• وأمَّا قول السائل: «إنه يرى الأخذَ بالأيسر من فتاوى أهل العلم مثل فتاوى القرضاوي التي تسهِّل على الناس، بخلاف فتاوى الألباني فإنها متشدِّدةٌ، وفِقْهُه واقفٌ على ظواهر النصوص دون اعتبار المقاصد العامَّة للتشريع والقواعد العامَّة لهذا الدين، وقال في الشيخ الألباني بأنه محدِّثٌ فقط وليس بفقيهٍ، وأنَّ فيه ظاهريةً لأنه لا يرى الأخذَ بالإجماع السكوتيِّ، وغير ذلك من المسائل التي وافق فيها مذهبَ أهل الظاهر، أمَّا أتباعه فيصفون الألبانيَّ بالأعجمي الذي لا يفهم كلامَ العرب»، اه.
فالجواب:
أنَّ الذي ينبغي أن يُعلم أنَّ الأحكام التكليفية، سواءً كانت تحريمًا أو إيجابًا أو ندبًا أو كراهةً مبنيَّةٌ على التكليف بما يطاق فعلُه وتركُه، وهذا مبنيٌّ على التخفيف والتيسير من ناحيةِ أنَّ الله تعالى رفع عنَّا الأغلال التي كانت على من قبلنا، كما أنَّ هذه الأحكامَ -من منظور رفع الحرج- شُرعت تخفيفًا وتيسيرًا على ذي الحاجة والمضطرِّ، ولهذا كانت الشريعة بأحكامها من حرامٍ وحلالٍ مبنيَّةً على التيسير ورفع الحرج عن العباد والتخفيف عنهم، لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحجّ: 78]، ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: 28].
ومِن رفع الحرج في الشريعة رخصةُ القَصْر في السفر، والإفطار في رمضان للمريض، والإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، وصلاة العاجز عن القيام قاعدًا، وإباحة المحظور للضرورة كما في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: 119]، أمَّا الاستظهار بحديث: «مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا»(31)، فإنما يصحُّ فيما إذا كانا جائزين أو حلالين، ولا تخيير بالأيسر إذا كان أحدهما حرامًا والآخَر حلالاً، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا»، فإنه يرتَّب الإثم على الحرام فلا تخيير. ذلك لأنَّ المعلوم في باب الترجيح من جهة المدلول أو الحكم أنه «يُقَدَّمُ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالحَظْرِ عَلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الإِبَاحَةِ»، وهو ما عليه جماهير أهل العلم، والتحريم يدلُّ على التشديد، وكذلك يُقدَّم الواجب على المندوب وهو أثقل منه، ويُقدَّم الواجب على المكروه وعلى المباح وهو الأثقل، ويُقدَّم التحريم على الواجب، وهو أثقل منه وأغلظ. لكنَّ هذا التشديد والإثقال لا يخرج عن كونه مبنيًّا على التخفيف والتيسير لأنه تكليفٌ يدخل في الطاقة والوسع في الفعل والترك.
- أمَّا اتِّهام الشيخ الألباني -رحمه الله- ووصفُه بالظاهري؛ فإنه معلومٌ من كتاباته ومؤلَّفاته وترجيحاته أنها تدلُّ دلالةً واضحةً على ضعف هذا القول وتفاهته، فإنه لا يخفى أنَّ الظاهرية قد شذَّت في مسائلَ خالفت عمومَ أهل العلم فيها ولا سلف لهم فيها، كمسألة التغوُّط والتبوُّل في الماء الراكد، وخالفوا الجمهورَ في مسائلَ ليس لهم فيها سلفٌ من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو من الأئمَّة المعتبَرين. وهذا القسم الثاني لو اجتهد أهل النظر، وانتهى اجتهادهم إلى ما يوجب مخالفةَ الجمهور فيما ذهبوا إليه مع عدم الشذوذ عن أقوال المجموع، ولا الجمود على النصِّ؛ لَما كان صاحب النظر فيها ظاهريًّا ولو وافق أهلَ الظاهر في بعض المسائل، بل يكون مجتهدًا مطلقًا غير منتسبٍ للمذاهب المتبوعة، لأنه إنما أخذ بالدليل، وأخذ من حيث أخذ الأئمَّة المجتهدون(32).
هذا؛ وقد وردت مسائلُ كثيرةٌ خالف فيها الألبانيُّ ابنَ حزمٍ الظاهريَّ، منها: مسألة «الفخذ عورةٌ»، وقد صرَّح الألباني بمخالفته لابن حزمٍ، قال: «خلافًا لِما قعقع حوله ابن حزمٍ»(33).
كما خالفه في مسألة اشتراط المسجد الجامع في الاعتكاف، وفي مسألة الثوب الواسع في الصلاة، وفي مسألة رضاع الكبير، وفي حكم العزل، وفي حكم الاستمناء، وفي مسألة خدمة المرأة زوجَها في بيتها، ووطء الحائض عامدًا أو جاهلاً، وفي مسألة الاستماع إلى آلات الطرب والمعازف، فكيف أنَّ ابن حزمٍ استحلَّ الغناءَ وسماع الآلات وحرَّمه الألباني ؟ وكيف أجاز ابن حزمٍ الطلاقَ الثلاث وقال بوقوعه ثلاثًا ولو كان بكلمةٍ واحدةٍ وحرَّم المرأة على المطلِّق، ولم يَقُلِ الألباني بوقوعها ثلاثًا ؟ فهذه تهمةٌ زائفةٌ لا أساس لها ولا قيمة.
ثمَّ إنَّ الظاهرية ينكرون القياسَ مطلقًا، ولم يصحَّ ذلك عن الألباني، والظاهرية أُخذ عليهم جمودُهم على ظواهر النصوص الشرعية، والألباني -رحمه الله- لم يكن كذلك، بل هي تهمةٌ لا وَزْن لها، إذ المعلوم أنه كان يسلك مذهب أهل العلم في معرفة دلالات النصوص، إمَّا عن طريق جمع الأحاديث والأخبار، والتثبُّت من صحَّة الزيادات المفسِّرة لها في بعض الطرق، ثمَّ إقامة الحجَّة بما يثبت حالَ الاستدلال، وإمَّا عن طريق إظهار المعنى من وجوه دلالات النصوص بالاعتماد على فهم السلف الصالح للمعنى المراد من جملة المعاني، وهذه لا شكَّ مخالِفةٌ تمامًا لمذهب أهل الظاهر، وإمَّا بإعمال ظاهر النصِّ إذا كان معناه بعيدًا وتعذَّر وجود الصارف، وهي طريقة أهل التحقيق كالشافعيِّ وابن القيِّم وابن دقيقٍ وغيرهم، يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: «فالواجب حملُ كلام الله تعالى ورسوله، وحملُ كلام المكلَّف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يُقصد من اللفظ عند التخاطب، ولا يتمُّ التفهيم والفهم إلاَّ بذلك، ومدَّعي غير ذلك على المتكلِّم القاصد للبيان والتفهيم كاذبٌ عليه»(34)، وعليه فإنَّ البقاء على ظواهر النصوص من غير جمودٍ في اتِّباع اللفظ والتقيُّدِ بحرفيَّته وإغفالِ ما ينطوي عليه من معنًى، ومن غير ابتعادٍ عن ظاهر النصوص إلى معنًى بعيدٍ هو ما يقتضيه التحقيقُ ويستوجبه العمل، وضمن هذا المنظور يقول ابن دقيقٍ العيد -رحمه الله تعالى-: «واعلم أنَّ أكثر هذه الأحكام قد تدور بين اعتبار المعنى واتِّباع اللفظ، ولكن ينبغي أن يُنظر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورًا كثيرًا فلا بأس باتِّباعه وتخصيص النصِّ به أو تعميمه على قواعد القياسيِّين، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهورًا قويًّا فاتِّباع اللفظ أَوْلى»(35).
ولا شكَّ أنَّ هذه المسالك في الإمرار على الظاهر هو ما جرى عليه السلف الصالح، لا سيَّما في أبواب الاعتقاد والأسماء والصفات، قال الشافعي -رحمه الله-: «فكلُّ كلامٍ كان عامًّا ظاهرًا في سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهو على ظهوره وعمومه حتَّى يُعلم حديثٌ ثابتٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم -بأبي هو وأمِّي- يدلُّ على أنه إنما أريد بالجملة العامَّة في الظاهر بعضُ الجملة دون بعضٍ»(36)، والمعروفُ عن الشيخ الألباني -رحمه الله- أنه كان يدعو إلى الدليل الصحيح، وفقهِ الدليل الصحيح. وكان فعلاً محدِّثًا فقيهًا، تشهد له مؤلَّفاته الحديثية والفقهية وفتاويه الغنيَّة بالمسائل الحديثية والفقهية والمنهجية المبنيَّة على مقاصد الشريعة وقواعدها، وهذا ممَّا يدلُّ على فقهه -رحمه الله- وعلمه بأحوال زمانه.
وأمَّا القول بأعجميَّته فهو ليس بدعًا من أولئك الأعاجم حَمَلَة السُّنَّة والإسلام الذين نالوا المنزلةَ العظيمة بالاجتهاد والصبر وكمال اليقين، إذ «بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين» لا بكونه عربيًّا أو أعجميًّا، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، ومن أمثال الأعاجم الذين جعل الله عمادَ الناس عليهم في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا: الإمام محمَّد بن إسماعيل البخاري، والإمام مسلم بن الحجَّاج النيسابوري، وكثيرٌ من أهل الحديث كالنسائي والترمذي والحاكم النيسابوري وغيرهم كثيرٌ، الذين كانوا أعاجم نشروا السنَّةَ والإسلام، وهم باقون ما بقي الدهر، «أعيانهم مفقودةٌ، وآثارهم في القلوب موجودةٌ» كما أُثر ذلك عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه منقول من موقع الشيخ فركوس حفظه الله
http://www.ferkous.com/site/rep/M76.php