تنبيه على خطأ عقدي وقع في كلام عبدالعزيز سير المباركي أصلحه الله حول إنزال القرآن الكريم إلى بيت العزة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد اطلعت على كلام لعبدالعزيز سير المباركي حول إنزال القرآن الكريم، يقول فيه: "بالنسبة للقرآن فإنه قد سبق في علم الله أنه سيتكلم به قبل خلق السموات والأرض ، وقبله التورة والإنجيل وكل الكتب السماوية ، ولذلك احتج الإمام أحمد على المعتصم ومن معه من المعتزلة بعلم الله ، فقال لهم : القرآن من علم الله ، واستشهد بقوله :{قل أنزله بعلمه}.
ثم لما بعث نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - تكلم به تعالى جملة واحدة وأنزله كذلك في ليلة القدر إلى سماء الدنيا كما قال تعالى : {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} ، ثم أنزل آحاده منجمًا بحسب الوقائع وما تقتضيه حكمته في أحوال العباد وما يصلح لهم في وقته من الأحكام ، والرسول صلى الله عليه وسلم - يسمعه حال إنزاله عليه بواسطة جبريل - عليه السلام - وبصوته كما قال تعالى :{إنه لقول رسول كريم} فإضافته إلى جبريل هنا إضافة تأدية وبلاغ ، كما أن جبريل سمعه من ربه تعالى :{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} والله أعلم"
التعليق
الكلام المذكور فيه حق وباطل، ومعظمه حق، لكن الباطل فيه قوله: "ثم لما بعث نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - تكلم به تعالى جملة واحدة وأنزله كذلك في ليلة القدر إلى سماء الدنيا"
فهذا الكلام باطل، مخالف للكتاب والسنة وما عليه أهل السنة.
فالقرآن تكلم الله به منجما مفرقاً حسب الوقائع، وكان جبريل عليه السلام يسمعه من الله، ثم يأتي جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فيسمعه ما سمعه من الله من القرآن.
ولم يدل دليل على أن الله عز وجل تكلم بالقرآن جملة واحدة، لا ليلة القدر، ولا لما خلق القلم وقال له اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
الله عز وجل كلامه قديم النوع، حادث -أي متجدد- الآحاد، وهو سبحانه يتكلم في الأزل وإلى الأبد كلاما لا أول له ولا آخر له، وهو يتكلم دائما وأبدا، وكلامه كله حق، وكلامه بحرف وصوت سبحانه جل في علاه.
والقرآن الكريم من كلام الله عز وجل.
والله عز وجل أمر القلم بكتابة ما يكون من أفعال الله عز وجل وكلامه، وما يكون في خلقه إلى قيام الساعة، ومما كتبه الله في اللوح المحفوظ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن الكريم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل (ص/41-43) :
وقال: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال ابن عباس: "في اللوح المحفوظ المقري عندنا" قال مقاتل: "أن نسخته في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ وأم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله" والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وقد دل القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله فكتب في اللوح أفعاله وكلامه" إلى أن قال: " فالرب سبحانه كتب ما يقوله وما يفعله وما يكون بقوله وفعله وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها" كما في الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي". انتهى.
واختصت ليلة القدر بأمور تتعلق بالقرآن منها أمران هامان:
الأول: أن الله عز وجل تكلم بأول شيء من القرآن أنزله وهو فاتحة سورة العلق، وأسمعه جبريل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء.
فهذا أول ما نزل من القرآن وكان ذلك ليلة القدر.
الثاني: أن الله عز وجل أنزل نسخة كاملة مكتوبة من القرآن الكريم إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
فهذه نسخة مكتوبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (12/ 126-127) :
"فإن كونه مكتوبًا في اللوح المحفوظ، وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة، لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبًا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر، فقد كتبه كله قبل أن ينزله."
تنبه إلى قوله: "وإذا كان قد أنزله مكتوبًا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر".
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في معارج القبول بشرح سلم الوصول (3/ 1113) : "وقد جمع الله للقرآن الصفتين معا: ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث".
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في شرح الطحاوية : "والثانية في الكتابة ما هو موجود في بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا على القول بصحة أثر ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك.
- والثالث المكتوب في المصاحف التي بين أيدي المسلمين.
هذه ثلاثة كتابات، والكتابة ليست تكليما وإنما هي كتابة.
وحيثما وجد في اللوح المحفوظ أو في بيت العزة أو في المصاحف كله كلام الله - عز وجل - ينسب إلى الله - عز وجل - أو يضاف إلى الله - عز وجل - إضافة صفة إلى موصوف".
فتبين مما سبق أن ما زعمه المباركي أن الله تكلم بالقرآن الكريم كاملا جملة واحدة ليلة القدر من الأخطاء ومما خالف فيه أهل العلم .
فأنصحه بالتراجع، وأن يقول بقول أهل السنة، وأن يحذر من مخالفة العقيدة السلفية.
كما أنبهه على خلل في عبارته في قوله: "بالنسبة للقرآن فإنه قد سبق في علم الله أنه سيتكلم به قبل خلق السموات والأرض"
فمع حسن ظننا بهذا المباركي في كلامه هذا بأن القَبلية هنا معلقة بالعلم لا بكلام الله بالقرآن أي أنه لم يقصد أن الله تكلم بالقرآن قبل خلق السموات والأرض، وإنما قصد أن الله عز وجل علم أنه سيتكلم بالقرآن من قبل أن يخلق السموات.
ومع ذلك فربط العلم بقبلية خلق السموات والأرض محل نظر، لأن المربوط بالقبلية هنا هو الكتابة في اللوح المحفوظ، فقد أمر الله القلم بكتابة ما سيكون، وكانت هذه الكتابة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أما علم الله عز وجل بأنه سيتكلم بالقرآن وبما سيكون، فهو أزلي.
فالله عز وجل لا يوصف بأنه علم ما سيكون قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، بل علم ما سيكون علما أزلياً .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
كتبه:
د. أسامة بن عطايا العتيبي
18/ 7/ 1439 هـ