حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
-------------
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنّ الله ابتعث محمداً والبشرية كلها تتخبط في ظلمات حالكة مطبقة من الجهل والشرك والكفر والضلال والظلم، قال تعالى: آلر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( إبراهيم: 1 ).
فقام بهذه الرسالة على أكمل وجوهها واستجاب له خير أمة أخرجت للناس ممن اختارهم الله لحمل رسالة الإسلام والجهاد والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل نشرها والذود عن حياضها فقاموا بكل ما يتطلبه الإسلام من التلقي الواعي لما جاء به هذا الرسول من كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومن سنة مشرقة وضاءة شارحة ومبينة لأهداف القرآن ومقاصده ومبادئه ومثله.
ثم بتبليغ هذين النورين- بعد تطبيقهما الكامل في حياتهم إلى أمم الأرض وشعوبها بالدعوة الواضحة بالبيان وبالسيف والسنان.
فهدى الله تلك الأمم وأخرجها من الظلمات إلى النور واستضاءت بنور الإسلام وتفيأت ظلاله بعد أن رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وأقبلت على تعاليم الإسلام وتوجيهاته من كتاب وسنة تنهل من نميرهما حفظـاً واعيـاً وتطبيقاً صادقاً في مجال العقيدة والعبادة والاقتصاد والحكم، فبلغوا بهذه الحياة على هذين المصدرين أوج العزة وقمة السعادة في الدنيا والآخرة، ونعموا بحياة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية من العدالة والأخوة والمحبة الصادقة في الله، والإيثار في جنب الله والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أجناس الأمم التي انضوت تحت لواء الإسلام لا فرق بين عربيهم وعجميهم ولا بين أبيضهم وأسودهم وأحمرهم.
فأثارت هذه الحياة الهنيئة الراضية مكامن الحسد والبغضاء والغيظ على هذه الأمم التي أصبحت أمة واحدة كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد؛ فشرع أولئك الحاقـدون من سلالات المجوس واليهـود يحيكون الدسائس السياسية ويرسمون الخطط لزلزلة هذا البنيان المحكم وتحطيم أركانه سياسياً واجتماعياً وعقائدياً من عدة طرق.
منها: الطعن في الإسلام عموماً وفي القرآن والسنة والصحابة الكرام.
ومنها: اختراع الأحاديث الباطلة على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حتى وصلت الأحاديث المكذوبة إلى ألوف مؤلفة، فتصدى لهم الجهابذة من نقاد أئمة الحديث، ففندوا أكاذيبهم وكشفوا عوارهم، فلم يتركوا كاذباً ولا أحاديث مفتراة إلا سلطوا عليها الأضواء الإسلامية، وجعلوها تحت المجاهر فانكشف حالها وحال مخترعيها.
بل امتد نشاط هؤلاء النقاد العباقرة إلى وضع قواعد متينة يعرف بها الصحيح من السقيم ولو كان غير كذب، وألفوا في ذلك المؤلفات، ووضعوا قواعد للجرح والتعديل؛ تميّز الراوي العدل الضابط من الضعيف والمجروح، وألفوا في ذلك المؤلفات فبلغوا بهذه الأعمال الجليلة في الحفاظ على سنة رسول الله وآثار الصحابة درجة لا نظير لها في تأريخ الإنسانية.
وأضافوا إلى ذلك التأليف في العلل والموضوعات، وقبلها التأليف في الصحيح والحسن، فأصبح بذلك أمر السنة واضحاً كالشمس لا يلتبس فيه الصحيح بالضعيف فضلاً عن الموضوع والمختلق.
وإلى جانب هؤلاء طوائف زائغة تبنت عقائد وأفكاراً باطلة.
ومن المؤلم المؤسف جداً أن وجدوا أنفسهم وعقائدهم في مواجهة نصوص الكتاب والسنة فلجأوا إلى التحريف والتأويل لنصوص الكتاب والمتواتر من السنة حتى تتفق هذه النصوص في زعمهم مع معتقداتهم الباطلة، ولجأوا إلى وضع قواعد تدفع في نحور السنن أحياناً، وتلوي أعناقها أحياناً إلى حيث توافق أهواءهم واتجاهاتهم الضالة الباطلة.
فمن تلكم القواعد قولهم: "إنّ أخبار الآحاد لا يحتج بها في باب العقيدة؛ لأنها لا تفيد اليقين وإنما تفيد الظن"، فكم أساءت هذه المقولة الباطلة إلى الإسلام، وكم أهانت من حديث عظيم من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخفت به. وامتدت هذه القاعدة إلى جحود وإنكار قضايا عقدية تبلغ أدلتها حد التواتر، مثل: أحاديث نزول عيسى، وخروج الدجـال، وطلوع الشمس من مغربها، وأحاديث المهدي، وغيرها مما يؤدي إنكاره إلى هدم عقيدة الإسلام من أساسها، بل بعضها تطابقت في الدلالة عليها نصوص الكتاب والسنّة، مثل: رؤية الله في الدار الآخرة.
ومن تلكم القواعد الضالة: " كل ما لم يوافق العقل وكل ما لم يوافق الذوق من أحاديث رسول الله يجب رده "، ويجعلون من جهلهم بالكتاب والسنة ومن عقولهم القاصرة وأذواقهم الفاسدة موازين لأخذ ما شاؤا ورد شاؤا من أقوال أفضل الرسل وأعقل العقلاء الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وكادت هاتان الطائفتان أن تنقرضا ولكن عزّ على أعداء الإسلام أن تخبو نار الفتنة وأن تضع الحرب الموجهة ضد الإسلام أوزارها.
فهب أعداء الإسلام من يهود وماسونيين ومستشرقين ومستعمرين لإيقاظ هذه الفتنة من سباتها أو نبشها من قبورها المندثرة ثم بثها في الشرق والغرب وفي صفوف أبناء الأمة الإسلامية خصوصاً المثقفين والجامعيين وانضم إلى صفوف هؤلاء الأعداء سفهاء وأغبياء من أبناء جلدتنا ومن يتكلم بلغتنا، فكان هجومهم على السنة أشد وأعنف، وكانوا أشد خطراً على الإسلام من أعداء الإسلام المكشوفين الواضحين.
ولكن الله الذي تعهـد بحفظ دينـه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9). لهؤلاء جميعاً -من أعداء الإسلام الواضحين، وأعداء السنن المندسين في صفوف الإسلام، واللاهثـين وراءهم- بالمرصاد.
فكما جند لحماية السنة المطهرة في السابق جنـوداً من أئمة الحديث والسنة مخلصين، فدحرت جيوش الباطل وجنود إبليس في السابق، فكذلك جند في اللاحق وفي هذا العصر بالذات من يتصدى لهؤلاء المتربصين بالسنن النبوية والعقائد الإسلامية من يدحرهم ويردهم على أعقابهم خاسئين وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات:171-173 ).
فلقد هبّ حمـاة الإسلام في السابق واللاحق يدافعون عن سنن المصطفى، ويهاجمون خصومها حتى تعلوا كلمة الحق ويزهق الباطل: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ( الإسراء:81 ). ففي السابق كان علماء الحديث والسنة وعلى رأسهم: الشافعي ( ت 204هـ)، وأحمد بن حنبل (ت 241هـ)، وابن قتيبـة ( ت 276هـ)، ثم ابن تيمية ( ت 728هـ)، وابن القيم ( ت 751هـ)، جنود بواسل في دحر هذه الشراذم الضالة.
وفي العصر الحاضر هبّ لدحرهم علماء السنة الفضلاء مثل: الأستاذ محمد عبد الرزاق حمـزة، وعبد الرحمن المعلمي، وعلامة الشام ومحدثها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عبد الله بن يابس النجدي، وغيرهم من الغيورين على الإسلام والسنّة.
ولا يزالون- ولله الحمد- بالمرصـاد لكل من يرفع رأسه بفتنـة أو بشغب على الإسلام من قريب أو بعيد ويريد النيل من القرآن والسنة، قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9).
ولقد أسهمت أنا العبد الضعيف في الذب عن السنة والمنهج الإسلامي بعدة إسهامات منها: " كشف موقف الغزالي من السنة وأهلها".
ومنها: "تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف".
ومنها: هذا البحث المتواضع الذي أشارك به اليوم في "ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية"؛ هذا وقد قسمت بحثي إلى مقدمة وفصول:
الفصل الأول: بيان منـزلة السنّة في الكتاب والسنّة.
الفصل الثاني: منزلة السنة عند الصحابة الكرام فمن بعدهم من خيار الأمة وسادتها.
الفصل الثالث: ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها.
الفصل الرابع: ذكر شبهات أهل الأهواء حول السنة في العصر الحاضر ودحضها.
الفصل الخامس: حجج أهل السنة على أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تفيد العلم لا الظن.
والله أسأل أن ينفعني والمسلمين بهذا البحث وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
فرغ من كتابته
ربيع بن هادي عمير المدخلي
في الخامس من ربيع الثاني عام أربعة وعشرين وأربعمائة بعد الألف من التاريخ الهجري.
5/4/1424هـ
مكة المكرمة
-----------------------------------------
مــنــــقــــول
---------------------------------------