فَصْلٌ: الْحُبُّ الَّذِي َلا يُنْكَرُ وََلا يُذَمُّ
فَهَذَا الْحُبُّ َلا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ ، بَلْ هُوَ َأحَدُ َأنْوَاعِ الْحُبِّ ، وَ َ كَذَلِكَ حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِنَّمَا نَعْنِي الْمَحَبَّة الْخَاصَّة ، الَّتِي تَشْغَلُ َقلْبَ الْمُحِبِّ وَفِكْرَهُ وَذِكْرَهُ ِبمَحْبُوِبهِ ، وَإِلَّا فَكُلُّ مُسْلِمٍ فِي َقلْبهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، َلا يَدْخُلُ ِالإسلام ِإلَّا بِهَا ، وَالنَّاسُ مُتَفاوِتُونَ فِي دَرَجَاتِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ تَفاوُتًا َلا يُحْصِيهِ ِإلَّا اللَّهُ ، َفبَيْنَ مَحَبَّةِ الْخَلِيَليْنِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِمَا مَا بَيْنَهُمَا ، َفهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُلطِّفُ وَتُخَفِّفُ َأثْقالَ التَّكَالِيفِ ،وَتُسَخِّي الْبَخِيَلَ ، وَتُشَجِّعُ الْجَبَانَ ، وَتُصَفِّي الذِّهْنَ ، وَتُرَوِّضُ النَّفْسَ ، وَتُطيِّبُ الْحَيَاَةَ عَلى الْحَقِيَقةِ ، َلا مَحَبَّة الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَإِذَا بُلِيَتِ السَّرَائِرُ يَوْمَ اللِّقاءِ ، وَ َ كانَتْ سَرِيرَةُ صَاحِبِهَا مِنْ خَيْرِ سَرَائِرِ الْعِبَادِ ، َ كمَا قِيَلَ :سَيَبْقَى َلكُمْ فِي مُضْمَرِ الْقلْبِ وَالْحَشَا سَرِيرَةُ حُبٍّ يَوْمَ تُبْلى السَّرَائِرُ
وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُنَوِّرُ الْوَجْهَ ، وَتَشْرَحُ الصَّدْرَ ، وَتُحْيي الْقلْبَ ، وَ َ كَذلِكَ مَحَبَّةُ َ كَلاِم اللَّهِ ، َفِإنَّهُ مِنْ عَلامَةِ حُبِّ اللَّهِ ، وَإِذَا َأرَدْتَ َأنْ تَعْلمَ مَا عِنْدَكَ وَعِنْدَ َ غيْرِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ، َفانْظُرْ مَحَبَّة اْلُقرْآنِ مِنْ َقلْبكَ ، وَالْتِذَاذَكَ ِبسَمَاعِهِ َأعْظَمَ مِنَ الْتِذَاذِ َأصْحَابِ الْمَلاهِي وَالْغَنَاءِ الْمُطْربِ ِبسَمَاعِهِمْ ، َفِإنَّ مِنَ الْمَعْلوِم َأنَّ مَنْ َأحَبَّ مَحْبُوبًا كانَ كَلَامُهُ وَحَدِيُثهُ َأحَبَّ شَيْءٍ ِإَليْهِ َ كمَا قِيلَ: ص: 236 ِإنْ كنْتَ تَزْعُمُ حُبِّي َفلِمَ هَجَرْتَ كِتَاِبي ؟ َأمَا تَأمَّلْتَ مَا فِيهِ مِنْ َلذِيذ خِطَاِبي
وَقالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : َلوْ َ طهُرَتْ ُقُلوبُنَا َلمَا شَبعَتْ مِنْ َ كَلاِم اللَّهِ ، وَ َ كيْفَ يَشْبَعُ الْمُحِبُّ مِنْ َ كَلاِم مَحْبُوِبهِ وَهُوَ غَايَةُ مَطْلوِبهِ ؟ وَقالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : اْقرَأ عَليَّ ، َفَقالَ : َأقْرَأُ عَليْكَ وَعَليْكَ أُنْزِلَ ؟ َفَقالَ : ِإنِّي ُأحِبُّ َأنْ َأسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ، َفاسْتَفْتَحَ سُورَة النِّسَاءِ ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ َقوْلهُ : َفكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ِبشَهِيدٍ وَجِئْنَا ِبكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 41 ] ، َقالَ : حَسْبُكَ الْآنَ ، َفرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ - تَذْرَفانِ مِنَ الْبُكَاءِ .
وَ َ كانَ الصَّحَابَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا وَفِيهِمْ أَبُو مُوسَى يَقُوُلونَ : يَا َأبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا ، َفيَقْرَأُ ، وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ ،َفلِمُحِبِّي الْقرْآنِ - مِنَ الْوَجْدِ ، وَالذَّوْقِ ، وَاللَّذَّةِ ، وَالْحَلاوَةِ ، وَالسُّرُورِ - َأضْعَافُ مَا لِمُحِبِّي السَّمَاعِ الشَّيْطَاِنيِّ ، فَإِذَا رَأيْتَ الرَّجُلَ ، َ ذوْقهُ ، وَوَجْدَهُ ، وَطَرَبَهُ ، وَتَشَوُّقهُ ِإَلى سَمَاعِ اْلَأبْيَاتِ دُونَ سَمَاعِ الْآيَاتِ ، وَسَمَاِعِ اْلَأْلحَانِ دُونَ سَمَاعِ الْقرْآنِ ، َ كمَا قِيِلَ :
تُقْرَأُ عَليْكَ الْخَتْمَةُ وَأنْتَ جَامِدٌ َ كالْحَجَرِ ، وَبَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ يُنْشَدُ تَمِيلُ َ كالسَّكْرَانِ .
فَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأدِلَّةِ عَلى َفرَاغِ َقلْبهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَ َ كَلامِهِ ، وَتَعَلُّقِهِ ِبمَحَبَّةِ سَمَاعِ الشَّيْطَانِ ، وَاْلمَغْرُورُ يَعْتَقِدُ َأنَّهُ عَلى شَيْءٍ .
ففِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَ َ كَلاِم رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ - َأضْعَافُ َأضْعَافِ مَا ذَكَرَ السَّائِلُ مِنْ َفوَائِدِ الْعِشْقِ وَمَنَافِعِهِ ، بَلْ ءلا حُبَّ عَلى الْحَقِيَقةِ َأنْفعَ مِنْهُ ، وَكُلُّ حُبٍّ سِوَى َ ذلِكَ بَاطِلٌ ِإنْ لمْ يُعِنْ عَليْهِ وَيَسُقِ الْمُحِبَّ ِإَليْهِ .
الكتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَل عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية