بارك الله فيك أخي معاذ على هذا الطرح
وأقول أن مسألة عصمت الأنبياء قبل البعثة وورود الشرع مسألة اعتقادية مبثوثة في كتب الاعتقاد على مذهب أهل السنة والمخالفين لهم, وكتب التفسير السلفية وغيرها
أنقل لك بحثا نافعا فيه من التقرير والمناقشة ما تشد إليه الرحال, لعلم من أعلام الدعوة السلفية النجدية, وإمام من أئمتها وهو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع, وفيه يقول:
( وأما المسألة السادسة عن قوله تعالى – في قصة شعيب - : (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ), وقول السائل: وهم لم يدخلوا فيها. فاعلم أن هذه المسألة شاعت وذاعت واشتهرت وانتشرت والخلاف فيها قديم بين أهل السنة والمعتزلة وبين أهل السنة بعضهم لبعض والذي روى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس: " كانت الرسل والمؤمنون تستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويدعونهم إلى العودة إلى ملتهم, فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملتهم وفي ملة الكفر وأمرهم أن يتوكلوا عليه " وقد رواه السدي عن أشياخه وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت كما كان الرسل قبل الرسالة, وأنهم كانوا أغفالا قبل, أي لا علم بما جاءهم من عند الله, قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم.
وهذا الذي رأيته منصوصا عن مفسري السلف وأما من بعدهم كابن الأنباري والزجاج وابن الجوزي والثعلبي والبغوي, فهؤلاء يؤولون ذلك على معنى: لتصيرن ولتدخلن, وجعلوه بمعنى الابتداء لا بمعنى الرجوع إلى شيء قد كان, وأنشدوا على ذلك ما اشتهر عنهم في تفاسيرهم كقول الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مرة
إلي لقد عادت لهن ذنوب
وكقوله:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رمادا بعد ما كان صاطعا
وقول أمية:
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبت بماء فعادت بعد أبوالا
وأمثال ذلك مما يدل على الابتداء وبعضهم أبقاه على معناه, وقال: هو التغليب لأن قومهم كانوا على ملة الكفر فغلب الجمع على الواحد. لكن تعقب ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – فقال: وأما التغليب فلا يتأتى في سورة إبراهيم. وأما جعلها بمعنى الابتداء والصيرورة, فالذي في الآيات الكريمات, عود مقيد بالعود في ملتهم, فهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم: " العائد في هبته كالعائد في قيئه ". وقوله: ( ... ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه) وقوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) فالعود في مثل هذا الموضع عود مقيد, صريح بالعود إلى أمر كان عليه الرسل وأتباعهم, لا يحتمل غير ذلك, ولا يقال إن العود في مثل هذا يكون عودا مبتدأ, وما ذكر من الشواهد أفعال مطلقة ليس فيها: إن عاد لكذا ولا عاد فيه. قال: ولهذا سمي المرتد عن الإسلام مرتدا, وإن كان عاد على الإسلام ولم يكن كافرا عند عامة العلماء. قال: وأما قولهم إن شعيبا والرسل ما كانوا في ملتهم قط, وهي ملة الكفر, فهذا فيه نزاع مشهور, وبكل حال فهو خبر يحتاج إلى دليل عقلي وليس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك. وأما العقل ففيه نزاع والذي تظاهر عليه أهل السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: ( وقال كثير منهم ومن أصحابنا وأهل الحق إنه لا يمتنع بعثة من كان كافرا, أو مصيبا للكبائر قبل البعثة.
قال: ولا شيء عندنا يمنع ذلك على ما تبين القول فيه. ثم ذكر الخطيب الخلاف في إصابته الذنوب بعد البعثة, وأطال الكلام ثم قال: ( فصل في جواز بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة) قال: والذي يدل على ذلك أمور:
أحدها أن إرسال الرسول وظهور الأعلام عليه, اقتضى ودل – لا محال – على إيمانه وصدقه وطهارة سريرته, وكمال علمه ومعرفته بالله, وأنه مؤدٍ عنه دون غيره, لأنه إنما يظهر الأعلام ليستدل به على صدقه فيما يدعيه من الرسالة.
فإذا كان بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال من الطهارة والنزاهة والإقلاع عما كان عليه لا يمنع بعثته, وإلزام توقيره وتعظيمه, وإن وجد منه ضد ذلك قبل الرسالة, وأطال الكلام.
ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك ( أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه ), كما قال/ الله تعالى: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ). وقال: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ). وقال: ومن نشأ بين قوم مشركين جهال, لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم, إذا كان عندهم معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه, واجتناب ما يعرفون قبحه, وقد قال تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة وإذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به, وفرق بين من يرتكب ما يعلم قبحه وبين من يفعل ما لا يعرف, فإن هذا الثاني لا يذمونه ولا يعيبونه عليه, ولا يكون ما فعل مما هم عليه منفرا عنه بخلاف الأول, ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفا بشرك, فإنهم نشئوا على شريعة التوراة, وإنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم. وأما ما ذكره سبحانه وتعالى في قصة شعيب والأنبياء, فليس في هذا ما ينفر أحدا عن القبول منهم وكذلك الصحابة رضي الله عنهم, الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليتهم, وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام كأبي بكر الصديق, فإنه لم يزل معروفا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق, لم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه به, والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم. وقد تبين أن ما اخبر عنه قبل النبوة في القرآن من أمر الأنبياء, ليس فيه ما ينفر أحدا عن تصديقهم, ولا يوجب طعن قومهم, ولهذا لم يذكر أحد من المشركين هذا, قادحا في نبوته, ولو كانوا يرونه عيبا لعابوه, ولقالوا: كنتم أنتم أيضا على الحالة المذمومة, ولو ذكروا للرسل هذا لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف ما أوحي إلينا ؛ ولكنهم قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا, فقالت الرسل: إن نحن إلا بشر مثلكم, ولكن الله يمن على من يشاء من عباده.
قال: وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسول, لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله من أمور النبوة والشرائع, ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر, والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم هذا, فضلا عن أن تقر به. فعلم أن عدم العلم والإيمان لا يقدح في نبوتهم, بل الله إذا نبأهم علمهم ما لم يكونوا يعلمون.
قلت: وقوله: وقد اتفقوا كلهم, يعني أهل السنة والمعتزلة. ثم قال تعالى: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) وقال تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق, وكلاهما عرفوه بالوحي واستدل على هذا بآيات, إلى أن قال: وقد تنازع الناس في نبينا صلى الله عليه مسلم قبل النبوة, وفي معاني بعض هذه الآيات, في قوله تعالى:
( وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) وفي قوله: ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ ) وقوله: (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) وما تنازعوا في معنى آية الأعراف, وآية إبراهيم.
فقال قوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه ولا كان يأكل ذبائحهم. وهذا هو المنقول عن أحمد, قال: من زعم أنه على دين قومه فهو قول سوء, أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب. ثم قال الشيخ: ولعل أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام فغلط الناقل عنه فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام. وأما كونه لا يأكل من ذبائحهم, فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر وأحمد من أعلم الناس بالآثار.
قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسول, وأما تحريم ما ذبح على النصب فإنه ما ذكر في سورة المائدة وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله, وتحريم هذا إنما يعرف في القرآن, وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا, بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما ذبحوا للحم وبين ما ذبحوه للنصب على جهة القربة للأوثان, قال: فهذا من جنس الشرك, لا يقال قط في شريعة بحلها. كما كانوا يتزوجون المشركات أولا.
قال: والقول الثاني: إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه وفسر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم, لا بالموافقة لهم على شركهم وذكر أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية, كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات.
قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء, لا يحج يهودي ولا نصراني, لا في الجاهلية ولا في الإسلام, فهو من لوازم الحنيفية, كما أنه لم يكن مسلما, إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما قبل محمد فكان بنو إسرائيل على ملة إبراهيم وكان الحج مستحبا قبل محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن مفروضا, ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء. ثم قال: ولكن تحريم المحرمات ما يشاركهم فيه أهل الكتاب, والختان يشاركهم فيه اليهود. وأطال الرد والنقل عن ابن قتيبة رحمه الله وذكر كلام ابن عطية في قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) أنه أعانه وأقامه على غير الطريق التي كان عليها, هذا قول الحسن والضحاك. قال: والضلال يختلف, فمنه القريب ومنه البعيد. وكون الإنسان واقفا لا يميز بين المهيع ضلال قريب لأنه لم يتمسك بطريقة ضالة, بل كان يرتاد وينظر.
قال: والمنقول أنه عليه السلام كان قبل النبوة يبغض عبادة الأصنام, ولكن لم يكن ينهى عنها نهيا عاما, وإنما كان ينهى خواصه. وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي وفيه: ( فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة, وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس, أحدهما إساف والآخر نائلة, وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد : لا تمسحهما فإنهما رجس ). فقلت في نفسي: لأمسهما حتى أنظر ما يقول, فمسستهما فقال: ( يا زيد ألم تنه ). وقال أبو عبد الله المقدسي: هذا: (حديث حسن له شاهد في الصحيح والحديث معروف, وقد اختصره البيهقي, وزاد فيه: قال زيد بن حارثة والذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب, ما استلم صنما قط, حتى أكرمه الله بالذي أكرمه. وفي قصة بحيرى الراهب, حين حلف باللات والعزى, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسألن باللات والعزى, فو الله ما أبغضت بغضهما شيئا قط ) وكان الله قد نزهه عن أعمال الجاهلية, فلم يكن يشهد مجامع لهوهم, وكان إذا هموا بشيء من ذلك ضرب الله على أذنه فأنامه, وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثارا وكانت قريش يكشفون عوراتهم لشيل حجر ونحوه, فنزهه الله عن ذلك كما في الصحيحين من قول جابر.
وفي مسند احمد زيادة: ( فنودي: لا تكشف عورتك, فألقى الحجر ولبس ثوبه ) وكانوا يسمونه: الصادق الأمين. وكان الله عز وجل قد صانه عن قبائحهم, ولم يعرف منه قط كذبة ولا خيانة ولا فاحشة ولا ظلم قبل النبوة بل شهد مع عمومته حلف المطيبين على نصر المظلومين. وأما الإقرار بالصانع وعبادته, والإقرار بأن السموات والأرض مخلوقة له محدثة بعد أن لم تكن, وأنه لا خالق غيره. فهذا كان عامتهم يعرفونه ويقرون به فكيف لا يعرفه هو ويقر به وذكر الشيخ بعض علامات النبوة, وتغير العالم بمولده, ثم قال: لكن هذا لا يجب انه يكون مثله لكل نبي, فإنه أفضل الأنبياء, وهو سيد ولد آدم والله سبحانه إذا أهل عبدا لأعلى المنازل والمراتب, رباه على قدر تلك المرتبة, فلا يلزم إذا عصم نبينا, أن يكون معصوما قبل النبوة من كبائر الإثم والفواحش, صغيرها وكبيرها, ولا يكون كل نبي كذلك. ولا يلزم إذا كان الله بغض إليه شرك قومه قبل النبوة, أن يكون كل نبي كذلك, كما عرف من حال نبينا صلى الله عليه وسلم. وفضائله لا تناقض ما روي من أخبار غيره, إذا كان كذلك, ولا يمتنع كونه نبيا, لأن الله تعالى فضل بعض النبيين على بعض كما فضلهم بالشرائع والكتب والأمم. وهذا أصل يجب اعتباره وقد أخبر الله أن لوطا كان من أمة إبراهيم, وممن آمن له وأن الله أرسله. والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم يكون أكمل وأعظم ممن كان من قوم لا يعرفونه, فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى, ومن جهة تأييده بالنصر والقهر. قلت: وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل, وعدم الاحتياج إلى التكليف في الجواب عن مثل آية إبراهيم ونحوها, وإن قصارى ما يقال في مثل قوله تعالى لنبينا:
(وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) وقوله: ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ ) هو عدم العلم بما جاء به من النبوة والرسالة, وتفاصيل ما تضمن ذلك من الأحكام الشرعية والأصول الإيمانية. وهذا غاية ما تيسر لنا في هذا المقام الضنك الذي أحجم عنه فحول الرجال, وأهل الفضائل والكمال, ونستغفر الله من التجاسر والوثوب على الكلام في مثل هذا المبحث الذي زلت فيه أقدام, وضلت فيه أفهام واضطربت فيه أقوال الأئمة الأعلام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.)أهـ بتصرف يسير
__________________
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ الشبع ، إن القوم لما شبعت بطونهم ، جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا .
رقم القيد : 182
|