فضل قيام الليل من كتاب لطائف المعارف لابن رجب (يحتاج إلى متابعة من طالبات معهد البيضاء)
قال الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه "لطائف المعارف" :
في فضل قيام الليل
و قد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضل الصلاة بعد المكتوبة .
وهل هو أفضل من السنن الراتبة فيه خلاف سبق ذكره .
و قال ابن مسعود رضي الله عنه : فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية . و خرجه الطبراني عنه مرفوعاً ، و المحفوظ وقفه .
و قال عمرو بن العاص : ركعة بالليل خير من عشر بالنهار ، خرجه ابن أبي الدنيا .
و إنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الإسرار ، و أقرب إلى الإخلاص .
كان السلف يجتهدون على إخفاء تهجدهم . قال الحسن : كان الرجل يكون عنده زواره فيقوم من الليل يصلي لا يعلم به زواره .
و كانوا يجتهدون في الدعاء و لا يسمع لهم صوت .
و كان الرجل ينام مع امرأته على وسادة فيبكي طول ليلته و هي لا تشعر .
و كان محمد بن واسع يصلي في طريق الحج طول ليله و يأمر حاديه أن يرفع صوته ليشغل الناس عنه .
و كان بعضهم يقوم من وسط الليل و لا يدري به ، فإذا كان قرب طلوع الفجر رفع صوته بالقرآن يوهم أنه قام تلك الساعة .
و لأن صلاة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم و الراحة من التعب بالنهار ، فترك النوم مع ميل النفس إليه مجاهدة عظيمة .
قال بعضهم : أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس .
و لأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر فإنه تنقطع الشواغل بالليل و يحضر القلب و يتواطأ هو و اللسان على الفهم كما قال تعالى : إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً و أقوم قيلا .
و لهذا المعنى أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلاً و لهذا كانت صلاة الليل تنهاه عن الإثم كما يأتي في حديث خرجه الترمذي .
و في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قيل له : إن فلاناً يصلين الليل فإذا أصبح سرق ؟ فقال : سينهاه ما تقول .
و لأن وقت التهجد من الليل أفضل أوقات التطول بالصلاة و أقرب ما يكون العبد من ربه ، و هو وقت فتح أبواب السماء و استجابة الدعاء و استعراض حوائج السائلين .
و قد مدح الله تعالى المستيقظين بالليل لذكره و دعائه و استغفاره و مناجاته ، فقال الله تعالى : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً و طمعاً و مما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}، و قال الله تعالى : {والمستغفرين بالأسحار} ، و قال الله تعالى : {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * و بالأسحار هم يستغفرون}، و قال الله تعالى : { و الذين يبيتون لربهم سجداً و قياماً} ، و قال الله تعالى : {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً و قائماً يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون} ، و قال تعالى : {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون} ، و قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : {و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا} ، و قال تعالى : {و من الليل فاسجد له و سبحه ليلاً طويلاً} ، و قال تعالى : {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه} .
قالت عائشة رضي الله عنها لرجل : لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان لا يدعه ، و كان إذا مرض أو قالت : كسل صلى قاعداً . و في رواية أخرى عنها قالت : بلغني عن قوم يقولون : إن أدينا الفرائض لم نبال أن لا نزداد ، و لعمري لا يسألهم الله إلا عما افترض عليهم ، و لكنهم قوم يخطئون بالليل و النهار و ما أنتم إلا من نبيكم ، و ما نبيكم إلا منكم ، و الله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم قيام الليل و نزعت كل آية فيها قيام الليل .
فأشارت عائشة رضي الله عنها إلى قيام الليل فيه فائدتان عظيمتان :
الإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و التأسي به ، و قد قال الله عز و جل : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .
و تكفير الذنوب و الخطايا فإن بني آدم يخطئون بالليل و النهار فيحتاجون إلى الإستكثار من مكفرات الخطايا و قيام الليل من أعظم المكفرات ،
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل : قيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع الآية خرجه الإمام أحمد و غيره .
و قد روي أن المتهجدين يدخلون الجنة بغير حساب .
و روي عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق ، سيعلم الخلائق اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله فيقومون و هم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء و الضراء فيقومون و هم قليل ، ثم يحاسب سائر الناس ، خرجه ابن أبي الدنيا و غيره و يروى عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله ، و يروى أيضاً من حديث أبي اسحاق عن عبد الله بن عطاء عن قبة بن عامر مرفوعاً و موقوفاً ، و يروى نحوه أيضاً عن عبادة بن الصامت و ربيعة الجرشي و الحسن و كعب من قولهم .
قال بعض السلف : قيام الليل يهون طول القيام يوم القيامة ، و إذا كان أهله يسبقون إلى الجنة بغير حساب فقد استراح أهله من طول الموقف للحساب .
و في حديث أبي أمامة و بلال المرفوع : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، و إن قيام الليل قربة إلى الله تعالى ، و تكفير للسيئات ، و منهاة عن الإثم و مطردة للداء عن الجسد ، خرجه الترمذي .
ففي هذا الحديث أن قيام الليل يوجب صحة الجسد و يطرد عنه الداء و كذلك صيام النهار ،
ففي الطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعاً : صوموا تصحوا ،
و كما أن قيام الليل يكفر السيئات ، فهو يرفع الدرجات .
و قد ذكرنا أن أهله من السابقين إلى الجنة بغير حساب ،
و في حديث المنام المشهور الذي خرجه الإمام أحمد و الترمذي : إن الملأ الأعلى يختصمون في الدرجات و الكفارات ، و فيه إن الدرجات إطعام الطعام ، و إفشاء السلام ، و الصلاة بالليل و الناس نيام ،
و في المسند و الترمذي و غيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه : إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها من ظاهرها ، و إنها لأهل هذه الخصال الثلاثة .
و في حديث عبد الله بن سلام المشهور المخرج في السنن : أنه أول ما سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند قدومه المدينة : يا أيها الناس اطعموا الطعام ، و افشوا السلام ، و صلوا الأرحام ، و صلوا بالليل و الناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام .
و من فضائل التهجد : أن الله تعالى يحب أهله و يباهي بهم الملائكة و يستجيب دعائهم .
روى الطبراني و غيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة يحبهم الله ، و يضحك إليهم ، و يستبشر بهم ـ فذكر منهم ـالذي له له امرأة حسناء و فراش حسن فيقوم من الليل ، فيقول الله تعالى : يذر شهوته فيذكرني و لو شاء رقد ، و الذي إذا كان في سفر و كان معه ركب فسهروا ثم هجعوا قام من السحر في سراء و ضراء .
و خرج الإمام أحمد و الترمذي و النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة يحبهم الله ـ فذكر منهم ـ و قوم ساروا ليلهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني و يتلو آياتي ، و صححه الترمذي .
و في المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه و لحافه من بين أهله و حبه إلى صلاته ، فيقول ربنا تبارك و تعالى : يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه و وطائه من بين حبه و أهله إلى صلاته رغبة فيما عندي و شفقة مما عندي . و رجل غزا في سبيل الله عز و جل و انهزم أصحابه و علم ما عليه في الانهزام و ماله في الرجوع فرجع حتى إهريق دمه ، فيقول الله عز و جل لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي و شفقة مما عندي حتى إهريق دمه ، رواه أحمد ، و ذكر بقية الحديث ،
و قوله ثار فيه إشارة إلى قيامه بنشاط و عزم
و يروى من حديث عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر ، رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور فصلى ، و رجل نام و هو ساجد ، و رجل في كتيبة منهزمة فهو على فرس جواد لو شاء أن يذهب لذهب ،
و خرجه ابن ماجة من رواية مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله ليضحك إلى ثلاثة : الصف في الصلاة ، و الرجل يصلي في جوف الليل ، و الرجل يقاتل أراه قال : خلف الكتيبة .
و روينا من حديث أبان عن أنس عن ربيعة بن وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاث مواطن لا ترد فيها دعوة رجل يكون في برية حيث لا يراه أحد فيقوم فيصلي فيقول الله لملائكته : أرى عبدي هذا يعلم أن له رباً يغفر الذنب ، فانظروا ما يطلب ؟ فتقول الملائكة : إي رب رضاك و مغفرتك ، فيقول : اشهدوا أني قد غفرت له ، و رجل يقوم من الليل فيقول الله عز و جل : أليس قد جعلت الليل سكناً و النوم سباتاً فقام عبدي هذا يصلي و يعلم أن له رباً ، فيقول الله لملائكته : انظروا ما يطلب عبدي هذا ؟ فتقول الملائكة : يا رب رضاك و مغفرتك ، فيقول : اشهدوا أني قد غفرت له ، و ذكر الثالث : الذي يكون في فئة فيفر أصحابه و يثبت هو ، و هو مذكور أيضاً في كل الأحاديث المتقدمة .
و في المسند و صحيح ابن حبان عن عقبة عن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور و عليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ يديه انحلت عقدة و إذا وضأ وجهه انحلت عقدة و إذا مسح رأسه انحلت عقدة ، و إذا وضأ رجليه انحلت عقدة ، فيقول الرب عز و جل للذين وراء الحجاب : انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له .
و في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نعم الرجل عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ لو كان يصلي من الليل ، فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلا .
كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس : أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه و يبلغه ؟ قالوا : بلى ، قال : فسفر طريق القيامة أبعد فخذوا له ما يصلحكم
حجوا حجة لعظائم الأمور ، صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور ، صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور ، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير أين رجال الليل أين الحسن و سفيان ،
قال :
يترجل الليل جدوا رب داع لا يرد
ما يقوم الليل إلا من له عزم و جد
ليس شيء كصلاة الليل للقبر يعد
صلى كثير من السلف صلاة الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة ، و منهم من صلى كذلك أربعين سنة ، قال بعضهم : منذ أربعين سنة ، ما أحزنني إلا طلوع الفجر .
قال ثابت : كابدت قيام الليل عشرين سنة و تنعمت به عشرين سنة أخرى .
أفضل قيام الليل وسطه .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه ، و ينام سدسه ،
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سمع الصارخ يقوم للصلاة و الصارخ : الديك ، و هو يصيح وسط الليل .
و خرج النسائي عن أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أي الليل خير ؟ قال : جوفه .
و خرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أي قيام الليل أفضل ؟ قال : جوف الليل الغابر أو نصف الليل و قليل فاعله .
و خرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الصلاة أفضل ؟ قال : جوف الليل الأوسط ، قال : أي الدعاء أسمع ؟ قال : دبر المكتوبات ، و خرجه الترمذي و النسائي و لفظهما : أنه سأله أي الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الأخير ، و دبر الصلوات المكتوبات .
و خرج الترمذي من حديث عمرو بن عنبسة سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل ، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن .
و يروى أن داود عليه السلام قال : يا رب أي وقت أقوم لك ؟ قال : لا تقم أول الليل و لا آخره ، و لكن قم وسط الليل حتى تخلوا بي و أخلو بك ، و ارفع إلي حوائجك .
و في الأثر المشهور : كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه فها أنا ذا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل ، جعلت أبصارهم في قلوبهم فخاطبوني على المشاهدة ، و كلموني على حضوري ، غداً أقر أعين أحبابي في جناني .
الليل لي ولأحبابي أحادثهم قد اصطفيتهم كي يسمعوا و يعوا
لهم قلوب بأسراري بها ملئت على ودادي و إرشادي لهم طبعوا
سروا فما وهنوا عجزاً و لا ضعفوا و واصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا
ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم هو شفاء قلوبهم و نهاية مطلوبهم .
كتمت اسم الحبيب من العباد و رددت الصبابة في فؤادي
فيا شوقاً إلى بلد خلي لعلى اسم من أهوى أنادي
كان داود الطائي يقول في الليل : همك عطل علي الهموم ، و حالف بيني و بين السهاد و شوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات ، و حال بيني و بين الشهوات .
و كان عتبة الغلام يقول في مناجاته بالليل : إن تعذبني فإني لك محب ، و إن ترحمني فإني لك محب.
لو أنك أبصرت أهل الهوى إذا غارت الأنجم الطلع
فهذا ينوح على ذنبه و هذا يصلي و ذا يركع
من لم يشاركهم في هواهم و يذوق حلاوة نجواهم ، لم يدر ما الذي أبكاهم ، من لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب .
من لم يبت و الحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد
كان أبو سليمان يقول : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ، و لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا ، وسط الليل للمحبين للخلوة بمناجاة حبيبهم ، و السحر للمذنبين للإستغفار من ذنوبهم ، فوسط الليل خاص لخلوة الخواص ، و السحر عام لرفع قصص الجميع و بروز التواقيع لأهلها بقضاء الحوائج ، فمن عجز عن مسابقة المحبين في ميدان مضمارهم ، فلا يعجز عن مشاركة المذنبين في استغفارهم و اعتذارهم ، صحائف التائبين خدودهم ، و مدادهم دموعهم .
قال بعضهم : إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم ، رسائل الأسحار تحمل و لا يدري بها الفلك ، و أجوبتها ترد إلى الأسرار و لا يعلم بها الملك .
صحائفنا إشارتنا و أكثر رسلنا الحرق
لأن الكتب قد تقرأ بغير الدمع لا تثق
لا تزال القصص تستعرض و يوقع بقضاء حوائج أهلها إلى أن يطلع الفجر ، ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ، هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأجيب دعوته إلى أن ينفجر الفجر ، فلذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله .
نحن الذين إذا أتانا سائل نوليه إحساناً و حسن تكرم
و نقول في الأسحار هل من تائب مستغفر لينال خير المغنم
الغنيمة تقسم على كل من حضر الوقعة فيعطي منها الرجالة و الأجراء و الغلمان مع الأمراء و الأبطال و الشجعان و الفرسان فما يطلع فجر الأجر إلا و قد حاز القوم الغنيمة و فازوا بالفخر و حمدوا عند الصباح السرى ، و ما عند أهل الغفلة و النوم خبر مما جرى .
كان بعض الصالحين يقوم الليل فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته يا أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون ، ألا تقومون فترحلون ، فإذا سمع الناس صوته و ثبوا من فرشهم فيسمع من هنا باك ، و من هنا داع ، و من هنا نال ، و من هنا متوضىء فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السرى
يا نفس قومي فقد نام الورى إن تصنعي الخير فذو العرش يرى
و أنت يا عين دعي عنك الكرى عند الصباح يحمد القوم السرى
يا قوام الليل اشفعوا في النوام ، يا أحياء القلوب ترحموا على الأموات .
قيل لابن مسعود رضي الله عنه : ما نستطيع قيام الليل ؟ قال : أقعدتكم ذنوبكم .
و قيل للحسن : قد أعجزنا قيام الليل ؟ قال : قيدتكم خطاياكم .
و قال الفضيل بن عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل و صيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك .
قال الحسن : إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل .
قال بعض السلف : أذنبت ذنباً فحرمت به قيام الليل ستة أشهر .
ما يؤهل الملوك للخلوة بهم إلا من أخلص في ودهم و معاملتهم ، فأما من كان من أهل المخالفة فلا يؤهلونه .
في بعض الآثار : إن جبريل عليه السلام ينادي كل ليلة أقم فلاناً و أنم فلاناً . قام بعض الصالحين في ليلة باردة و عليه ثياب رثة فضربه البرد فبكى فهتف به هاتف أقمناك و أنمناهم ثم تبكي علينا .
يا حسنهم و الليل قد جنهم و نورهم يفوق نور الأنجم
ترنمــوا بالذكـــر في ليلهم فعيشهم قد طـاب في الترنم
قلوبهم للذكــر قد تفرغــت دموعهم كلـــؤلـــؤ منظـــم
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت و خلع الغفران خير القسم
الليل منهل يرده أهل الإرادة كلهم ، و يختلفون فيما يردون و يريدون قد علم كل أناس مشربهم ، فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه ، و الخائف يتضرع لطلب العفو و يبكي على ذنوبه ، و الراجي يلح في سؤال مطلوبه ، و الغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه ، و فوات نصيبه .
قال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل .
مرضت رابعة مرة فصارت تصلي وردها بالنهار فعوفيت ، و قد ألفت ذلك و انقطع عنها قيام الليل فرأت ذات ليلة في نومها كأنها أدخلت إلى روضة خضراء عظيمة ، و فتح لها فيها باب دار فسطع منها نور حتى كاد يخطف بصرها فخرج منها وصفاء كأن وجوههم اللؤلؤ بأيديهم مجامر فقالت لهم امرأة كانت مع رابعة : أين تريدون ؟ قالوا : نريد فلاناً قتل شهيداً في البحر فنجمره ، فقالت لهم : أفلا تجمرون هذه المرأة ـ تعني رابعة ـ فنظروا إليها و قالوا : قد كان لها حظ في ذلك فتركته ، فالتفتت تلك المرأة إلى رابعة و أنشدت :
صلاتك نور و العباد رقود و نومك ضد للصلاة عنيد
كان بعض العلماء يقوم السحر فنام عن ذلك ليالي ، فرأى في منامه رجلين وقفا عليه ، و قال أحدهما للآخر : هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك ، يا من كان له قلب فانقلب ، يا من كان له وقت مع الله فذهب ، قيام السحر يستوجبن لك صيام النهار ، يسائل عنك الوصال تعاتبك على الجهر .
تغيرتمو عنا بصحبـــة غيرنا و أظهرتم الهجـــــران ما هكــذا كنا
و أقسمتمو أن لا تحولوا عن الهوى فحلتم عن العهد القديم و ما حلنا
ليالي كنا نستقي من وصالكم و قلبي إلى تلك الليــــــــالي قد حنا
قيل للنبي صلى الله عليه و سلم : إن فلاناً نام حتى أصبح ؟ فقال : بال الشيطان في أذنه .
كان سري يقول : رأيت الفوائد ترد في ظلمة الليل ، ماذا فات من فاته خير الليل لقد حصل أهل الغفلة و النوم على الحرمان و الويل .
كان بعض السلف يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال له : قم فصل ، ثم قال له : أما علمت أن مفاتح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها هم خزانها .
و كان آخر يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال : ما لك قصرت في الخطبة ، أما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة : قام الخاطب إلى خطبته .
و رأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها : زوجيني نفسك قالت : اخطبني إلى ربي و أمهرني ، قال : ما مهرك ؟ قالت : طول التهجد .
نام ليلة أبو سليمان فأيقظته حوراء و قالت : يا أبا سليمان تنام و أنا أربي لك في الخدور من خمسمائة عام . و اشترى بعضهم من الله تعالى حوراء بصداق ثلاثين ختمة فنام ليلة قبل أن يكمل الثلاثين فرآها في منامه تقول له :
أتخطب مثلي و عني تنام و نوم المحبين عني حرام
لأنا خلقــنا لكـــل امرىء كثير الصلاة براه الصيــام
كان النبي صلى الله عليه و سلم يطرق باب فاطمة و علي و يقول : ألا تصليان ، و في الحديث : إذا استيقظ الرجل و أيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً و الذاكرات .
كانت امرأة حبيب توقظه بالليل و تقول ذهب الليل و بين أيدينا طريق بعيد و زادنا قليل و قوافل الصالحين قد سارت قدامنا و نحن قد بقينا .
يا راقد الليل كم ترقــــــد قم يا حبيبي قد دنا الموعد
و خذ من الليل و أوقاته ورداً إذا ما هجـــع الرقـــد
من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنـــزل أو يجهد
قل لأولي الألباب أهل التقى قنــطرة العــرض لكم موعد
|