق الحق، وبما يوافق القدر.
* فإذا وصف شخص بالفراسة وهو مقيم على معصية الله، أو كان من أهل البدع والضلال فهذا من الاستدراج، وقد يكون عرافاً أو ممن يتعامل مع الشياطين، فالميزان هو موافقة حال صاحب الفراسة للكتاب والسنة، وكونه على منهج السلف الصالح.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه:
أسامة بن عطايا العتيبي
23/ 3/ 1438 هـ
***
الحاشية:
(1) ترجمة رجال الإسناد: محمد بن رزقويه: محمد بن أحمد بن محمد البغداديّ البزّاز، المتوفى:412هـ، ثقة صاحب سنة.
أبو سهل بن زياد : هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد، أبو سهل القطان، المتوفى: 350هـ، وثقه الدارقطني.
عبد الكريم بن الهيثم الديرعاقولي: المتوفى 278هـ ثقة ثبت مأمون.
أبو اليمان: الحكم بن نافع البهرانى، المتوفى 222هـ، ثقة ثبت.
حريز: هو حريز بن عثمان الرحبي، المتوفى 163هـ، ثقة ثبت، وقد تصحف في المخطوط والمطبوع إلى جرير.
غيلان المقرائي: هو غيلان بن معشر المقرائي، وثقه العجلي، وابن حبان، وروى عنه حريز، وقال أبو داود: مشايخ حريز كلهم ثقات، وروى عنه أيضاً: أرطاة بن المنذر، ومعاوية بن صالح، وصفوان بن عمرو.
أبو قُتَيْلَةَ: مرثد بن وداعة الجعفى، الشامى الحمصى، صحابي، ووهم من نفى صحبته.
(2) حسن. ورد من حديث أبي أمامة، وأبي هريرة، وثوبان، وأبي سعيد، وابن عمر، وأحسنها حديث أبي أمامة، رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه، والحكيم في نوادر الأصول، والطبراني في الكبير (7497)، وفي الأوسط (3254)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 118)، وفي الأربعين (54)، والبيهقي في الزهد الكبير (358)، والقضاعي في مسند الشهاب (663)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (785)، من طريق عبدالله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة، وإسناده حسن، لأن رواية الأئمة الكبار عن كاتب الليث حسنة قوية، وقد العلامة المعلمي في تعليقه على الفوائد المجموعة للشوكاني (ص/244): «فلا اعتداد إلا بما رواه المتثبتون عنه، بعد اطلاعهم عليه في أصله الذي لا ريب فيه، وعلى هذا حمل ما علقه عنه البخاري»، وقد رواه عنه: الإمام يحيى بن معين، والإمام محمد بن عوف الحمصي، وغيرهما، وحسنه: الهيثمي، والسيوطي، والشوكاني، وغيرهم.
(3) جامع بيان العلم وفضله(1/ 677).