وقفات مع مجازفات ومغالطات عبد الله بن صوان الغامدي
في تعديه على أحاديث فضل التوحيد والشفاعة وعلى علماء الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فإن منهج الحدادية مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة من جهة الاستدلال والأحكام والإعتقاد وغير ذلك.
ولقد وقفت على كلام خطير للغامدي في موقعه بعنوان: (مواطن أخطاء المرجئة العصريين في مسألة الإيمان والكفر)، حيث ذكر وجوهاً عدة من هذه الأخطاء على حد زعمه منها:
أولا: استدلالهم بأدلة المرجئة الأولى.
قال الغامدي في مقال (مواطن أخطاء المرجئة العصريين في مسألة الإيمان والكفر):
(( الحمد لله وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم وبعد : فهذه بعض مواطن أخطاء المرجئة العصريين في مسائل الإيمان والتكفير على طريق الإجمال أسأل الله أن ينفع بها
1-استدلالهم بأدلة المرجئة الأولى ومنها :
-حديث البطاقة
-وحديث الجارية
-وحديث الشفاعة
-وأحاديث لاإله إلا الله المطلقة
-وحديث : "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب .." الحديث
والجواب عنها معروف في مواضعه والحمد لله)) .
ولي عليه في كلامه هذا وقفات، فأقول مستعينا بالله العظيم:
الوقفة الأولى: إن الغامدي بكلامه هذا يطعن في أئمة السنة من أصحاب الحديث كأصحاب الكتب الستة وغيرهم، وممّن صنف في كتب العقيدة ومن محققي أهل السنة والجماعة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم، فضلا عن طعنه الصريح بأئمة السنة المعاصرين.
وذلك لأن أئمة السنة رووا هذه الأحاديث في كتبهم مستدلين بها على مسائل متعلقة بمسائل الإيمان وغيرها.
وذكر هذه الأحاديث الأئمة ممن صنف في كتب العقيدة كابن أبي عاصم في السنة والآجري في الشريعة وابن بطة في الإبانة واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة.
واستدل بهذه الأحاديث شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- وغيرهم من محققي أهل السنة والجماعة.
وسار على منهج أئمة أهل السنة والجماعة ومحققيهم علمائنا المعاصرون فأثبتوا هذه الأحاديث ودافعوا عنها واستدلوا بها على مسائل عظيمة من أصول أهل السنة والجماعة، وردوا بها على المخالفين من الخوارج والمرجئة وغيرهم وإليك تفصيله:
أ- حديث البطاقة:
رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (6994) والترمذي في سننه برقم (2639) وابن ماجة في سننه برقم (4300) وابن حبان في صحيحه برقم (225) والطبراني في معجميه الكبير برقم (1490) والأوسط برقم (4725) وكذا رواه ابن المبارك في كتاب الزهد برقم(371) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وذكره الحديث البغوي في شرح السنة (15/134).
والبيهقي في شعب الإيمان (1/448).
وبوب الترمذي لهذا الحديث بباب: (ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله).
وبوب له ابن ماجة بباب: (ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة).
واستدل ابن حبان عليه بقوله: (ذكر البيان بأن الله جل وعلا بتفضله قد يغفر لمن أحب من عباده ذنوبه بشهادته له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن له فضل حسنات يرجو بها تكفير خطاياه).
ب- حديث الجارية:
رواه مسلم في صحيحه برقم (33-537) وابن أبي شيبة في مصنفه برقم (30979) والإمام أحمد برقم (23762) و(23765) و (23767) وأبو داود برقم (931) و (3284) والنسائي برقم (1218) وابن حبان برقم (165) و(2247) من حديث معاوية بن الحكم السلمي.
ورواه الإمام أحمد برقم (7906) وأبو داود برقم (3286) من حديث أبي هريرة.
وذكره ابن أبي عاصم في كتاب السنة برقم (489) والبخاري في القراءة خلف الإمام (ص41) والدارمي في الرد على الجهمية ( ص45 ) وابن منده في التوحيد (2/183) وابن خزيمة في التوحيد (1/179و180و181) وغيرهم.
ج- حديث الشفاعة:
رواه البخاري مختصرا ومطولا برقم (22 و 7439 ) ومسلم في صحيحه برقم (302-183) وأبو داود الطيالسي برقم (2179) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.
وذكره ابن أبي عاصم في كتاب السنة برقم (527) وابن منده في الإيمان (2/804) وابن خزيمة في التوحيد (1/464).
د- حديث يدرس الإٍسلام:
رواه ابن ماجة برقم (4049) والحاكم في المستدرك برقم (4/520 و 550 و587).
والحديث ذكره ابن فضيل الضبي في الدعاء (ص176) ونعيم بن حماد المروزي في الفتن (2/598) وأبو عمرو الداني في الفتن (4/825).
وهكذا باقي الأحاديث التي تعدى عليها الغامدي.
الوقفة الثانية: إن هذه الأحاديث وغيرها استدل بها أئمة أهل السنة والجماعة على مسائل متعددة متعلقة بمسائل الإيمان من أهمها:
أ- ما دلت عليه هذه الأحاديث من مسائل الأسماء والصفات كعلو الله تعالى وغير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ( مجموع الفتاوى 5/192): ((وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب " الرسالة في السنة " له : ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة وأعيان سلف الأمة لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه وعرشه فوق سمواته، قال: وإمامنا أبو عبد الله الشافعي احتج في كتابه " المبسوط " في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر { معاوية بن الحكم وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة ؛ وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا فقال لها : أين ربك ؟ فأشارت إلى السماء فقال : أعتقها فإنها مؤمنة } فحكم بإيمانها لما أقرت أن ربها في السماء وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية)).
وقال أيضا ( مجموع الفتاوى 16/90): ((وأنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت : " أين الله ؟ " لقالوا : " إنه في السماء " ولم ينكروا لفظ السؤال بــ " أين " {لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال أين الله؟ قالت في السماء مشيرة بها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة } ولو كان ذلك قولا منكرا لم يحكم بإيمانها ولأنكره عليها )).
وهذه فائدة عظيمة وهي: أن السؤال بــ ( أين ) لتعليم الناس من الكبار والصغار والرجال والناس من فعل السلف، وأنه غير مستنكر ولو كان منكرا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية أين الله.
ب- ما دلت عليه هذه الأحاديث من الرد على أهل البدع من الجهمية والخوارج وغيرهم.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- (إعلام الموقعين 2/ 302): ((الخامس عشر: شهادته التي هي أصدق شهادة عند الله وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال إن ربه في السماء بالإيمان وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر وصرح الشافعي بأن هذا الذي وصفته من أن ربها في السماء إيمان، فقال في كتابه في باب عتق الرقبة المؤمنة وذكر حديث الأمة السوداء التي سودت وجوه الجهمية وبيضت وجوه المحمدية؛ فلما وصفت الإيمان قال أعتقها فإنها مؤمنة، وهي إنما وصفت كون ربها في السماء وأن محمدا عبده ورسوله فقرنت بينهما في الذكر؛ فجعل الصادق المصدوق مجموعهما هو الإيمان)).
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- ( الكيلانية ص/ 99-100): ((فأما أصل الإيمان الذي هو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله تصديقا به وانقيادا له ؛ فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن ؛ ولهذا تواتر في الأحاديث "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" ، "مثقال حبة من إيمان". وفي رواية الصحيح أيضا "مثقال حبة من خير"، "مثقال ذرة من خير" وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: "الإيمان بضع وستون - أو بضعة وستون أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"، فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة وأن قليله يخرج الله به من النار من دخلها ليس هو كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل السنة: إنه لا يقبل التبعيض والتجزئة ؛ بل هو شيء واحد : إما أن يحصل كله أو لا يحصل منه شيء)).
وقال أيضا ( الكيلانية ص/103): ((فهذا أصل مختصر في " مسألة الأسماء " وأما "مسألة الأحكام " وحكمه في الدار الآخرة فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة . أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان ؛ بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان . وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة فيوجبون خلود من دخل النار وعندهم من دخلها خلد فيها ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين في حق خلق كثير . كما جاءت به السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم )).
ج- ما دلت عليه هذه الأحاديث بأن الإيمان يتبعض ويتجزأ، وأن أهله يتفاضلون فيما بينهم بما عندهم من الإيمان.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- ( مجموع الفتاوى12/491-492): ((وأيضا : فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان"، وفي رواية : "مثقال دينار من خير ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان"، وفي رواية: "من خير"، "ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو خير"، وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان والخير وإن كان قليلا وأن الإيمان مما يتبعض ويتجزأ)).
وقال أيضا ( مجموع الفتاوى 3/355): ((وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة أن الإيمان يتفاضل ويتبعض؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك)).
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- ( حاشية ابن القيم على سنن أبي داود12/2929): ((وكل هذه الألفاظ التي ذكرناها في الصحيحين أو أحدهما والمراد بالخير في حديث أنس الإيمان فإنه هو الذي يخرج به من النار.
وكل هذه النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل في أن نفس الإيمان القائم بالقلب يقبل الزيادة والنقصان وبعضهم أرجح من بعض)).
د- ومما دلت عليه هذه الأحاديث أن الإيمان الذي في القلب يتفاوت على حسب تفاوت معرفة العبد لربه خلافا لأهل البدع.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- ( مجموع الفتاوى 6/479): ((ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربهم في الدنيا ويتفاوتون في درجات العرفان والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله . وقد قال : "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، وهذا يتعلق بمعرفة زيادة المعرفة ونقصها المتعلقة بمسألة زيادة الإيمان ونقصه وهي مسألة كبيرة. والذي مضى عليه سلف الأمة وأئمتها : أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان".
وقال العلامة ابن رجب -رحمه الله- (التخويف من النار ص/256): ((والمراد بقوله: "لم يعملوا خيراً قط" من أعمال الجوارح؛ وإنْ كان أصل التوحيد معهم، و لهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار إنه "لم يعمل خيراً قط غير التوحيد" خرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعاً، ومن حديث ابن مسعود موقوفاً، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشفاعة قال: "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن يقول لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله" خرجاه في الصحيحين، وعند مسلم: "فيقول: ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك"، وهذا يدل على أنَّ الذين يخرجهم الله برحمته من غير شفاعة مخلوق هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا معها خيراً قط بجوارحهم، والله أعلم)).
هـ- دلت أحاديث الشفاعة على أن الإنسان ينتفع بغير عمله، وأن من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع.
ومن وجوه الانتفاع بغير عمله ما يلي:
الوجه الأول: إستدلال أهل السنة بأحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة على انتفاع الإنسان بسعي الغير من شفاعة الشافعين واستغفار الملائكة.
كما قال شيخ الإسلام –رحمه الله- في جامع المسائل (5/ 203): ((من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة)).
ثم ذكر: ((ثانيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها.
ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير)).
الوجه الثاني: إستدلال أهل السنة بحديث : "لم يعملوا خيرا قط " بأن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط بمحض رحمته.
كما قال شيخ الإسلام –رحمه الله- في جامع المسائل لابن تيمية (5/ 203): ((من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة)).
ثم قال: ((خامسها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم)).
و- دلت هذه الأحاديث على شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي ينكرها بعض أهل البدع ويردون أحاديثها.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- ( جامع المسائل 5 /110): ((وكذلك يومَ القيامة يَتوسَّلُ به أهلُ الموقفِ ويستشفعون به، فيَشفعُ لهم إلى ربّه أن يَقْضِي بينهم. ثمَّ يشفعُ شفاعةً أخرى لأهلِ الكبائرِ من أمَّتِه، ويَشفَعُ في أن يُخرِجَ الله من النار مَن في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان، كما استفاضتْ بذلك الأحاديثُ الصحيحة)).
وقال أيضا (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 2 /273): ((ومذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر، وانه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد. بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال ذرة من إيمان)).
وقال أيضا( مجموع الفتاوى4/309): ((وسئل : عن الشفاعة في " أهل الكبائر " من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يدخلون الجنة أم لا؟ .
فأجاب: إن أحاديث الشفاعة في " أهل الكبائر " ثابتة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اتفق عليها السلف من الصحابة وتابعيهم بإحسان وأئمة المسلمين ؛ وإنما نازع في ذلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم . ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان بل كلهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة ويبقى في الجنة فضل . فينشئ الله لها خلقا آخر يدخلهم الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم)).
ز- دلت هذه الأحاديث على عدم كفر تارك الصلاة تهاونا.
ولهذا استدل أهل السنة الذين لا يرون كفر تارك الصلاة كالإمام الزهري والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام شعبة.
ففي كتاب الصلاة وأحكام تاركها لابن القيم -رحمه الله- (ص/42): ((والثانية: يقتل حدا لا كفرا وهو قول مالك والشافعي واختار أبو عبد الله ابن بطة هذه الرواية ونحن نذكر حجج أدلة الذين لا يكفرون تارك الصلاة قال الذين لا يكفرونه بتركها قد ثبت له حكم الإسلام بالدخول فيه فلا نخرجه عنه إلا بيقين)).
ثم قال (ص/ 44): ((وقال الترمذي هذا حديث حسن قالوا وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي لفظ آخر: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة".
وفي صحيح قصة عتبان بن مالك وفيها: "إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".
وفي حديث الشفاعة يقول الله عز وجل: "وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله". وفيه مجمع الزوائد: "فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط"، وفي السنن والمسانيد قصة صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم تخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله فترجح سيئاته ولم يذكر في الشهادة ولو كان فيها غيرها لقال ثم تخرج له صحائف حسناته فترجح سيئاته ويكفينا في هذا قوله فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ولو كان كافرا لكان مخلدا في النار غير خارج منها.
فهذه الأحاديث وغيرها تمنع من التكفير والتخليد وتوجب من الرجاء له ما يرجى لسائر أهل الكبائر قالوا ولأن الكفر جحود التوحيد وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول وهذا يقر بالوحدانية شاهدا أن محمدا رسول الله مؤمنا بأن الله يبعث من في القبور فكيف يحكم بكفره والإيمان هو التصديق وضده التكذيب لا ترك العمل فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد)).
الوقفة الثالثة: ومن أهم المسائل المتعلقة بمسائل الإيمان والتكفير التي دلت عليها هذه الأحاديث هي: أنه لا يخلد في النار من مات وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-( جامع المسائل 2/252-253): ((كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلي الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من وُجُوه مُتعَدِّدَة من حَدِيث عُثْمَان بن عَفَّان وَأبي ذَر ومعاذ بن جبل وَأبي هُرَيْرَة وعتبان بن مَالك وَعبادَة بن الصَّامِت وَغَيرهم وَلَا يخلد فِي النَّار من أهل التَّوْحِيد أحد بل يخرج من النَّار من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال دِينَار من إِيمَان أَو مِثْقَال شعيرَة من إِيمَان أَو مِثْقَال ذرة من إِيمَان)).
وقال أيضاً ( جامع المسائل 5/242): ((والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأهل الحديث، وأئمة السنة يقولون: لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، بل يخرج منها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، بخلاف قول الخوارج والمعتزلة.
وعلى هذا فلا يكفر إلا من ذهب عنه كل أجزاء هذا الإيمان، فمن لم يخلد في النار لا يمكن أن يكون كافرا)).
وقال أيضاً(جامع المسائل 6/221-222): ((وهذا هو الإيمان الواجب، وقد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم يَصِلْ إلى هذا، كالذين قال فيهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرةً، أو من كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من إيمان " . فسَلْبُ الإيمان عنهم لا يقتضي سلبَ هذا المقدار من الإيمان، بل هذه الأجزاء اليسيرة من الإيمان قد يكون في العبد ولا يَصِلُ بها إلى الإيمان الواجب، فإنه إذا انتفت عنه جميع أجزاء الإيمان كان كافرًا)).
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله-(حادي الأرواح ص/254): ((أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان دون الكفار و أحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار و أن هذا حكم مختص بهم فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم و لم يختص الخروج بأهل الإيمان)).
وقال شيخ الإسلام في التعليق على لفظة "لم يعملوا خيراً قط" كما نقله عنه العلامة ابن المحب المقدسي -رحمه الله- في كتاب (إثبات أحاديث الصفات ص 455/ب): ((ليس في الحديث نفي إيمانهم!، وإنما فيه نفي عملهم الخير، وفي الحديث الآخر: "فيخرج منها مَنْ كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"؛ وقد يحصل في قلب العبد مثقال ذرة من إيمان وإنْ كان لم يعمل خيراً، ونفي العمل أيضاً لا يقتضي نفي القول!، بل يقال: فيمن شهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله ومات ولم يعمل بجوارحه قط إنه لم يعمل خيراً، فإنَّ العمل قد لا يدخل فيه القول لقوله: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه"، وإذا لم يدخل في النفي إيمان القلب واللسان لم يكن في ذلك ما يناقض القرآن))
واستدل جمهور أهل السنة بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}وبأحاديث الشفاعة على أن من ليس له عمل صالح فهو ينجو من الخلود في النار.
فقد قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره (2/ 380-381): ((وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء، والله أعلم.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما: هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة. كما ذكرناه غير مرة، إن كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا، من طريق محمد بن جامع العطار، عن العلاء بن ميمون العنبري، عن حجاج الأسود، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا، ولكن لا يصح ومعنى هذه الصيغة: أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب. وبتقدير دخول القاتل إلى النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به، فليس يخلد فيها أبدا، بل الخلود هو المكث الطويل. وقد تواردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان)).
الوقفة الرابعة: ومن المسائل المتعلقة بمسائل الإيمان والتكفير التي دلت عليها هذه الأحاديث أن الذرة الإيمانية هي أصل الإيمان ومن لم يأت بها يكون كافرا ومخلدا في النار.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- مجموع الفتاوى (12/ 474-475)((" الإيمان ثلاث درجات ": إيمان السابقين المقربين. وهو ما أتى فيه بالواجبات والمستحبات: من فعل وترك. وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين. وهو ما أتى فيه بالواجبات من فعل وترك. وإيمان الظالمين. وهو ما يترك فيه بعض الواجبات أو يفعل فيه بعض المحظورات. ولهذا قال علماء السنة في وصفهم (إعتقاد أهل السنة والجماعة) : إنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب فأما أصل الإيمان الذي هو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله تصديقا به وانقيادا له؛ فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن؛ ولهذا تواتر في الأحاديث "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"،"مثقال حبة من إيمان" . وفي رواية الصحيح أيضا "مثقال حبة من خير"، "مثقال ذرة من خير"، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: "الإيمان بضع وستون - أو بضعة وستون أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"، فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة وأن قليله يخرج الله به من النار من دخلها ليس هو كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل السنة: إنه لا يقبل التبعيض والتجزئة؛ بل هو شيء واحد: إما أن يحصل كله أو لا يحصل منه شيء)).
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- (حادي الأرواح ص/269): ((إنه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة فيقول عز و جل شفعت الملائكة و شفع النبيون و شفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيها في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل فيقول الله الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه؛ فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار بحيث صاروا حمما وهو: الفحم المحترق بالنار، وظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير فإن لفظ الحديث هكذا فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا، فيقول الله عز و جل شفعت الملائكة و شفع النبيون و شفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين؛ فيقبض الله قبضة من نار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير و مع هذا فأخرجتهم الرحمة، و من هذا رحمته سبحانه و تعالى للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار و يذروه في البر و البحر زعما منه بأنه يفوت الله سبحانه و تعالى فهذا قد شك في المعاد و القدرة و لم يعمل خيرا قط و مع هذا فقال له ما حملك على ما صنعت قال خشيتك و أنت تعلم فما تلافاه إن رحمه الله فلله سبحانه و تعالى في خلقه حكم لا تبلغه عقول البشر)).
وبعد هذا يتبين تعدي الغامدي وحزبه من الحدادية على هذه الأحاديث العظيمة التي اعتمد عليها علماء أهل السنة والجماعة في إثبات منهج أهل السنة وردهم على المبتدعة من الخوارج والجهمية والمرجئة وغيرهم.
فهل يا ترى أن الغامدي وحزبه سيتهم هؤلاء الأئمة بأنهم مرجئة أو وافقوا المرجئة.
الوقفة الخامسة: ليعلم الغامدي وحزبه أن المرجئة يختلف استدلالهم بهذه الأحاديث عن استدلال أهل السنة والجماعة إختلافا جذريا، وهذا يدل على جهل الغامدي بمنهج أهل السنة والجماعة وجهله أيضا بمناهج الفرق المخالفة.
فإن إستدلال المرجئة بهذه الأحاديث مبني على إخراج العمل من الإيمان، وعلى هذا فعندهم أن تارك العمل كامل الإيمان ولا ينقص ذلك من إيمانه مطلقا.
وهذا مبني على أصلهم الفاسد من أن الإيمان لا يتجزأ ولا يتبعض.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- (مجموع الفتاوى7 /223): ((وقالت " المرجئة " على اختلاف فرقهم : لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر ونصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه؛ كقوله : { يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان })).
وقال أيضا ( مجموع الفتاوى18 /271): ((والحزب الثاني وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان ؛ لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض فقالوا : كل فاسق فهو كامل الإيمان وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال وقالوا : الأعمال ليست من الإيمان لأن الله فرق بين الإيمان والأعمال في كتابه . ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول : إن الإيمان هو تصديق القلب وقول اللسان وهذا المنقول عن حماد بن أبي سليمان ومن وافقه كأبي حنيفة وغيره وقال جهم والصالحي ومن وافقهما من أهل الكلام كأبي الحسن وغيره : إنه مجرد تصديق القلب)).
وبهذا يفترق استدلال أهل السنة والجماعة بهذه الأحاديث عن استدلال المرجئة ببعضها، لكن الحدادية يصرون على محاربة منهج أهل السنة والجماعة وعلمائه.
الوقفة السادسة: أن الغامدي وغيره من الحدادية يذهبون إلى تأويل الأحاديث مع أنهم لم يرجحوا قولا معينا من هذه التأويلات، إلا أنهم اقتصروا على قول بعض العلماء في تأويل هذه الأحاديث وعدم ترجيح قول منها مع تعددها، وهذا دليل على ضعف الغامدي وحزبه من الحدادية في التحقيق العلمي، وبعدهم عن الانصاف في التعامل مع الأدلة الشرعية، إضافة إلى التنطع والغلو.
مع أنه يحكي القول وينصره في مكان ويبطله في مكان آخر من حيث يشعر أو لا يشعر.
والتأويلات التي ذكرها الغامدي من كلام أهل العلم كما في مقال((الجواب عن الشبهات)) وهو موجود في موقعه، وهذه التأويلات هي:
أولا: أن لفظة (( لم يعملوا خيرا قط )) من العام الذي يريد به الخصوص، فيكون المقصود لم يعملو أعمالا كاملة لنقصها وعدم تمامها.
وهذا القول ما ذكره ابن عبد البر وابن خزيمة -رحمهما الله-.
وهذا القول ليس عليه ما يكفي من الأدلة الشرعية التي تصرف هذا اللفظ العام إلى المعنى الخاص، والأصل في ألفاظ الكتاب والسنة أنها تجري على عمومها ما لم يصرفها صارف عن هذا العموم.
وقد علَّق العلامة محمد خليل الهراس- رحمه الله- في حاشيته على (كتاب التوحيد لابن خزيمة ص/309 طبعة مكتبة الكليات الأزهرية) على كلمة الإمام ابن خزيمة -رحمه الله- ((لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال)) فقال: ((لا؛ بل ظاهرها أنهم لم يعملوا خيراً قط كما صرح به في بعض الروايات، أنهم جاؤوا بإيمان مجرد لم يضموا إليه شيئاً من العمل)).
الثاني: أن لفظة (( لم يعملوا خيرا قط )) ليس عاما وإنما هو في أناس مخصوصين لم يتمكنوا من العمل لعذر.
وهذا قول اللجنة الدائمة وأحد قولي الشيخ ابن عثيمين وهو قول الشيخ الفوزان.
وهذا يرد عليه بأن من لم يجب عليه العمل أو لم يتمكن منه ومات على ذلك مات مؤمنا محققا للإيمان الواجب، فكيف يتصور أن يعذبه الله تعالى.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-(مجموع الفتاوى7 /197): ((وكذلك قولهم : من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمنا فصحيح؛ لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه والعمل لم يكن وجب عليه بعد؛ فهذا مما يجب أن يعرف فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين)).
وقد رد هذا التأويل الشيخ الفوزان نفسه؛ فقد سُئل الشيخ الفوزان حفظه الله السؤال الآتي: ما ردكم على الذين يقولون بأنه لا يوجد دليل واضح على أنَّ أحاديث الشفاعة تطبق على الذين لم يتمكنوا من العمل، وأنَّ القول بذلك يأتي من باب التأويل؟
فكان جواب الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: ((الذين دخلوا في الإسلام ولم يتمكَّنوا من العمل ماتوا على طول: ما يحتاجون شفاعة، هذول ما يحتاجون شفاعة؛ لأنهم لا يعذَّبون على ترك العمل، لأنهم لم يتمكنوا منه، ما يحتاجون إلى شفاعة، إنما الشفاعة فيمن ترك شيء من الأعمال التي دون الكفر ودون الشرك واستحق بها العقوبة، هذا تنفعه الشفاعة بإذن الله، لأنه مسلم عنده معصية ومستحق للعذاب، تنفعه شفاعة الشافعين، إذا أَذِنَ اللهُ بذلك، نعم، أما إذا ما تمكَّن من العمل؛ نطق بالشهادتين مؤمناً وصادقاً ولم يتمكن من العمل حتى مات فهذا ما يحتاج إلى شفاعة)).المصدر من هنا وهذا القول يرده الغامدي من حيث لا يشعر حيث قال في مقال له بعنوان(الإيمان ومسائله): ((فمطلق الإيمان هو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به؛ فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرا على ذنب أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه
فمن ترك واجبا من غير القدرة عليه فلا يضر إبمانه شيء، لأنه لم يتمكن من أداء العمل، وهذا يكون له الإيمان المطلق على قول الغامدي.
وهذا يبطل القول الذي يكرره الغامدي ويستنصر به، لأنه كيف يعذب الله تعالى من له الإيمان المطلق وهو من ترك العمل من غير قدرة على أداه.
الثالث: أن لفظة (( لم يعملوا خيرا قط )) مقيدة بالأدلة الدالة على كفر بعض الأعمال كالصلاة.
وهذا أحد قولي العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-.
فأين قول الغامدي وحزبه الحدادي، أم أنهم لا يعبئون بأقوال هؤلاء العلماء فضلا عن غيرهم.
مع أن أهل السنة يرون أن هذه الأحاديث من الأدلة المحكمات التي ترد الأدلة المتشابهة في الوعيد التي يستدل بها الخوارج على أهل السنة.
ففي إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم -رحمه الله-(2/ 217-218) قال:((المثال الثالث عشر:رد الرافضة النصوص الصريحة المحكمة المعلومة عند خاص الأمة وعامتها بالضرورة في مدح الصحابة والثناء عليهم ورضاء الله عنهم ومغفرته لهم وتجاوزه عن سيئاتهم ووجوب محبة الأمة واتباعهم لهم واستغفارهم لهم واقتدائهم بهم بالمتشابه من قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ونحوه. كما ردوا المحكم الصريح من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم، كفعل إخوانهم من الخوارج حين ردوا النصوص الصحيحة المحكمة في موالاة المؤمنين ومحبتهم وإن ارتكبوا بعض الذنوب التي تقع مكفرة بالتوبة النصوح، والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم، وبالامتحان في البرزخ وفي موقف القيامة، وبشفاعة من يأذن الله له في الشفاعة، وبصدق التوحيد، وبرحمة أرحم الراحمين؛ فهذه عشرة أسباب تمحق أثر الذنوب، فإن عجزت هذه الأسباب عنها فلا بد من دخول النار، ثم يخرجون منها؛ فتركوا ذلك كله بالمتشابه من نصوص الوعيد، وردوا المحكم من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم التي يحتمل أن يكونوا قصدوا بها طاعة الله فاجتهدوا فأداهم اجتهادهم إلى ذلك فحصلوا فيه على الأجر المفرد، وكان حظ أعدائهم منه تكفيرهم واستحلال دمائهم وأموالهم، وإن لم يكونوا قصدوا ذلك كان غايتهم أن يكونوا قد أذنبوا، ولهم من الحسنات والتوبة وغيرها ما يرفع موجب الذنب، فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها؛ فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم، وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى، وبالله التوفيق)).
ومما يخالف الغامدي وحزبه من الحدادية أصول أهل السنة والجماعة وأقوال العلماء اتهامهم لجمهور العلماء ممن رجحوا العمل بهذه الأحاديث الصريحة في ألفاظها والصحيحة في أسانيدها بأنهم من المرجئة، وهذا قدح كبير في علماء الأمة.
والغامدي وحزبه يسير على منهج الخوارج في تعديه على علماء الأمة، وهذا منهج معروف عندهم، والغامدي وحزبه الحدادي هم على المنهج القطبي التكفيري، الذي يريد أن يوسع دائرة التكفير في الأمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الوقفة السابعة: أن مفهوم الإرجاء عند الغامدي وحزبه مضطرب جدا؛ فهم لا يفهمون حقيقة الإرجاء من جهة، ويطعنون في علماء السنة بأنهم من المرجئة من جهة أخرى، ويطعنون كذلك في الأدلة الشرعية الصحيحة والصريحة والتي استدل بها أئمة أهل السنة والجماعة على مر العصور وعلى اختلاف الأماكن، بأنها من أدلة المرجئة.
ومن الأدلة على أن الغامدي وحزبه لا يفهمون معنى الإرجاء تناقضهم في هذا الباب وإليك بيانه:
ذكر الغامدي في مقال له بعنوان( التعريف بالمرجئة) أقسام المرجئة وأصنافها فقال:قال ابن تيمية رحمه الله: والمرجئة ثلاثة أصناف:
((القول الأول :الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة،كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقاً كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه.
والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكَرَّامية.
والقول الثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منه)).
وأنا أقول للغامدي أين قول شيخ الإسلام ابن تيمية أن من قال: بعدم تخليد من لم يعمل خيرا قط في النار أنه من كلام المرجئة، مع أنهم قائلون بأن من لم يعمل خيرا قط أنه معرض للعقوبة والعذاب كما دلت عليه أحاديث الشفاعة وغيرها؟!
أم أن الغامدي والحدادية سالكون مسلك الخوارج في هذا الباب؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والأئمة متفقون على أن المرجئة من أخرج العمل الظاهر عن مسمى الإيمان، وذلك لأن العمل الظاهر عندهم ليس من مسمى الإيمان، ويكتفى بالباطن في حقيقة الإيمان، وعلى هذا فإن الإيمان عندهم لا يزيد بالطاعة ولا ينقص بالمعصية، وأنه لا يتبعض ولا يتجزأ، وأنه أهله لا يتفاضلون فيه.
ولبيان جهل الحدادية وخاصة في هذا الباب سأنقل لهم كلام الشيخ ربيع في المرجئة ليروا حقيقة ما هم عليه من الجهل والظلم.
قال الشيخ ربيع -حفظه الله- في شريط بعنوان( وسطية الإسلام): ((وعند المرجئة تعلّقٌ بنصوص الوعد و إهمال لنصوص الوعيد؛ فأهل الذنوب عندهم مؤمنون كاملوا الإيمان, لا تُنقِص المعاصي من إيمانهم شيئا، وغلاتهم يرون أنّه لا يضرّ مع الإيمان ذنب, فإذا لقي الله موحِّداً غير مشرك فلا عقوبة عليه ولا تنطبق عليه نصوص الوعيد وهو مؤمن كامل الإيمان و لو كان من أفجر النّاس و أفسقهم إيمانه مثل إيمان جبريل و محمد عليهما الصلاة و السلام, اشتطّوا وغلوا في التّعلق بنصوص الوعد واشتطّ الخوارج في التعلق بنصوص الوعيد, فكفّروا العصاة وحكموا عليهم بالخلود في النّار, وغلاة المرجئة قالوا بنجاة الموحدّين ولا عقاب عليه ولا عذاب وهم مؤمنون كاملوا الإيمان)) .
وبين الشيخ ربيع الإيمان عند السلف فقال في ( نصيحة أخوية ص/35 ): ((والأولى التزام ما قرره وآمن به السلف من أنَّ الإيمان قول وعمل قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح .
وأنه يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم الإيمان بأحاديث الشفاعة التي تدل على أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان أو أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان)).
وبعد هذا البيان البديع لحقيقة الإيمان وحقيقة الإرجاء يأتي من ملأ الجهل قلبه من الحدادية ويتهم هذا العلَم الجبل بالإرجاء، وما تجرؤوا على ذلك إلا لأنهم ساروا على طريق الخوارج الغلاة، فهم جمعوا بين رد النصوص الشرعية والطعن في أئمة الإسلام وهذا هو حقيقة مذهب الخوارج على مر العصور.
ومما يدمغ الغامدي وجزبه ويظهر مدى جهلهم وتعديهم على أئمة السنة من المتقدمين والمتأخرين قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما في ( مجموع الفتاوى 3 /355): ((وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة أن الإيمان يتفاضل ويتبعض ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك . وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب ، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب ، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب - وإن كانت متواترة - ويكفرون من خالفهم ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"، ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما ؛ وكفروا أهل صفين - الطائفتين - في نحو ذلك من المقالات الخبيثة... )).
وبعد هذا يتعدى الغامدي على أهل السنة ويصفهم بأنهم من المرجئة على أساس قواعدة الفاسدة المخالفة لقواعد أهل السنة والجماعة والموافقة لأصول الخوارج.
وأخيرا يلزم الغامدي وحزبه من رده لهذه النصوص النبوية أن يرد نصوصا من القرأن العظيم، لأنها موافقة لمضمونها، ويلزم أن يطعن كل من استدل بها ويتهمهم بالإرجاء، ومن ذلك قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}( الزلزلة الآيتان 7،8).
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}( النساء آية40).
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء 48و 116).
وغيرها من الآيات.
وومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري برقم (7439) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه الطويل وفيه: "وإذا رأوا أنهم قد نجوا فى إخوانهم يقولون ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا . فيقول الله تعالى اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه . ويحرم الله صورهم على النار ، فيأتونهم وبعضهم قد غاب فى النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه ، فيخرجون من عرفوا ، ثم يعودون فيقول اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه . فيخرجون من عرفوا ، ثم يعودون فيقول اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه . فيخرجون من عرفوا » . قال أبو سعيد فإن لم تصدقونى فاقرءوا {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتى . فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا ، فيلقون فى نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة ، فينبتون فى حافتيه كما تنبت الحبة فى حميل السيل ، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة ، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر ، وما كان منها إلى الظل كان أبيض ، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ ، فيجعل فى رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنة فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه . فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه".
وتأمل في قول أبي سعيد رضي الله عنه: "فإن لم تصدقونى فاقرءوا {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها}".
وكذلك قول شيخ الإسلام -رحمه الله- ( مجموع الفتاوى 7 /184): ((ولهذا جاء في أحاديث الشفاعة الصحيحة : "يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وفي بعضها : "مثقال ذرة من خير" وهذا مطابق لقوله تعالى:{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}، {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}، وذلك الذي هو مثقال ذرة من خير هو مثقال ذرة من إيمان وهؤلاء المؤمنون الأبرار الأتقياء هم أهل السعادة المطلقة وهم أهل الجنة الذين وعدوا بدخولها بلا عذاب وهؤلاء الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا" فإنه ليس من هؤلاء ؛ بل من أهل الذنوب المعرضين للوعيد أسوة أمثالهم)).
وختاما أسأل الله العظيم أن يثبتنا على السنة حتى نلقاه، وأن يحفظ لنا علمائنا، وأن يخذل كل من عادى السنة وأهلها، وينصر السنة وأهلها في كل مكان إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
كتبه
أبو عمر عبد الباسط المشهداني