قلت : أقل ما يُقال أن الشيخ الألباني رحمه الله يميل إلى كفر تارك الصلاة تركا كليا ، إن لم يكن يقطع بكفره كما نسب إليه ذلك المذهب الشيخ الفاضل محمد بازمول حفظه الله في كتابه " شرح صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" فليراجعه من شاء.
فإذا كان الشيخ الألباني رحمه الله يكفر تارك الصلاة تركا كليا أو يميل إلى كفر تارك الصلاة - كما هو واضح من تعليقه على كلام سفر - إذا تركها ( تركا كليّا ) - أي حافظ على تركها وأصرّ على تركها فلا يُصلّي صلاة واحدة ! ولا ركعة واحدة طيلة حياته ! - , ويُعلل ذلك بأن تركه لها - على هذا التفصيل - يعتبر دليلا على العناد والاستكبار المضاد لعمل القلب , أفلا يقول بكفر من ترك العمل كله ( تركا كليا ) !!؟؟
الله أكبر !
فهل من يقول هذا الكلام ويقرر هذه التقريرات السنّية السلفية الخالصة , والتي تدك حصون المرجئة دكّا ؛ يُقال عليه أنه يقول بقول المُرجئة !!؟؟
أين أنت يا حمرة الخجل ؟؟!!
هذا وقد افترى البعض على الألباني بأنه لا يكفر أحدا بالأعمال لأن الكفر عنده بالاعتقاد فقط ! ، وهذه فرية حكايتها تغني عن ردها كما يعرف ذلك من تابع فتاوى الشيخ رحمه الله أدنى متابعة.
ولا مانع من أن أنقل شيئا من فتاوى الألباني رحمه الله , وفيها يظهر جليا أنه يكفر بعمل الجوارح إذا كانت كفرا , وأن من زعم أنه لا يكفر بالكفر العملي مطلقا ! , فقد افترى عليه ونسب إليه ما لم يخطر له على بال ! .
سُئل الشيخ الألباني رحمه الله : (( هل يخرج من الملة من سبّ الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم ؟ ))
فأجاب الشيخ الإمام الألباني رحمه الله قائلا : ((.. أما هل يخرج من ملة الإسلام من يسب الذات الإلهية ؟!! هذا بلا شك لا يحتاج إلى سؤال (!) فضلًا عن جواب؛ لأنه هو الكفر الذي ذرّ قرنه (!).)).اﻫ .
"الوجه الأول" من الشريط الثاني رقم (743) من "سلسلة الهدى والنور"
وسأله سائل آخر : (الذي يسب الله ورسوله، وينصح ويصر على ذلك, فما حكمه؟.
فأجاب رحمه الله : ( كافر ).اﻫ
في "الوجه الثاني" من الشريط رقم (634)من "سلسلة الهدى والنور"
وقال الألباني رحمه الله : ((ومن الأعمال أعمال قد يكفر بها صاحبها كفرًا اعتقاديًّا؛ لأنها تدل على كفره دلالة قطعية يقينيّة؛ بحيث يقوم فعله هذا منه مقام إعرابه بلسانه عن كفره، كمثل من يدوس المصحف مع علمه به، وقصده له.))اهـ.
التحذير من فتنة التكفير ص70
فمن نظر في هذه الفتاوى وقرأ وسمع سباق الكلام ولحاقه ؛ سيتأكد - لزاما - ومن أول وهلة , أن الشيخ الألباني رحمه الله ينقسم الكفر عنده إلى :
1- كفر اعتقادي : وهو الذي يضاد الإيمان من كل وجه , وهذا يكفّره الشيخ الألباني رحمه الله .
2- كفر عملي , وهو عند الشيخ على نوعين :
أ) نوع يضاد الإيمان , مثل سب الله وسب الرسول والاستهزاء بالشرع , والسجود للصنم.
ب) نوع لا يضاد الإيمان , مثل الزنا وقتال المسلم .
أما من زعم أن الشيخ الألباني رحمه الله لا يكفّر بكفر العمل مطلقا !! , فقد أعظم عليه الفرية , والله حسيبه.
وقد يقول قائل :
الشيخ الألباني رحمه الله قد وافق المرجئة الذين يقولون بأن الأعمال التي هي من الكفر الأكبر ليست كفرا ! , ولكن هي تدل على ما في القلب من كفر التكذيب والاستحلال !!
فأقول :
هذا صريح كلام الشيخ الألباني رحمه الله مفرغا من أحد الأشرطة :
((العنبري: إذن فهمتُ منكم الآن أنَّكم تقولون: إِنَّ الكفر يكون بالاعتقاد.
الألباني : نعم.
العنبري: ويكون أيضًا بالقول، ويكون أيضًا.
الألباني : بالعمل.
العنبري: بالعمل كمن استهزأ بآيات الله.
الألباني : بلى، نعم.
العنبري: ورسوله.
الألباني : لكن أقول من باب الإيضاح أنَّ هذا العمل يكون دالًّا على ما في القلب من الكفر، لماذا هذا العمل كان كفرًا؟. لأنَّه دلَّ على ما في القلب من الكفر؟.
العنبري: لا التكذيب.
الألباني : آه.
العنبري: هل الكفر هذا التكذيب أم لا؟.
الألباني : التكذيب شيء ثاني))هـ.
الشريط رقم (856) الوجه الثاني من سلسلة الهدى والنور
فها هو الشيخ يصرّح بلسانه أنه لا يقصد كفر التكذيب , وقالها بلسان عربي مبين.
أما قوله أن هذا العمل يكون دالا على ما في القلب , فهذا لا غبار عليه إطلاقا , لأنه أثبت الكفر ثم ذهب يعلله , أما المرجئة فينفون الكفر ثم يثبتون دليله ! , فانتبه للفرق بين الحالتين يا رعاك الله .
قال الشيخ علوي السقاف :
(وقد يشكل على البعض عبارات صدرت لبعض العلماء عللت التكفير بالتكذيب أو الإرادة أو أنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ففرق بين من يقول هذا العمل أو القول كفر لكذا وبين من يقول هذا ليس كفراً لكنه دليل أو علامة على الكفر فالأول يثبت الكفر ويعلله والآخر ينفي الكفر ويثبت دليله أو علامته ) اهـ
التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد صحيفة رقم 21 , وهو كتاب يثني عليه العلماء ثناء كبيرا بغض النظر عن منهج صاحبه.
قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله (أعلام السنة المنشورة ص151) : " اعلم أن هذه الأربعة - السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسب الرسول والهزل بالدين - وما شاكلها ليس هي من الكفر العملي إلا من جهة كونها واقعة بعمل الجوارح فيما يظهر للناس ولكنها لا تقع إلا مع ذهاب عمل القلب من نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده ، لا يبقى معها شيء من ذلك ، فهي وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولا بد .اهـ
وكلام العلامة حافظ حكمي لا يخرج عن كلام الألباني رحمه الله.
هذا ما عندي في بيان عقيدة الألباني رحمه الله في الإيمان من صريح أقواله وفتاواه ، وبينت بما لا يدع مجالا للشك أنه كان يدين الله أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وأن الإيمان عنده لا يفيد بدون عمل جوارح وأن عدم عمل الجوارح عنده دليل على عدم دخول الإيمان إلى القلب ، كما ظهر لك جليا أنه كان يرى أن الكفر يقع بالقول والإيمان والاعتقاد.
وهذا هو عين مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان لم يخالفهم فيه الشيخ الألباني والحمد لله رب العالمين.
أما ما قد يقع من الشيخ من الخطأ اللفظي أو العبارات الموهمة فهذا لا يبيح لأحد أن يطلق القول فيه بأنه وافق قول المرجئة !! أو قال بقولهم !! كما يفعل البعض هداهم الله تعالى وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا! ، والله المستعان.
المبحث الثاني
بيان مقصود العلماء المتأخرين والمعاصرين من لفظة ( تارك جنس العمل ) , أو قولهم ( تارك العمل بالكلية ) , ونقل إجماع السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان على كفر من ترك العمل بالكليّة
إن مذهب سلفنا الصالح في الإيمان وعلاقته بعمل الجوارح من الوضوح بمكان , ولكن لمّا كثُرت الفتن , ووسّد الأمر إلى غير أهله , وانتشر الجهل , وأشربت القلوب حب الخصام والجدل , حارت في هذه المسألة عقول , ولم تكتف بما هو عن السلف مشهور ومنقول , فإذا بها في بحار الهوى تصول وتجول .
ولا شك عند أهل السنة أن الإيمان هو :
قول باللسان , واعتقاد بالقلب , وعمل بالجوارح .
وأنه يزيد وينقص , يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية حتى لا يتبقى منه إلا ذرة ! , أو يزول بالكلية والعياذ بالله .
والعلاقة بين اعتقاد القلب وعمل الجوارح علاقة وثيقة , فإذا قوي الإيمان في القلب , كثرت الأعمال الصالحة من أعمال الجوارح , وإذا ضعُف إيمان القلب , قلّت الأعمال الصالحة من أعمال الجوارح .
وإذا زالت أعمال الجوارح بالكليّة , دل ذلك على زوال إيمان العبد من القلب بالكلية ولابد .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " تخلّف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوّه من الإيمان,ونقصه دليل نقصه ,وقوته دليل قوته." اهـ [الفوائد: 112[
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ما فى القلب مستلزم للعمل الظاهر. وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم" اهـ [الفتاوى 7\294[
قال الإمام الشافعى رحمه الله: " وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية, لا يجزيء واحد من الثلاث إلا بالآخر " اهـ
شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي 5/956
قال العلامة الآجري في كتابه العظيم "الشريعة" :
" ثم اعلموا : أنه لا تجزىء المعرفة بالقلب ، والتصديق ، إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً ، ولا تجزىء معرفة بالقلب ، ونطق باللسان ، حتى يكون عمل بالجوارح ، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث : كان مؤمناً , دل على ذلك الكتاب والسنة، وقول علماء المسلمين . "اهـ
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح ( 6/487 ) :
" وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان ، وبيَّنا أن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب لله ورسوله وتعظيم ، لابد أن يظهر على الجوارح وكذلك بالعكس؛ ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :} ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت ، صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } وكما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لمن رآه يعبث في الصلاة : } لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه { " اهـ رحمه الله
وهذا الذي قرّره هؤلاء الأئمة – من أنه لابد من عمل جوارح مع إيمان القلب - محلّ إجماع السلف الصالح قولا واحدا لا خلاف عليه .
فإذا كان في القلب ذرة من إيمان , يجب أن يظهر أثر هذا الإيمان الضعيف على أعمال الجوارح , مهما كان هذا العمل ضئيلا وصغيرا , ولكن لا بد أن يظهر شيئ , وإلا لم يكن في الباطن مؤمنا .
فاحفظ هذا يا أخا الإسلام , وعض عليه بالنواجز .
وهذا هو ما يقصده العلماء القائلين بأن تارك جنس العمل يكون كافرا ولا بد , وقولهم ( تارك جنس العمل ) أي ترك كل أعمال الجوارح الظاهرة بالكلية ! , فلا صام يوما من رمضان مرة في عمره قط ! , ولا صلّى ركعة واحدة لله مرة في عمره قط ! , ولا زكّى ولا تصدّق على فقير مرة واحدة في عمره قط ! , ولا حجّ مرة , ولا مدّ يده وقرأ صفحة من المصحف مرة قط ! , ولا دخل بيتا من بيوت الله مرة واحدة ليصلي قط !! , ولا أعان بيده ضعيفا لوجه الله مرة قط ! , ولا سقى كلبا شربة ماء لوجه الله مرة قط ! , ولا أماط الأذى عن الطريق لوجه الله مرة قط ! , ولا فعل أي شيئ يصحّ أن يُطلق عليه أنه عمل صالح مرة !! , نطق بالشهادتين فقط وبقي دهرا لم يعمل شيئا قط على التفصيل السابق ! , وشرب الخمر وزنا وسرق وركب المحرمات والفواحش بأنواعها , ثم يزعم أنه مسلم !
فهل يشك عاقل في كفر من كان هذا حاله ؟؟!
فهذا كافر منافق زنديق , قد أجمع السلف على كفره وخروجه من حظيرة الإسلام , قولا واحدا , إذ لا يفعل هذا من عنده أدنى أدنى حد للإيمان , كما صرّح بذلك الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في مقالته المشهورة " كلمة حق حول جنس العمل ", وهي منشورة على موقعه الرسمي.
وهذا هو عين ما قصده وقرّره الشيخ الألباني رحمه الله حين قال :
« إن الإيمان بدون عمل لا يفيد ؛ فالله –عز وجل- حينما يذكر الإيمان يذكره مقرونًا بالعمل الصالح ؛ لأننا لا نتصور إيمانًا بدون عمل صالح، إلا أن نتخيله خيالا ؛ آمن من هنا - قال: أشهد ألا إله إلا الله ومحمد رسول الله- ومات من هنا…
هذا نستطيع أن نتصوره ، لكن إنسان يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ ويعيش دهره – مما شاء الله - ولا يعمل صالحًا !! ؛ فعدم عمله الصالح هو دليل أنه يقولها بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه؛ فذكر الأعمال الصالحة بعد الإيمان ليدل على أن الإيمان النافع هو الذي يكون مقرونًا بالعمل الصالح , على كل حال: فنحن نفرق بين الإيمان الذي هو مقره القلب، وهو كما أفادنا هذا الحديث من عمل القلب، وبين الأعمال التي هي من أعمال الجوارح، فأعمال الجوارح ؛ هي أجزاء مكملة للإيمان ماهي أجزاء أصيلة من الإيمان، إنما كلما ازداد الإنسان عملًا صالحًا ؛ كلما قوي هذا الإيمان الذي مقره القلب…».اهـ
انظر شرحه على الأدب المفرد (الشريط السادس/الوجه الأول).
وقد زعم بعض من لا علم عنده , من الذين امتلأت قلوبهم حقدا وحسدا على هذا الإمام السلفي , أن هذا الكلام قديم ! , وأن الشيخ تغيّر اعتقاده في المسألة في آخر عمره !! , ولا شك أن هذه دعوى ينقضها الشيخ في كلامه القديم ! زعموا .
فها هو يقول ( فأعمال الجوارح ؛ هي أجزاء مكملة للإيمان ماهي أجزاء أصيلة من الإيمان، إنما كلما ازداد الإنسان عملًا صالحًا ؛ كلما قوي هذا الإيمان الذي مقره القلب .. )
وهذا هو عين ما يذكره الشيخ دائما , بل هو كلام مفسّر لبعض إطلاقاته الأخرى , وكلام العلماء يفسر بعضه بعضا .
وقد يقول قائل : أنت تنقل ما هو حجة عليك وعلى الشيخ الألباني رحمه الله !! , لأنه ذكر أن أعمال الجوارح ليست جزءا أصيلا من الإيمان , ولكن هي أجزاء (مكملة) للإيمان...!
فأقول :
لقد صرّح الشيخ رحمه الله قبل هذه الكلمة الموهمة بلحظات (!) أن الإيمان بدون عمل لا يُفيد , وقال أن هذا لا يُتصور إلا في الخيال (!) , بل صرّح أن ( عدم ) العمل الصالح دليل على أن الإيمان لم يدخل القلب !
فهل بعد هذا البيان من بيان ؟؟ , أليس كلامه هذا دليلا قاطعا على أنه لا يقصد نفي مطلق أعمال الجوارح (!!) , اللهم بلى .
وظهر من هذا التفصيل لكل منصف مُتجرد للحق مُحب لهذا الإمام بحق ! , أن الألباني يقصد آحاد وشُعب أعمال الجوارح وليس ( كل ) العمل , وإلا كان كلامه متناقضا ينقض أوله آخره ! , فتأمّل .
وجدير بالذكر أن الحكم على مسلم أنه لم يعمل شيئا من أعمال الجوارح قط على التفصيل السابق بيانه , هو مسألة خيالية - كما ذكر الألباني رحمه الله - وغير عملية ! ؛ لأنك لا تستطيع أن تحيط علما بما يفعله - أو لم يفعله الرجل ! - في خلواته وفلواته طيلة حياته (!) , وهذا الأمر لا يمكن لأحد إلا الله أن يحيط به علما.
إذا علمت هذا , وضح لك مقصود هؤلاء العلماء – ومنهم الألباني – الذين يطلقون القول بأن تارك العمل لا يكفر , أو تارك جنس العمل , أو أشباه هذه العبارات – كما سيأتي في المبحث الثالث إن شاء الله - , فإنهم إنما عَنوا بذلك تارك الصلاة والزكاة والحجّ وعامّة الفرائض , وتارك الصلاة عندهم لا يكفر كما هو قول الجمهور , وإلا فتارك الصلاة يكفر بتركها مطلقا عند القائلين بكفره ولو أتى بكل الأعمال الصالحة , ولا يلزم من ذلك أنهم – أي الألباني ومن وافقه - ينفون عنه كل الأعمال الصالحة مطلقا على التفصيل السابق !! , وكما ذكرت أن تارك العمل بهذه الصورة السالفة الذِكر لا يشك في كفره عاقل ! , فضلا عن عالم فاضل.
ويتبقى في هذا المبحث مسألة :
ما هو توجيه حديث الشفاعة المشهور وقد جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج أناسا من النار : " لم يعملوا خيرا قط " ويدخلهم الجنة , وفي رواية " فيقول أهل الجنة : هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه "
فكيف نجمع بين قوله " لم يعملوا خيرا قط " , وقوله " بغير عمل عملوه ولا خير قدّموه " , وبين إجماع السلف الصالح على كفر تارك العمل بالكليّة ؟؟!
الجواب : أن هذه الألفاظ خرجت مخرج الأكثر والغالب من حال هؤلاء , والذي ترك الصلاة والزكاة وعامّة الفرائض , هذا فاسق فاجر شديد الفسق ويُخشى عليه من الكفر وسوء الخاتمة , فلا عجب أن يُطلق الشارع الحكيم فيه القول بأنه لم يعمل خيرا قط , أي في غالب أحواله وأكثرها لم يعمل خيرا قط , مع تلبسه بجميع أنواع المعاصي والآثام وإصراره عليها طوال حياته ! حتى يموت , ولكن هذا النفي لا يلزم منه نفي جنس الأعمال الصالحة مطلقا ! , فلا تعارض بين هذا الحديث وأمثاله , وبين إجماع السلف الصالح على كفر تارك العمل بالكلية .
وهذا الذي قرّرته ليس غريبا على لغة العرب , وإطلاق التعميم – لغة وشرعا - لا يُراد به الكل دائما ، وإنما قد يراد به الغالب والأكثر أحيانا , كما هو معلوم .
وهذا حديث رواه الإمام النسائي رحمه الله :
من رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ قَالَ لَا , إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ "
صحّحه الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن النسائي .
يُستفاد من هذا الحديث أن قوله " لم يعمل خيرا قط " لا يستفاد منه نفي جميع الأعمال الصالحة عنه بالكلّية مطلقا ! , بدليل أن الرجل كان يتجاوز عن المعسر ويتصدق عليه , وهذا من أعظم القربات والأعمال الصالحة , ومع ذلك قيل فيه أنه " لم يعمل خيرا قط " , فاعرف هذا واحفظه فإنك قد لا تجده في مكان آخر .
وفيه أيضا بيان أن الرجل الفاسق مع فسقه الشديد , وتركه لأعمال الجوارح من صلاة وصيام وزكاة وغير ذلك , لابد أن يكون معه شيئ من عمل الجوارح وإن كان قليلا جدا لا يكاد يُذكر , ولكن لا بد منه طالما أن أصل الإيمان القلبي معه , وإن كان هو – أي الإيمان في قلبه - أيضا ضعيف جدا , لا يكاد يُذكر مثل عمله الظاهر تماما سواء بسواء , وهذا هو الذي قرره أئمة السلف والخلف , فما أحكمهم وأعلمهم ! , فتأمّل .
هذا وقد صرّح الكثير من العلماء المعاصرين أن تارك العمل بالكلية كافر خارج من الملة ومنهم :
1- الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله
2- الشيخ صالح بن الفوزان حفظه الله
3- الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي حفظه الله
4- الشيخ النجمي رحمه الله
5- الشيخ ابن باز رحمه الله
6- الشيخ العثيمين رحمه الله
7- الشيخ الراجحي حفظه الله
8- الشيخ عبيد الجابري حفظه الله
9- الشيخ محمد بن بازمول حفظه الله
10- الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله
11- الشيخ زيد المدخلي حفظه الله
12- الشيخ صالح السحيمي حفظه الله
13- الشيخ الغديان حفظه الله
14- الشيخ السدلان حفظه الله
15- هيئة كبار العلماء بالإجماع.
16- اللجنة الدائمة بالإجماع.
17- الشيخ الألباني رحمه الله ( كما بينته في هذا المقال ، وقوله في شرح الأدب المفرد " لم يدخل الإيمان إلى قلبه " واضح كالشمس )
كل هؤلاء العلماء صرّحوا بأن تارك العمل بالكلية كافر بإجماع السلف الصالح ، وصرّح إمام أهل السنة العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله أن تارك العمل بالكلية كافر بإجماع السلف الصالح ، حتى عند من يقولون بعدم كفر تارك الصلاة، وذكر رحمه الله أنهم يقولون بأنه لابد من العمل , وإنْ تَرَكه بالكلية كَفَر إجماعا.
المبحث الثالث
بيان مقصود الألباني رحمه الله من بعض إطلاقاته في هذا الباب وبيان أنها من الخطأ (اللفظي) لا (العقدي) , وذكر من سبقه إلى بعض هذه الإطلاقات من العلماء سلفا وخلفا , مع بيان أن لازم القول ليس بقول ما لم يلتزمه قائله
لا شك أن الشيخ الإمام الألباني رحمه الله بشر يصيب ويخطئ , ويخطئ ويصيب , ويؤخذ من قوله ويُترك , ولا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لذا فقد ورد في كلام الألباني رحمه الله وتقريراته عبارات وإطلاقات حمّالة أوجه , تحتمل الحق والباطل , وهو مسبوق إليها , ولكن بعد ظهور هذه الفتنة التي نعيشها تبيّن أن أدق العبارات وأصلحها هي عبارات السلف الصالح .
ومن ذلك قوله ( أن الأعمال شرط كمال في الإيمان )
وهذا خطأ لفظي بلا شك , والصواب أن يقال الأعمال جزء من الإيمان , أو يقال الإيمان قول وعمل , كما هو المأثور عن السلف الصالح , وهؤلاء العلماء يقولون بهذه العبارات السلفية , ولكن وددنا لو أنهم اقتصروا عليها دون غيرها من العبارات المحدثة.
أما قولنا أن العمل ( شرط كمال ) أو ( شرط صحة ) , فهذا خطأ محض لأننا بذلك أخرجنا العمل عن مسمّى الإيمان لفظا ، لأن الشرط خارج الماهية ، والركن داخل الماهية , كما قال العلامة الراجحي حفظه الله , ألا ترى أنك تقول الوضوء شرط صحة للصلاة , مع أن الوضوء ليس جزءا من الصلاة , ويستوي في ذلك قول بعض العلماء ( شرط صحة ) أو ( شرط كمال ) , والصواب والأولى والأكمل أن يقال : العمل ركن وجزء من الإيمان , كما هو مأثور عن السلف الصالح , فتنبّه .
نعم , بعض العلماء يذكرون الشرط بخلاف هذا المعنى , مثل قولهم : أن كذا وكذا من أعمال القلوب من شروط لا إلا إلا الله , ولا يقصدون بداهة أن هذه الأعمال خارج ماهية التوحيد ! , كما أفادني بذلك الشيخ أبو عمر العتيبي حفظه الله
ولكن أقول أن أسباب إنكار هؤلاء العلماء هذه اللفظة متعددة , منها أن هذه اللفظة تسببت في فتن كثيرة جدا بين الشباب , وقد يستغلها بعض الخوارج أو يستغلها بعض المرجئة ليدخلوا على الناس باطلهم ! , لذا فالصواب هو ما قرره العلامة الراجحي والعثيمين والسحيمي وغيرهم من الاقتصار على عبارات السلف التي هي أدق العبارات وأحكمها.
ولكن لا يُقال أن الألباني رحمه الله قد أخرج العمل من مسمّى الإيمان !! بقوله هذا ، وأيضا لا يقال أنه قد وافق قوله قول المرجئة !! , فإن لازم القول ليس بقول ما لم يلتزمه قائله – كما سيأتي بيانه إن شاء الله - , وكيف نرمي الألباني بهذا وهو يصرّح بأن العمل من الإيمان ويزيد وينقص , ويردّ على مرجئة الفقهاء , ويؤكد على أن الخلاف معهم خلافا حقيقيا وليس لفظيا ، وقد تبين لنا أن الشيخ لا يريد مدلول هذه الكلمات الموهمة ويخالفها عند التطبيق ، فكيف نسب إليه قول المرجئة ؟! ، سبحانك ربي هذا بهتان عظيم .
وقد سبق الألباني فيما في لفظه احتمال -وبعضه صريح جدا ! - أن الإيمان يصح بدون أعمال الجوارح , أئمة فحول وعلماء عدول , منهم :
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله :
" وَالْكَلَام هُنَا فِي مَقَامَيْنِ : أَحَدهمَا كَوْنه قَوْلًا وَعَمَلًا ، وَالثَّانِي كَوْنه يَزِيد وَيَنْقُص . فَأَمَّا الْقَوْل فَالْمُرَاد بِهِ النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَأَمَّا الْعَمَل فَالْمُرَاد بِهِ مَا هُوَ أَعَمّ مِنْ عَمَل الْقَلْب وَالْجَوَارِح ، لِيَدْخُل الِاعْتِقَاد وَالْعِبَادَات . وَمُرَاد مَنْ أَدْخَلَ ذَلِكَ فِي تَعْرِيف الْإِيمَان وَمَنْ نَفَاهُ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا عِنْد اللَّه تَعَالَى ، فَالسَّلَف قَالُوا هُوَ اِعْتِقَاد بِالْقَلْبِ ، وَنُطْق بِاللِّسَانِ ، وَعَمَل بِالْأَرْكَانِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَال شَرْط فِي كَمَالِهِ . وَمِنْ هُنَا نَشَأَ ثَمَّ الْقَوْل بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْص كَمَا سَيَأْتِي . وَالْمُرْجِئَة قَالُوا : هُوَ اِعْتِقَاد وَنُطْق فَقَطْ . وَالْكَرَامِيَّة قَالُوا : هُوَ نُطْق فَقَطْ . وَالْمُعْتَزِلَة قَالُوا : هُوَ الْعَمَل وَالنُّطْق وَالِاعْتِقَاد وَالْفَارِق بَيْنهمْ وَبَيْن السَّلَف أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَعْمَال شَرْطًا فِي صِحَّته وَالسَّلَف جَعَلُوهَا شَرْطًا فِي كَمَالِهِ . " اهـ
فتح الباري , الجزء الأول صفحة 9
قال الإمام محمد بن إسحاق بن يحي بن منده 310 - 395 هـ :
" ذكر اختلاف أقاويل الناس في الإيمان ما هو « فقالت طائفة من المرجئة : الإيمان فعل القلب دون اللسان ، وقالت طائفة منهم : » الإيمان فعل اللسان دون القلب ، وهم أهل الغلو في الإرجاء « ، وقال جمهور أهل الإرجاء : » الإيمان هو فعل القلب واللسان جميعا « ، وقالت الخوارج : » الإيمان فعل الطاعات المفترضة كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح « ، وقال آخرون : » الإيمان فعل القلب واللسان مع اجتناب الكبائر « ، وقال أهل الجماعة : » الإيمان هي الطاعات كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح غير أن له أصلا وفرعا فأصله المعرفة بالله والتصديق له وبه وبما جاء من عنده بالقلب واللسان مع الخضوع له والحب له والخوف منه والتعظيم له مع ترك التكبر والاستنكاف والمعاندة ، فإذا أتى بهذا الأصل ، فقد دخل في الإيمان ، ولزمه اسمه ، وأحكامه ، ولا يكون مستكملا له حتى يأتي بفرعه ، وفرعه المفترض عليه ، أو الفرائض واجتناب المحارم ، وقد جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان » ، فجعل الإيمان شعبا بعضها باللسان والشفتين وبعضها بالقلب وبعضها بسائر الجوارح « . فشهادة أن لا إله إلا الله فعل اللسان تقول شهدت أشهد شهادة والشهادة فعله بالقلب واللسان لا اختلاف بين المسلمين في ذلك والحياء في القلب وإماطة الأذى عن الطريق فعل سائر الجوارح » " اهـ
كتاب الإيمان لابن منده , الجزء الأول صفحة 209
فها هو الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله يقول أن السلف جعلوا العمل شرطا في كمال الإيمان , وذكر ذلك في أشهر كتب السنة وهو كتابه المشهور " فتح الباري " , وذلك منذ قرون طويلة , ولم نسمع أحدا من العلماء يرميه بأنه يقول بقول المُرجئة بسبب هذا !!! , غاية ما هنالك أنهم قالوا أن هذا خطأ محض .
وها هو الإمام ابن منده رحمه الله يقول من قال بلسانه وآمن بقلبه فقد دخل في الإيمان , وحقق أصل الإيمان ولزمه اسمه وأحكامه , وأنه لا يستكمله إلا بفرعه وهو عمل الجوارح مما افترض عليه
فهل هو مُرجئ ؟؟ أو هل قال بقول المُرجئة ؟؟!!
وقد يقول قائل : كلام الإمام ابن منده هذا عام ومطلق , ولكن له كلام آخر واضح كالشمس يبيّن مقصوده رحمه الله .
قلت : وكذلك الألباني رحمه الله له كلام آخر واضح كالشمس يبيّن مقصوده رحمه الله ! , فوجب حمل كلامه على أحسن المحامل , خاصة وأنه إمام في السنة , يؤصّل لمذهب أهل السنة ويردّ على خصومهم من أهل الإرجاء قديما وحديثا.
ومن الإطلاقات الواردة في كلام الإمام الألباني رحمه الله قوله :
( أن تارك جنس العمل لا يكفر )
قال العلامة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله :
" أن الجنس قد يراد به الواحد وقد يراد به الكل وقد يراد به الغالب ، ومن هنا إذا دندن حوله السلفيون حصل بينهم الخلاف الذي يريده التكفيريون وتكثروا بمن يقول به منهم، فيقولون هذا فلان السلفي يقول بتكفير تارك جنس العمل فيجرون الناشيء إلى مذهبهم في تكفير الحكام على منهجهم وإلى رمي علماء السنة بالإرجاء ... الخ. " اهـ حفظه الله
من مقال ( كلمة حق حول جنس العمل ) على موقعه الرسمي على الشبكة .
ولا شك أن تارك العمل بالكلّية – على ما سبق تفصيله – كافر بإجماع السلف الصالح , ولكن قد يطلق العالم هذه العبارة ويريد منها تارك الصلاة وعامة الفرائض ؛ فيحكم بعدم كفر تارك جنس العمل بهذا الاعتبار , ولا يجعلنا هذا نرميه بالإرجاء أو بقول المرجئة إلا إذا كان ممن عُرفوا بنصرة مذهب المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمّى الإيمان , أو ممن عرفوا بحصر الكفر في كفر التكذيب والجحود فقط , فحينها يردّ عليه ويشنّع عليه ولا كرامة.
ولا شك أن الألباني رحمه الله ليس من هؤلاء , فهو سيف مسلول على المرجئة والخوارج , يعتبر الخلاف مع مرجئة الفقهاء خلافا حقيقيا , ويقول بأن العمل من الإيمان ويزيد وينقص , ويستثني في الإيمان , فهل يقال عن من قال هذا بأنه مُرجئ ؟؟ أو قال بقول المرجئة !!؟
وقد وردت مثل هذه الإطلاقات في كلام الكثير من العلماء الفحول , فهل يرميهم إخواننا هؤلاء بأنهم يقولون بقول المرجئة !؟
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله : ( من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله إذا كان موحداً مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً مقراً وإن لم يعمل وهذا يرد قول المعتزلة والخوارج بأسرها ) اهـ
التمهيد ( 23/ 290 )
و قال الإمام ابن جرير الطبري وهو يحكي قول أهل السنة في الإيمان: ( قال بعضهم الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن أتى بمعنيين من هذه المعاني الثلاثة ولم يأت بالثالث فغير جائز أن يقال أنه مؤمن ولكنه يقال له إن كان اللذان أتى بهما المعرفة بالقلب والإقرار باللسان وهو في العمل مفرط فمسلم ) التبصير في معالم الدين ( 188 )
قال الإمام ابن رجب رحمه الله :
(ومعلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان ، وبـهما يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة ) فتح الباري ( مكتبة الغرباء الأثرية ، 1/ 121 )
وقال أيضا بعد أن ساق حديث الشفاعة :
( والمراد بقوله " لم يعملوا خيراً قط " من أعمال الجوارح وإن كان أصل التوحيد معهم ، ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار إنه لم يعمل خيراً قط غير التوحيد ...ويشهد لهذا ما في حديث أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال : " فأقول يارب ائذن لي فيمن يقول : لا إله إلا الله فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من قال : لا إله إلا الله " خرجاه في الصحيحين وعند مسلم " فيقول ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك " وهذا يدل على أن الذين يخرجهم الله برحمته من غير شفاعة مخلوق هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا خيراً قط بجوارحهم ).اهـ
كتاب التخويف من النار طبعة دار الإيمان الباب الثامن والعشرون ص285 .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في
"فتح المجيد شرح كتاب التوحيد - (ج 1 / ص 66) :
( تنبيه ) قال القرطبي في تذكرته : قوله في الحديث « من إيمان » أي : من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح ، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان ، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه ، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله : ما في الحديث نفسه من قول " أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط " يريد بذلك : التوحيد المجرد من الأعمال" . اهـ ملخصا
فالذي يقوله هؤلاء في حق الألباني يلزمهم أن يقولوه في هؤلاء الأئمة الأعلام ! , حيث تطابقت أقوالهم وإن تعددت الألفاظ , ولكن المعنى واحد وهو نجاة تارك العمل بالكلية ودخوله الجنة , فهل سترمونهم بأنهم يقولون بقول المرجئة ؟؟!
أم نلزم جادة الصواب ونقول : أن تارك العمل بالكلية – على التفصيل السابق – كافر بإجماع السلف الصالح , ولكن هؤلاء العلماء الفحول ما قصدوا – بداهة- مثل هذه الصورة الخيالية التي نتحدث عنها ! , وكلامهم محمول على من يترك الصلاة وعامة الفرائض والواجبات , أي شُعب أعمال الجوارح وآحادها وإن كثرت وعظمت , كما هو حال أغلب فساق زماننا.
وذكرتني هذه المسألة بما حدث مع إخواننا هؤلاء منذ سنوات , حينما رموا أهل السنة القائلين بأن تارك الصلاة إذا عُرض على السيف فأبى أن يصلي يقتل حدّا لا ردة ويدفن في مقابر المسلمين – ولا شك أن قولهم هذا خطأ محض - , والعلماء القائلين بهذا القول أكثر مما تتخيل ! , حتى كاد أن يكون إجماعا ! كما قال العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله , وهم من أئمة المذاهب الأربعة وفقهاء القرون المفضلة وما بعدها , فرموهم إخواننا هؤلاء بأن قولهم هذا إرجاء مبني على إرجاء !! , واستدلوا بكلمة قالها شيخ الإسلام وطاروا بها في الآفاق.
وسبب هذه الفتنة القائمة وكذلك أختها القديمة هي أن إخواننا هؤلاء جهلوا أن لازم القول ليس بلازم ما لم يلتزمه قائله , كما هو مقرر عند أهل العلم لأن المتكلم قد يذكر الشيء ولا يستحضر لازمه حتى إذا عرفه وتفطّن له ؛ أنكره أشد الإنكار! , فلا يشّنع على العالم المعروف بسلفيته وحرصه على السنة والعقيدة الصحيحة بلوازم الأقوال خاصة في المسائل الخفيّة , وإلا لزمنا التشنيع على جمع غفير من الأئمة السالف ذكرهم !! , ورميهم بأنهم يقولون بقول المرجئة !!, وهذا ما لا يقول به عاقل فضل عن عالم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:
"وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان: أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه ،فان لازم الحق حق و يجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره , وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
والثاني:لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض , و قد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه و إلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر لـه فساده لم يلتزمه , لكونه قد قال ما يلزمه و هو لا يشعر بفساد ذلك القول و لا يلزمه .
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب ؛ هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله , وما لا يرضاه فليس قوله و إن كان متناقضا . "
انتهى كلامه رحمه الله من القواعد النورانية/ 193
فياله من كلام نوراني (!) , فتأمّل , ولو تفطّن لهذا الكلام ووعاه إخواننا هؤلاء ؛ لما عانينا وتكلفنا عناء الردّ عليهم.
".. وإن مما يؤسف له أن يُبتلى عدد قليل من طلبة العلم بالنيل من الشيخ العلامة المحدث الألباني رحمه الله ووصفه بالإرجاء، في الوقت الذي سلم منهم دعاة التغريب قتلة الأخلاق الذين يسعون جاهدين للإفساد في بلاد الحرمين بعد إصلاحها، وسلم منهم أهل الزندقة وأهل الزيغ والضلال، وكأنه ليس أمامهم في الميدان إلا هذا الرجل ذو الجهود العظيمة في خدمة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان عقيدة السلف، وما أحسن الأثر الذي نقله ابن كثير في البداية والنهاية (13/121) عن سفيان بن حسين قال: ((ذكرتُ رجلا بسوء عند إياس بن معاوية فنظر في وجهي، وقال: أغزوت الروم؟! قلت: لا، قال: فالسند والهند والترك؟! قلت: لا، قال: أفتَسْلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ قال: فلم أعد بعدها))، وهم بنيلهم من الشيخ الألباني رحمه الله يُهدون له بعض حسناتهم، ومن الخير لهم أن يُبقوا على تلك الحسنات وأن يستفيدوا من علمه ويوجِّهوا سهامهم إلى غيره ممن يستحق أن توجه إليه، وقد وقفت في كلامه على ما يوضح سلامته من الإرجاء؛ وذلك في مقدمة تحقيقه لكتاب ((رياض الصالحين)) للنووي (ص 14 ــ 16) وفي شرحه وتعليقه على ((العقيدة الطحاوية)) (ص 42)، وجاء في شرحه المسجل للأدب المفرد في الشريط السادس قوله: ((وهذا ليدل على أن الإيمان بدون عمل لا يفيد، وأن العمل الصالح هو من الإيمان، كما نحن في صدد الحديث الآن، لذلك يعني فائدة السنة هو تقويم المفاهيم المعوجة، فالله حينما يذكر الإيمان يذكره مقروناً بالعمل الصالح؛ لأننا لا نستطيع أن نتصور إيماناً بدون عمل صالح إلا لإنسان نتخيله تخيلاً: آمن من هنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومات من هنا، هذا نستطيع أن نتصوره، لكن إنسان يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو يعيش دهراً ما شاء الله ولا يعمل صالحاً فعدم عمله الصالح هو كدليل أنه يقولها بلسانه ولما يدخل الإيمان إلى قلبه، فذِكر الأعمال الصالحة بعد الإيمان هو ليدل على أن الإيمان النافع هو الذي يكون مقروناً بالعمل الصالح))، وما جاء عنه في الموضوع من كلام فيه إجمال واحتمال ينبغي أن يحمل على أحسن المحامل فيحمل على كلامه المفسَّر، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على البكري (ص 324): ((ومعلوم أن مفسر كلام المتكلم يقضي على مجمله، وصريحه يقدَّم على كنايته)).
انتهى كلام العلامة العباد حفظه الله تعالى.
وأخيرا أذكر إخواني هؤلاء وأذكر نفسي , والذكرى تنفع المؤمنين , بقول ابن عساكر : " اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب ". اهـ
فإن كان قولكم في الإمام الألباني رحمه الله أنه يقول بقول المرجئة ليس انتقاصا وطعنا ! , فلا أدري – والله- ما هو الطعن والانتقاص إذا ؟!!
ويستدل بعضهم بفتوى منسوبة للشيخ الراجحي حول الشيخ الألباني رحمه الله ولا أعلم مدى صحتها , ولكن على فرض ثبوتها , أقول لقد ورد في أول إجابة الشيخ العلامة الراجحي حفظه الله قوله : " فإذا كان قال: إن العمل خارج من مسمَّى الإيمان فقد وافق أبا حنيفة وأصحابه " , وقد كان السائل لبّس على الشيخ حفظه الله سؤاله , وأوهمه أن الشيخ الألباني رحمه الله يقول أن الإيمان ليس ركنا وجزءا من أجزاء الإيمان (!!) , وهذا محض افتراء وكذب صراح ! , وقديما قالوا السؤال نصف الإجابة ! , ومع ذلك فقد قال الشيخ الراجحي – إن صح النقل عنه - : إذا كان – أي الألباني – قال هذا فهو كذا وكذا " .
وجوابه أن الألباني رحمه الله يقول بأن الإيمان جزء وركن من أركان الإيمان , كما تقدّم , وعليه فما بني على باطل فهو باطل ! , وحاق بهم ما كانوا يمكرون.
والبعض الآخر ذهب ليسأل العلامة الفوزان حفظه الله وسجل له الفتوى دون إذنه! ، وذكر له أن الشيخ الألباني يقول أن العمل شرط كمال في الإيمان ، فسارع الشيخ بقوله أن هذا غلط من الألباني وإرجاء لأن الشيخ يرى -كما يرى غيره من كبار العلماء- أن قول القائل أن العمل شرط كمال يلزم منه إخراج العمل من مسمى الإيمان كما هو مذهب المرجئة ، ثم سأله هل يقال وافق قولهم ؟ فأجابه الشيخ : وافق قولهم ولكن نرجو الله له المغفرة.
ولي على هذه الفتوى والحادثة ملاحظات :
أولا : أليس من الإنصاف أن يبين السائل للشيخ أن الشيخ الألباني يقول بأن الإيمان بدون عمل لا يفيد وأن عدم العمل دليل على عدم دخول الإيمان إلى القلب ؟ رحم الله من قال السؤال نصف الجواب!.
ثانيا : الظاهر من كلام الشيخ أنه قصد أن الألباني رحمه الله وافق قوله قولهم في هذه العبارة لفظا لا عقيدة! ، وبيان ذلك أن الشيخ الفوزان حفظه الله سُئل في أكثر من مناسبة عن الألباني وصرح بأن عقيدته سليمة ومنهجه قويم ولكنه ليس بمعصوم. وكثير من العلماء عندهم بعض الألفاظ والمصطلحات التي توافق بعض طوائف أهل البدع ، ولكنهم عند التحقيق والتطبيق لا يريدون مدلولها ولا يلتزمون معناها.
ثالثا : هذا الذي سجل هذه الفتوى ونشرها هو نفسه يقول أن الألباني عقيدته سليمة ويثني عليه ثناء عطرا ويقول أن الألباني كان يرد على المرجئة وو إلخ كما في مواطن أخرى ، فهل إذا أخطأ العالم خطئا لفظيا موهما يخالف أقوالا له أخرى صريحة ؛ وكانت عقيدته سليمة واضحة كالشمس ..فهل يقال عنه أنه وافق قوله قول الطائفة الفلانية من أهل البدع ؟!! ، هل هذا من الإنصاف الذي أمرنا به ؟ هل هذا من الأدب مع العلماء ؟!
رابعا: يقال لمن ينشر هذا التسجيل ، من الذي سبقك من العلماء بهذا ؟ ، العلامة الفوزان كان كثيرا ما يسأل عن الألباني ورميه بالإرجاء فيثني على عقيدته ويقول أنه إذا كان عنده خطأ فهذا لا نبثه بين الناس ولا ننشره. فهلا التزمتم بكلام الفوزان ؟ ، إن قلتم نحن نريد بيان الحق ؟ ، فهلا اكتفيتم بتخطئة الألباني في هذه العبارات الموهمة وبينتم للناس أقواله الأخرى الصريحة في نقض هذه الفرية ؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها ؟! لماذا الإصرار العجيب على رمي هذا الإمام بقول المرجئة وهو منه براء ؟!
صدق العلامة العباد حفظه الله حين قال أن هؤلاء الطاعنين -شعروا بذلك أم لم يشعروا- يهدون إليه حسناتهم والأولى بهم أن يوجهوا سهامهم إلى من يستحقها من أهل البدع والأهواء الذي حرفوا الدين وأضلوا خلقا كثيرا. ولكنه انعدام الحكمة وقلة التوفيق الذي يلازم هؤلاء.
نسأل الله الهداية والتوفيق للجميع ، وفي هذا القدر الكفاية والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم