متى نشأت اللغة العربية، وهل كان أبو العرب العاربة ممن ركب سفينة نوح عليه السلام؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
ففي هذا المقال أذكر عدة أمور مفيدة حول اللغة العربية:
أولاً: أن المراد باللغة في مقالي: اللسان الذي يتخاطب به، أو الكلام: وهو أصوات مركبة من أحرف لتوضيح مراد المتكلم.
ثانياً: أن اختلاف اللغات والألسن من آيات الله الباهرة.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]
ثالثاً: أن الله عز وجل يعلم جميع اللغات، وأن كل علم في هذه الوجود فمستمد من علمه سبحانه وتعالى، ولا يعزب عن علمه شيء، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
وقد تكلم الله عز وجل مع الملائكة، ومع آدم عليه السلام، وكلم أرواح ذرية آدم لما كانوا في عالم الذر، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } [الأعراف: 172، 173].
وكلم موسى عليه السلام عند جبل طور سيناء، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء، وكلم من شاء من خلقه بلغتهم التي يفهمونها.
وأنزل الله سبحانه صحف إبراهيم باللغة التي يفهمها إبراهيم عليه السلام، وأنزل التوراة بالعبرية، والإنجيل بالسريانية أو العبرية على خلاف بين العلماء، والقرآن الكريم بالعربية، وجميع تلك الكتب تكلم الله بها بتلك اللغات.
فنعلم قطعا أن كل كتاب أنزله الله عز وجل بلغة من اللغات قد تكلم الله بتلك اللغة، وكلامه سبحانه بحرف متكلم به(أي: منطوق)، وصوت مسموع.
رابعاً: أن الله عز وجل أرسل الرسل عليهم السلام باللغات التي يتكلم بها أقوامهم.
قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [إبراهيم: 4].
فآدم عليه السلام تكلم باللغة التي كان يفهمها بنوه وزوجته حواء، وكذلك كل نبي فإنه بلغة قومه، وآخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم لغته العربية، حتى أن عيسى عليه السلام لما ينزل في آخر الزمان يتكلم باللغة العربية كما في ظاهر النصوص، مع أنه كان يتكلم بلغة قومه السريانية أو العبرية لما كان بين أظهرهم قبل أن يرفع إلى السماء.
خامساً: أن اللوح المحفوظ مشتمل على جميع لغات الخلق، لأن الله عز وجل خلق القلم قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، ومما يكون: كلام الناس بعضهم لبعض بجميع لغاتهم، وكذلك ما أنزله الله عز وجل من كتب سماوية.
سادساً: أن اللغة العربية أشرف اللغات لكونها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، الذي هو أعظم وأفضل كتب الله عز وجل، والذي هو معجز بلفظه، متعبد بتلاوته، وهي لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خير خلق الله، وخاتم الأنبياء والمرسلين، ولغة أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خاتمة الأمم، وخير الأمم { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الآية [آل عمران: 110].
سابعاً: الملائكة يتكلمون بلغات عديدة، ولا أعلم هل لهم لغة خاصة؟ أو أنهم يتكلمون بعدة لغات كما عند بني آدم، ولكنهم قطعاً يتكلمون بلغة مفهومة لهم، وكذلك عندهم أو عند بعضهم معرفة بلغات أهل الأرض، فالملائكة الكتبة يكتبون أقوال الإنس والجن بلغاتهم، ويفهمونها، ومن الملائكة: الملائكة السياحون الذين يلتمسون مجالس الذكر، ويفهمون ما فيها، ويبلغون ربهم سؤال الجالسين واستعاذتهم، مهما كانت لغاتهم، وكذلك المنكر والنكير يسألان العباد في القبور بلغة يفهمونها، وجبريل عليه السلام يفهم لغة كل نبي أرسله الله إليه، وهذا بتعليم الله عز وجل له.
ثامناً: الجن حالهم كحال بني آدم يتكلمون بلغات شتى، وأن قبائل الجن التي تعيش بين العرب تعرف العربية، والتي بين العجم تعرف لغات العجم الذين يعيشون عندهم، ويظهر أن كل شيطان موكل بآدمي فإنه يعرف لغته، وقد يعرف اللغات الأخرى التي يحسنها ليستطيع الدخول عليه منها.
تاسعاً: ما هي لغة آدم عليه السلام؟ وما هي لغة الناس يوم القيامة؟ وما هي لغة أهل الجنة وأهل النار؟
كل هذه الأمور لم يدل عليها دليل صحيح.
ولكن الأشهر أن لغة آدم عليه السلام كانت العربية أو السريانية، وكذلك الأشهر أن لغتهم يوم القيامة العربية أو السريانية، وهذا لا يصح فيه دليل صريح.
وقيل: إن لغة أهل الجنة العربية، ولغة أهل النار البخارية!! وهذا ورد فيه حديث مكذوب، وهو كلام باطل.
أما كون لغة أهل الجنة العربية فقد ورد فيه حديث عن أنس رضي الله عنه رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة، وفيه داود بن الجراح ضعيف، وهارون بن رياب لم يسمع من أنس رضي الله عنه، ووردت أحاديث أخرى في ذلك مدارها على المتروكين، وأصح ما ورد في الباب من قول الزهري رحمه الله.
عاشراً: متى تعددت لغات بني آدم؟ وبيان أن جُرْهم هو أبو العرب.
يذكر أهل التاريخ أن تعدد اللغات كان في زمن آدم عليه السلام في أولاده، وكذلك ذكروا أن تبلبل الألسنة حصل في بابل لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، ولكني لم أجد ما يدل على صحة هذا.
لكني وجدت أثرين صحيحين عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم فيه ذكر المكان الذي حصل فيه تعدد اللغات، وفي أثر ابن عباس رضي الله عنهما زمن حصوله وأنه في زمن نوح عليه السلام بعد نجاته هو ومن معه في السفينة، ففتق الله ألسنة أبنائه وأحفاده الذين معه باللغات الجديدة، ومنها اللغة العربية.
أ- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إنكم بحيث تبلبلت الألسن بين بابل والحيرة. وإن تسعة أعشار الخير بالشام وعشرا بغيرها. وإن تسعة أعشار الشر بغيرها وعشر الشر بها، وسيأتي عليكم زمان يكون أحب مال الرجل فيه أحمرة ينتقل عليها إلى الشام». رواه الفسوي في المعرفة والتاريخ، والحاكم في المستدرك، وابن عساكر في تاريخ دمشق وسنده صحيح. كما قال الشيخ الألباني رحمه الله.
ففي هذا الأثر أن تبلبل الألسنة كان بين بابل والحيرة، ولم يذكر زمن نوح عليه السلام، ولا غيره.
ب- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم، وأنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما، وأن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما، ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه،
فبعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فذهب فوقع على الجيف، فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، ولطخت رجلها بالطين، فعرف نوح أن الماء قد نضب.
فهبط إلى أسفل الجودي فبنى قرية وسماها ثمانين، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة أحدها اللسان العربي، فكان لا يفقه بعضهم كلام بعض وكان نوح عليه السلام يعبر عنهم». رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، والأزرقي في أخبار مكة، والواحدي في الوسيط، وابن عساكر في تاريخ دمشق بسند صحيح.
ففي هذا الأثر أن تبلبل الألسن كان في زمن نوح عليه السلام، وأنه كان في قرية «ثمانين» في دولة تركيا حالياً، أسفل جبل الجودي.
والجمع بين الأثرين أن يقال: أثر ابن عباس رضي الله عنه يتعلق بالتبلبل الأول الذي حصل في بني آدم، وأن الذي في أثر ابن مسعود رضي الله عنه تبلبل ثانٍ لعله هو الذي حصل في زمن إبراهيم عليه السلام.
وليعلم أن الذين آمنوا مع نوح عليه السلام، وركبوا معه في السفينة، وبقي لهم نسل هم ذريته من أبنائه «سام، وحام، ويافث»، ومما اختص به نوح عليه السلام ما جاء في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77]
ومما يدل على كون «جُرْهم» هو أبو العرب:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان في سفينة نوح ثمانون رجلا أحدهم جُرْهُم». رواه ابن جرير في تاريخه وتفسيره، وابن أبي حاتم، وغيرهما وسنده صحيح.
وقال بريدة بن الحصيب رضي الله عنه في قوله تعالى:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، «بِلِسَانِ جُرْهُمٍ» رواه الحاكم والبهقي في شعب الإيمان وغيرهما وسنده صحيح.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ». والغلام المراد به هنا هو إسماعيل عليه السلام.
فهذا يؤكد أن إسماعيل عليه السلام تعلم العربية من قبيلة جرهم العربية، وأن جرهم هو أبو العرب، وذكر ابن هشام جرهم فقال: وجرهم بن قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.
فجرهم كان مع نوح في السفية ونوح هو الجد الخامس لجرهم، وذلك أنه كان قد عُمّر طويلاً، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.
فتبين بما سبق أن تبلبل اللغات كان في زمن نوح عليه السلام بعد رسو السفينة على جبل الجودي، وأن جرهم هو أبو العرب،وأنه كان من ضمن عائلة نوح عليه السلام الذين نجوا، وآمنوا معه، ففيه أن جرهماً كان مؤمناً موحداً، رحمه الله.
وهذا فيه إشارة إلى أن اللغة العربية متفرعة من لغة سابقة كان يتحدث بها نوح وآباؤه من قبله، وكذلك بنوه قبل تبلبل ألسنتهم، وأن هذه اللغة لغة جامعة، لتفرع هذه اللغات الثمانين عنها.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
كتبه:
د. أسامة بن عطايا العتيبي
6/ 7/ 1439 هـ