الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد ـ فمن ميزات المسلم الصادق الواعي الإيمان الصحيح الصادق بنصوص الكتاب والسنة والانقياد لها والابتعاد عن الانحراف عنها وعن تحريفها أو رد شيء منها .
تلك الأمور الخطيرة التي يسلكها أهل الأهواء؛ سواء غلاتهم أو أهل الجفاء منهم، ومن هذين الصنفين من يتمسح بالسلفية ويدّعي أنه من أهل الحديث، وهم من أبعد الناس عن منهج السلف وأهل الحديث، بل هم من أشد الناس خصومة وحرباً على أهل السنة السلفيين .
ومنهم الطائفة الحدادية القطبية التي انطلقت في حربها لأهل الحديث والسنة بالإرجاء من منهج محمود الحداد القطبي المتستر ومن منهج محمد قطب وتلميذه سفر الحوالي .
محمد قطب يرمي المجتمعات الإسلامية السابقين منهم واللاحقين بالإرجاء، ويدّعي أن الإرجاء شر من العلمانية.
واخترع تلميذه سفر الحوالي لتقوية هذا المنهج أصلاً خطيراً سماه جنس العمل.
فرفع راية ذلك المنهج الخطير، وهذا الأصل الباطل لحرب أهل السنة والتوحيد الطائفة الحدادية القطبية التي جعلت حرب أهل السنة والتوحيد شغلها الشاغل، مع إضافة أصول أخرى إلى ما سلف ذكره، ومنها التقية خداعاً منهم ومكراً ليخفوا أمرهم وكيدهم على كثير من الناس وحتى على بعض العلماء الذين تتظاهر هذه الطائفة أمامهم بالتمسك بالمنهج السلفي والغيرة عليه، في حين أنها من أشد أهل الأهواء حرباً عليه وعلى أهله وتشويهاً لهذا المنهج وأهله، وواقعهم ومواقعهم تشهد بذلك.
والحاصل أن أمرهم خطير وشرهم مستطير.
وقد بيّنا عدداً من أصولهم الهدامة وانحرافاتهم الخطيرة.
ومنها- سلوكهم مسلك الخوارج في عدم أخذهم بأحاديث الشفاعة ومخالفة أهل السنة والحديث في الإيمان بها واحترامها والأخذ الكامل بمضامينها ودلالاتها والانقياد لها؛ لأنها صادرة من رسول الهدى r الذي لا ينطق عن الهوى، وقد سردتها لهم في بعض ردودي على بعض مقالاتهم التي خالفوا فيها هذه الأحاديث الشريفة، وخالفوا منهج السلف في التسليم بها، فلم يرفعوا بذلك رأساً، وما زادوا إلا عتواً ومضياً في منهجهم القطبي الخارجي.
وأنا اليوم أعيدها للقراء الكرام ولهذه الطائفة لعلها تتذكر أو تخشى.
قال أحد غلاة الحدادية الذين لم يُسلِّموا ولم يقتنعوا بأحاديث الشفاعة إلا بالشفاعة في المصلين فقط، وما عدى هذا الصنف فلم يرفعوا رأساً بالشفاعات فيهم.
قال: " وقال المروزي : " قال أبو عبد اللـه: أفلا ترى أن تارك الصلاة ليس من أهل ملة الإسلام الذين يرجى لـهم الخروج من النار ودخول الجنة بشفاعة الشافعين كما قال صلى اللـه عليه وسلم في حديث الشفاعة الذي رواه أبو هريرة وأبو سعيد جميعا رضي اللـه عنهما أنهم يخرجون من النار يعرفون بآثار السجود فقد بين لك أن المستحقين للخروج من النار بالشفاعة هم المصلون.
أو لا ترى أن اللـه تعالى ميز بين أهل الإيمان وأهل النفاق بالسجود فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} وقد ذكرنا الأخبار المروية في تفسير الآية في صدر كتابنا، فقال اللـه تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ} ، {وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} . أفلا تراه جعل علامة ما بين ملة الكفر والإسلام وبين أهل النفاق والإيمان في الدنيا والآخرة الصلاة. " تعظيم قدر الصلاة : ( 2/1010 )".
أقول: أبو عبد الله هنا هو محمد بن نصر المروزي -رحمه الله-، وهذه زلة منه([1])، غفر الله له.
وأحاديث أبي سعيد وأنس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- في الصحيحين تدفع قوله هذا.
1- فقد ورد في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- في الشفاعة أن الشفاعة جاءت لأصناف.
الصنف الأول: المصلون الصائمون القائمون بالحج، فهؤلاء مع قيامهم بهذه الأركان دخلوا النار بذنوب أوبقتهم، فمن لا يقوم بها أشد عذاباً منهم وأشد.
الصنف الثاني: من في قلبه مثقال دينار من خير، فهؤلاء خرجوا من النار بما في قلوبهم من الإيمان وأعمال القلوب، ومنها إخلاصهم في التوحيد.
والصنف الثالث من في قلبه مثقال ذرة من خير، وهذا الخير هو الإيمان مع الإخلاص فيه.
وهذه الأصناف هم من غير أهل الصلاة.
فيقول أبو سعيد للسامعين لحديثه هذا: " إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما )".
الصنف الرابع: من قال فيهم -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-، بعد هذه المراحل:
"فيقول الله -عزّ وجل-: "شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه.
ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا".
أخرجه البخاري في "صحيحه" حديث (7439)، ومسلم في "صحيحه" حديث (183)، واللفظ له، وأحمد في "المسند" (3/94) وفي تحقيق شعيب (18/394) رقم (11898)، والضياء في "المختارة" (2345)، وأخرجه أبو داود الطيالسي برقم (2179)، وأبو عوانة في "مسنده" (1/156) (449) و (1/181-182،185)، وابن منده في "الإيمان" (ص776-779).
2- حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- في الشفاعة.
ومنه يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "... فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل.
قال معبد بن هلال العنـزي الراوي عن أنس –رضي الله عنه-:
هذا حديث أنس الذي أنبأنا به فخرجنا من عنده فلما كنا بظهر الجبان قلنا لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف في دار أبي خليفة قال فدخلنا عليه فسلمنا عليه فقلنا يا أبا سعيد جئنا من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع مثل حديث حدثناه في الشفاعة قال هيه فحدثناه الحديث فقال هيه قلنا ما زادنا قال قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع ولقد ترك شيئا ما أدري أنسي الشيخ أو كره أن يحدثكم فتتكلوا قلنا له حدثنا فضحك وقال: (خلق الإنسان من عجل). ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه.
"ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذاك لك أو قال ليس ذاك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله".
رواه البخاري في "التوحيد" حديث (7510)، ومسلم في كتاب الإيمان حديث (193/326)، وأحمد في "مسنده" (3/116)، وأبو عوانة (1/183-184)، وابن منده (ص820-822)، والضياء في "المختارة" (2345)، وابن خزيمة في "التوحيد" (2/710-711)([2]) .
حديث أنس -رضي الله عنه- يفيد أن الشفاعة تتناول أصنافاً.
الصنف الأول: من كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان.
الثاني: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
الثالث: من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان.
الرابع: صنف يشفع فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم من قال: "لا إله إلا الله"، فيقول الله له: " ليس ذاك لك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله ".
فهذه الأصناف من أمة محمد أدخلوا النار بذنوبهم، وأخرجهم الله من النار بشفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبما في قلوبهم من الإيمان.
والصنف الأخير أخرجوا بعزة الله وكبريائه وعظمته وجبريائه ورحمته، وذلك بسبب توحيدهم وإيمانهم، وإن كان في نهاية الضعف.
فهذان الحديثان يجمعان بين الترهيب والترغيب؛ الترهيب من الذنوب والعقوبة الشديدة عليها ليرتدع المسلمون عن الذنوب، والترغيب في الإيمان والتوحيد ليكونوا من أهله.
وأعتقد أن هذا الحدادي وغيره من الحدادية اطلعوا على حديثي أبي سعيد وأنس –رضي الله عنهما- من خلال بحثي الذي رددتُ به عليهم ولكن!!
3- حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كل نبي دعوته، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" .
أخرجه مسلم في "صحيحه" حديث (199)، وأحمد في "مسنده" (1/426)، والترمذي في "سننه" حديث (3602)، وابن ماجه في "سننه" حديث (4307)، والبغوي في "شرح السنة" حديث (1237) .
أضف إلى هذه الأحاديث الصحيحة التي أسلفناها الأحاديث الآتية:
1- حديث عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فتوسد كل رجل منا ذراع راحلته، قال: فاستيقظت فلم أر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقمت فذهبت أطلبه، فإذا معاذ بن جبل قد أفزعه الذى أفزعني، قال: فبينما نحن كذلك إذا هدير كهدير الرحى بأعلى الوادي، فبينما نحن كذلك إذ جاء النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: أتاني آت من ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، فقلنا: ننشدك الله والصحبة يا رسول الله لما جعلتنا من أهل شفاعتك قال: أنتم من أهل شفاعتي، قال: ثم انطلقنا إلى الناس، فإذا هم قد فزعوا حين فقدوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنه أتاني آت من ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، قالوا: يا رسول الله، ننشدك الله والصحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك، قال: فأنتم من أهل شفاعتي، فلما أضبوا عليه، قال: شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا" ، أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" (2/641) رقم (385و 386)، والإمام أحمد في "مسنده" (6/28).
رواه أحمد في "مسنده" (2/222) قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ ابْنِ الْهَادِ عَنْ عَمْرِو ابنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ به، وذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/432-433)، وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/367).
4- حديث أبي ذر –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ونصرت بالرعب فيرعب العدو من مسيرة شهر وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وقيل لي : سل تعطه واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي في القيامة وهي نائلة - إن شاء الله- لمن لم يشرك بالله شيئا )، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6462)، والبزار في "مسنده" (4077).
5- حديث أبي موسى –رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُعْطِيتُ خَمْسًا بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِمَنْ كَانَ قَبْلِي وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ شَهْرًا وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ سَأَلَ شَفَاعَةً وَإِنِّي أَخْبَأْتُ شَفَاعَتِي ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا"، أخرجه أحمد في "مسنده" (4/416)، قال: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَن أَبِي بُرْدَةَ عَن أَبِي مُوسَى به، وصححه ابن كثير (6/420)، وأخرجه الروياني في "مسنده" برقم (485) من طريق محمد بن معمر قال: حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل به.
أخرجه البخاري في "صحيحه" حديث (1237)، ومسلم في "صحيحه" حديث (94).
7- قال الترمذي في "سننه" (4/378):
" باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله
2638- حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن ابن محيريز، عن الصانبحي، عن عبادة بن الصامت أنه قال: دخلت عليه وهو في الموت فبكيت، فقال: مهلاً لم تبكي ؟ فوالله لئن استشهدتُ لأشهدن لك، ولئن شُفِّعت لأشفعن لك، ولئن استطعتُ لأنفعنك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثا واحدا، وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرّم الله عليه النار".
وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وجابر وابن عمر وزيد بن خالد([3]) قال سمعت ابن أبي عمر يقول سمعت ابن عيينة يقول: محمد بن عجلان كان ثقة مأمونا في الحديث.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
والصنابحي هو عبد الرحمن بن عسيلة أبو عبد الله، وقد رُوي عن الزهري أنه سئل عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"، فقال: "إنما كان هذا في أول الإسلام قبل نزول الفرائض والأمر والنهي"([4]).
قال أبو عيسى ووجه هذا الحديث عند أهل العلم أن أهل التوحيد سيدخلون الجنة وإن عذبوا بالنار بذنوبهم فإنهم لا يخلدون في النار".
أقول: هذا هو القول الحق وهو مذهب أهل السنة جميعاً([6])، وهو يجمع بين نصوص الوعد والوعيد، وهو يخالف مذهب الخوارج الذين يتعلقون بنصوص الوعيد فحسب، ويخالف مذهب المرجئة الذين يتعلقون بنصوص الوعد ولا يرفعون رأساً بنصوص الوعيد.
8- قال الإمام مسلم –رحمه الله- في "صحيحه":
حدثنا داود بن رشيد حدثنا الوليد (يعني ابن مسلم) عن ابن جابر قال: حدثني عمير بن هانئ قال حدثني جنادة ابن أبي أمية ، حدثنا عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء "، حديث (28).
وحدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا مبشر بن إسماعيل عن الأوزاعي عن عمير بن هانئ؛ في هذا الإسناد بمثله غير أنه قال: "أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" ولم يذكر "من أي أبواب الجنة الثمانية شاء"، حديث(28).
9- وقال -رحمه الله-:
حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل، قال: يا معاذ، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا، قال: "إذا يتكلوا" ، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما" حديث (32).
10- وقال -رحمه الله-:
حدثنا سهل بن عثمان وأبو كريب محمد بن العلاء جميعا عن أبي معاوية، قال أبو كريب: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد (شك الأعمش) قال: لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "افعلوا"، قال: فجاء عمر، فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه بالبركة، ثم قال: "خذوا في أوعيتكم"، قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة" حديث (27).
11- حديث عَبْد اللَّهِ بن عَمْرِو بن العاص قال: قال رسول اللَّهِ : "إن اللَّهَ عَز وجل يَسْتَخْلِصُ رَجُلاً من أمتي على رؤوس الْخَلاَئِقِ يوم الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عليه تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ ثُمَّ يقول أَتُنْكِرُ من هذا شَيْئاً أَظَلَمَتْكَ كتبتي الْحَافِظُونَ قال لاَ يا رَبِّ فيقول أَلَكَ عُذْرٌ أو حَسَنَةٌ فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ فيقول لاَ يا رَبِّ فيقول بَلَى إن لك عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ فَتُخْرَجُ له بِطَاقَةٌ فيها أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلا الله وان مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فيقول أَحْضِرُوهُ فيقول يا رَبِّ ما هذه الْبِطَاقَةُ مع هذه السِّجِلاَّتِ فَيُقَالُ انك لاَ تُظْلَمُ قال فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ في كَفَّةٍ قال فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلاَ يَثْقُلُ شيء بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ".
أخرجه أحمد (2/213)، والترمذي حديث (2639)، وابن ماجه حديث (4300)، وابن حبان (225)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب" ، وليس كما قال، فإسناده صحيح، وقد صححه الحاكم والذهبي والألباني، انظر الصحيحة (135).
وكل هذه الأحاديث تدل على أن الشفاعة تتناول كل موحد لم يشرك بالله شيئاً.
فالحدادية لا يرفعون رأساً بهذه الأحاديث التي تبلغ درجة التواتر، فيسلكون مسلك الخوارج في ردها وعدم التسليم بها، نسأل الله الثبات على الحق والعافية مما وقعوا فيه من الضلال والانحراف عن المنهج الحق؛ منهج الصحابة الكرام والسلف الصالح.
ذكر الإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة اختلاف أهل السنة والحديث في الفرق بين الإسلام والإيمان من (ص506-556).
وقسمهم في هذا الاختلاف المعين إلى ثلاث طوائف:
طائفتان تفرق بين الإيمان والإسلام.
وثالثة لا تفرق بينهما وهم جمهور أهل الحديث كما قال رحمه الله، وساق لكل طائفة من أهل الحديث أدلتها.
قال رحمه الله في بداية هذا البحث (2/506):
"اختلف أصحابنا في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فقالت طائفة منهم:
إنما أراد النبي صلى الله عليه و سلم إزالة اسم الإيمان عنه من غير أن يخرجه من الإسلام ولا يزيل عنه اسمه وفرقوا بين الإيمان والإسلام وقالوا: إذا زنى فليس بمؤمن وهو مسلم.
واحتجوا لتفريقهم بين الإيمان والإسلام بقول الله تبارك وتعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا).
فقالوا: الإيمان خاص، يثبت الاسم به بالعمل بالتوحيد، والإسلام عام يثبت الاسم به بالتوحيد والخروج من ملل الكفر، واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص الذي:([5])
560 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطى رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا فقلت: يا رسول الله، أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه و سلم: أو مسلم حتى أعادها سعد ثلاثا. والنبي يقول: أو مسلم. ثم قال: إني أعطي رجالا وأمنع آخرين هم أحب إلي منهم مخافة أن يكبوا على وجوههم في النار.اهـ
ثم ساق أدلة أخرى على قولهم هذا.
ثم نقل عنهم في (ص513) أنهم لا يريدون بنفي الإيمان عنه أنه كافر خارج من الإيمان كله، فقال:
"فإن قيل لهم في قولهم هذا: ليس الإيمان ضد الكفر. قالوا: الكفر ضد لأصل الإيمان؛ لأن للإيمان أصلا وفرعا فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر".
ثم واصل الأخذَ والردَّ بين هذه الطائفة وبين إخوانهم من أهل الحديث إلى (ص517).
ثم قال في آخر (ص517):
"قال أبو عبد الله: وقالت طائفة أخرى أيضا من أصحاب الحديث بمثل مقالة هؤلاء إلا أنهم سموه مسلما؛ لخروجه من ملل الكفر ولإقراره بالله وبما قال، ولم يسموه مؤمنا وزعموا أنه مع تسميتهم إياه بالإسلام كافر لا كافر بالله ولكن كافر من طريق العمل وقالوا كفر لا ينقله عن الملة وقالوا: محال أن يقول النبي (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) والكفر ضد الإيمان، فيزيل عنه اسم الإيمان إلا واسم الكفر لازم له؛ لأن الكفر ضد الإيمان إلا أن الكفر كفران كفر هو جحد بالله وبما قال، فذلك ضده الإقرار بالله والتصديق به وبما قال.
وكفر هو عمل ضد الإيمان الذي هو عمل، ألا ترى ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)".
ثم ساق حججهم والنقاش بينهم وبين إخوانهم من أهل الحديث إلى (ص529).
ثم قال في آخر (ص529):
وقالت طائفة ثالثة -وهم الجمهور الأعظم من أهل السنة والجماعة وأصحاب
الحديث-: الإيمان الذي دعا الله العباد إليه وافترضه عليهم هو الإسلام الذي جعله دينا وارتضاه لعباده ودعاهم إليه.
وهو ضد الكفر الذي سخطه، فقال: (ولا يرضى لعباده الكفر).
وقال: (ورضيت لكم الاسلام دينا).
وقال: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام).
وقال: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه).
فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان وجعله اسم ثناء وتزكية، فأخبر أن من أسلم فهو على نور من ربه وهدى، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه، فقد أحبه وامتدحه، ألا ترى أن أنبياء الله ورسله رغبوا فيه إليه وسألوه إياه فقال إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل ذبيحه:
(ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك).
وقال يوسف: (توفني مسلما وألحقني بالصالحين).
وقال: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
وقال: (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا).
وقال في موضع آخر: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم) إلى قوله: (ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)، فحكم الله بأن من أسلم فقد اهتدى ومن آمن فقد اهتدى فقد سوى بينهما".
ثم ساق رحمه الله حُجَجًا لهذه الطائفة بصحة قولهم إلى (ص535).
ثم قال: "ومما يدلك على تحقيق قولنا أن من فرق بين الإيمان والإسلام
قد جامعنا: أن من أتى الكبائر التي استوجب النار بركوبها لن يزول عنه اسم الإسلام، وشر من الكبائر وأعظمهم ركوبا لها من أدخله الله النار فهم يروون الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم ويثبتونه أن الله يقول: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان ومثقال برة ومثقال شعيرة).
فقد أخبر الله تبارك وتعالى أن في قلوبهم إيمانا أخرجوا به([6]) من النار وهم أشر أهل التوحيد الذين لا يزول في قولنا وفي قول من خالفنا عنهم اسم الإسلام.
ولا جائز أن يكون من في قلبه إيمان يستوجب به الخروج من النار([7]) ودخول الجنة ليس بمؤمن بالله إذ لا جائز أن يفعل الإيمان الذي يثاب عليه بقلبه من ليس بمؤمن كما لا جائز أن يفعل الكفر بقلبه من ليس بكافر".
وهنا اتفقت كلمة هذه الثلاث الطوائف من أهل الحديث على أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان... إلخ.
واتفقوا على أنه يخرج من النار بما في قلبه من الإيمان ويستوجب الجنة بما في قلبه من الإيمان.
لأن هذا الصنف لقي الله بذنوب عظيمة وبدون عمل، إلا أنه موحدٌ لم يشرك بالله عز وجل؛ فاستحقَّ بهذا التوحيد الخروج من النار، ثم دخول الجنة.
وهذا يؤمن به أهل السنة والحديث جميعًا -كما مرَّ ذلك بالقارئ- هذا بالإضافة إلى أحاديث الشفاعة الكثيرة، والآيات القرآنية، وأحاديث فضل التوحيد.
ويخالفهم في هذا الخوارج ومن سار على نهجهم من أهل الأهواء، مثل الفرقة الحدادية.
ملاحظة: الذين يُكفرون تارك الصلاة ويخرجونه من ملة الإسلام لا يعتقدون أن له عملاً صالحاً ويعتقدون أنه مخلد في النار، ولم يجعلوا تارك العمل نوعاً آخر (كما هو صنيع الحدادية القطبية).
ومع ذلك فهم (أي أهل السنة) يحترمون إخوانهم من أهل السنة والحديث الذين لا يكفرون تارك الصلاة، ويرون كبارهم من أئمة الإسلام.
كما أن الذين لا يكفرون تارك الصلاة يحترمون إخوانهم الذين يكفرونه فلا يطعنون فيهم.
لأن لكل طرف أدلته؛ إذ تارك الصلاة تتجاذبه الأدلة وكلهم مجتهدون يصدق عليهم الحديث الصحيح: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ".
أخرجه البخاري في "صحيحه" حديث (7352)، ومسلم في "صحيحه" حديث (1716).
فكل طرف يرى أنه قد أصاب في اجتهاده وفي الوقت نفسه يرى أن أخاه وإن أخطأ فإنه مأجور على اجتهاده مغفور له خطؤه.
والطائفة الحدادية جهلت هذا المنهج أو أنها تتجاهله.
ومن هذا الباب أو ذاك انطلقتْ إلى حرب أهل السنة تضللهم وترميهم بالإرجاء، وبعضهم يرميهم بالتجهم.
ثم اخترعوا إلى جانب تارك الصلاة تارك العمل، فصار لهم سلاحان يحاربون بهما أهل السنة.
وهذا من جهلهم أو من إمعانهم في حرب أهل السنة والحديث، ذلك الأمر الذي لم يخطر ببال غلاة الخوارج.
ثم إنَّ أهل السنة المكفرين لتارك الصلاة لا يعتقدون أن له عملاً صالحاً مقبولاً عند الله .
ومع اعتقادهم هذا لم يطعنوا في إخوانهم الذين لم يكفروا تارك الصلاة كما أسلفنا.
فظهر أن المنهج الحدادي بعيد كل البعد عن منهج أهل السنة المكفرين لتارك الصلاة.
موقف الإمام أحمد من تارك العمل:
قال الخلال في "السنة" (1/588):
"أخبرنا محمد بن علي قال ثنا صالح قال سألت أبي ما زيادته ونقصانه قال زيادته العمل ونقصانه ترك العمل مثل تركه الصلاة والزكاة والحج وأداء الفرائض فهذا ينقص ويزيد بالعمل وقال إن كان قبل زيادته تاما فكيف يزيد التام فكما يزيد كذا ينقص وقد كان وكيع قال ترى إيمان الحجاج مثل إيمان أبي بكر وعمر رحمهما الله".
وقال الإمام أحمد –رحمه الله- في "طبقات الحنابلة" (1/343):
"والإيمان قول وعمل يزيد وينقص زيادته إذا أحسنت ونقصانه إذا أسأت ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحدا بها فإن تركها كسلا أو تهاونا كان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه".
فهذان نصان عن الإمام أحمد لا يكفر فيهما إلا بالشرك بالله العظيم، ولا يكفر بترك العمل.
موقف الإمام البربهاري:
قال الإمام البربهاري –رحمه الله- في "شرح السنة" (ص41):
"ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله فإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام فإذا لم يفعل شيئا من ذلك فهو مؤمن ومسلم بالاسم لا بالحقيقة".
موقف الإمام ابن بطة:
قال الإمام ابن بطة –رحمه الله- في (ص124-125) من الشرح والإبانة:
"ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله، أو برد فريضة من فرائض الله -عز وجل- جاحدا بها، فإن تركها تهاونا وكسلا كان في مشيئة الله -عز وجل-، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له" .
موقف ابن البناء:
قال ابن البناء -رحمه الله- في "الرد على المبتدعة" (ص 195):
"فصل وشفاعة نبينا -صلى الله عليه وسلم- في أهل الكبائر من أمته؛ خلافاً للقدرية في قولهم: (ليس له شفاعة).
ومن دخل النار عقوبة خرج منها عندنا؛ بشفاعته، وشفاعة غيره، ورحمة الله عز وجل؛ حتى لا يبقى في النار واحد قال مرة واحدة في دار الدنيا: لا إله إلا اللهمخلصاً، وآمن به، وإن لم يفعل الطاعات بعد ذلك".
أقول: وكان قد ذكر قبل هذا الكلام عدداً من أحاديث الشفاعة.
فهذه تصريحات واضحة من هؤلاء الأئمة في أقوالهم هذه بأن الموحدين يخرجون من النار بتوحيدهم ، وإن كانوا من تاركي الأعمال.
موقف الإمام ابن القيم :
قال –رحمه الله- في كتابه "حادي الأرواح" (ص272-273):
"الوجه العشرون انه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة فيقول عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما، فيلقيها في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه، فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار بحيث صاروا حمما وهو الفحم المحترق بالنار وظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، فإن لفظ الحديث هكذا فيقول: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله عز و جل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض الله قبضة من نار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط"، فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ومع هذا فأخرجتهم الرحمة.
ومن هذا رحمته سبحانه وتعالى للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر زعما منه بأنه يفوت الله سبحانه وتعالى فهذا قد شك في المعاد والقدرة ولم يعمل خيرا قط ومع هذا فقال له ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك وأنت تعلم فما تلافاه أن رحمه الله، فلله سبحانه وتعالى في خلقه حكم لا تبلغه([8]) عقول البشر وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: (يقول الله عز و جل أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام)".
1- الإمام ابن القيم بنى حكمه هنا على حديث أبي سعيد وأيده بحديث هذا الرجل الذي لم يعمل خيراً قط، وأمر أولاده أن يحرقوه...الحديث.
ولا شك أنه يؤمن بأحاديث الشفاعة الأخرى والأحاديث الواردة في فضل لا إله إلا الله وفضل التوحيد.
والذي نعرفه عن ابن القيم أنه كان يرى كفر تارك الصلاة.
لكنه لما وقف أمام حديث أبي سعيد في الشفاعة وما تلاه لم يسعه إلا الاستسلام لها والصدع بمضمونها.
وكذلك يقال عن الإمام أحمد، فإن له روايات عديدة في تكفير تارك الصلاة حيناً وعدم تكفيره حيناً آخر، وفي تكفير تارك الأركان تارة، وفي عدم تكفيره تارة أخرى.
والظاهر أن سبب اختلاف رواياته ثم فيأتُهُ إلى عدم التكفير هو استسلامه وإيمانه بأحاديث الشفاعة.
وقل مثل ذلك في شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه قد يرى كفر تارك الصلاة، لكنه إذا وقف أمام أحاديث الشفاعة استسلم لها وصدع بمضمونها.
والظاهر والله أعلم أن أخذ هؤلاء الأئمة بأحاديث الشفاعة هو الأخير، وهو الأصوب؛ لأن ذلك أخذ منهم بالجمع بين نصوص الوعد والوعيد، وهو المنهج الحق السديد الذي يخالف به أهل السنة الخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، ويهملون نصوص الوعد.
ويخالفون به غلاة المرجئة الذين يأخذون بنصوص الوعد ويهملون نصوص الوعيد.
2- وقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: " فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير".
فالظاهر أنه يعتقد أنهم من أهل التوحيد، وأنهم ليس عندهم شيء زائد على التوحيد أي يعتقد بظاهر الحديث أنهم لم يعملوا خيراً قط، والله أعلم.
3- لا ينسى المطلع على أحاديث رسول الله أن أحاديث الشفاعة تؤيد حديث أبي سعيد، ولا سيما حديث أنس، وكذلك قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لِمَنْ يَشَاءُ)كما يفهمها جمهور أهل السنة بخلاف الخوارج وغلاة المرجئة.
هذا ومن أئمة السنة من لا يُكفِّر إلا بترك الشهادتين أو يقع في نواقضها.
ومنهم:
1- الإمام محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة السلفية بعد الإمامين ابن تيمية وابن القيم .
قال في "الدرر السنية" (1/102): "وسئل الشيخ / محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله تعالى- عما يقاتل عليه؟ وعما يكفر الرجل به؟ فأجاب: أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة ؛ فالأربعة : إذا أقر بها، وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها ؛ والعلماء : اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود ؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان".
فعلماء الأمة اختلفوا في تكفير تارك الأركان كسلاً، وأجمعوا على تكفير تاركها جحوداً.
وأجمعوا على كفر تارك الشهادتين.
والإمام محمد لا يكفر إلا بما أجمعوا عليه وهو الشهادتان .
وقوله هذا نص واضح في عدم تكفير تارك العمل؛ إذ ليس وراء الأركان الخمسة من الأعمال ما يكفر به، بل نص على أنه لا يكفر إلا بما أجمعوا عليه، وهو الشهادتان .
2- ومنهم الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
قال –رحمه الله- في "الدرر السنية" (1/317) تأكيداً لما قاله الإمام محمد بن عبد الوهاب: "سألني الشريف عما نقاتل عليه، وما نكفّر به؟ فقال في الجواب: إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان بعد التعريف، إذا عرف ثم أنكر... ".
3- ومنهم الإمام عبد اللطيف آل الشيخ.
قال –رحمه الله- في "الدرر السنية" (1/467) مؤكداً ما قاله آباؤه:
" وأخبرتهم ببراءة الشيخ، من هذا المعتقد والمذهب وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله، من الشرك الأكبر والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه، من العبادات والإلهية وهذا: مجمع عليه أهل العلم والإيمان".
4- ومنهم الإمام ابن سحمان.
قال –رحمه الله- في "الضياء الشارق" (ص35)، مطابع الرياض: " فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة، ومن فرق بين ما فرق الله ورسوله من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة، وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب والكفر فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة. ونحن لم نكفر أحداً بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد كما حكاه في "الإعلام" لابن حجر الشافعي".
فهؤلاء كبار أئمة الدعوة السلفية في نجد لا يُكفرون في أقوالهم هذه إلا بما أجمعت الأمة على أنه كفر.
وعبارة الإمام محمد -رحمه الله-: "ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان".
والظاهر أن هذه المواقف من هؤلاء الأئمة إنما هي مبنية على الأخذ بأحاديث فضل كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، وعلى أحاديث الشفاعة في المذنبين التي هي مبنية على فضل ومكانة كلمة التوحيد، وما لقائلها المعتقد لمعناها المخلص فيها من الجزاء عند الله على تفاوت أهلها في العمل بمقتضاها والتقصير فيه ، وعلى تفاوتهم في هذا التقصير المؤدي إلى دخول النار، كما في أحاديث الشفاعة التي تبين هذا التفاوت، وقد سلف ذكرها قريباً.
هذا ولهؤلاء الأئمة أو لبعضهم أقوال أخرى يُكفرون فيها تارك الصلاة.
لكن المتأمل والناظر في الأدلة والإجماع الذي ذكروه يدرك أن المعتمَد عندهم هو هذا القول القائم على الأدلة المذكورة والإجماع.
فما رأي الحدادية في أقوال أهل التوحيد والسنة والحديث السابقين منهم واللاحقين؟
وما رأي أهل السنة المعاصرين وعلمائهم في طائفة الحدادية الذين يرمون أهل الحديث وأئمتهم بالإرجاء، بل يرمون كثيراً منهم بالتجهم؟
وأضيف إلى كلام هؤلاء الأئمة النبلاء كلام الإمام ابن باز –رحمه الله-.
فقد سئل عمن لا يُكفر تارك العمل هل هو مرجئ؟
فقال –رحمه الله-: "لا، هو من أهل السنة".
نشرتْ هذه الإجابة المنصفة "مجلة الفرقان" العدد (94)، السنة العاشرة، شوال، عام (1418هـ).
أي قبيل وفاته –رحمه الله – بسنتين.
وقد علم الحداديون بهذه الفتوى، لكنهم كعادتهم لا يرفعون رؤوسهم بكلام أئمة الإسلام السابقين واللاحقين، القائمة على الحجج والبراهين، كما هي عادة أهل الأهواء المبتدعين.
وفي الختام أقول:
اختلف أهل السنة في تكفير تارك الصلاة.
فذهب بعضهم إلى أنه كافر بالله.
واحتجوا بأحاديث، منها قول النبي –صلى الله عليه وسلم- : "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"، رواه مسلم حديث (82).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، رواه الترمذي في "سننه" حديث (2621).
ونحوهما.
وذهب بعضهم إلى عدم تكفيره الكفر الأكبر.
وأجابوا عن الأحاديث السابقة بأن المراد بالكفر: الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الإسلام.
وأن المراد من الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر عليه إنما هو التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة.
وهذا مثل قوله –صلى الله عليه وسلم- : «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
ومثل قوله –صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا».
يؤكد هذا القول الثاني أحاديث فضل التوحيد وفضل "لا إله إلا الله" وأحاديث الشفاعة المتواترة، وقد أسلفنا عدداً منها.
وفيها يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن شفاعته : "فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً"، كما في حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-.
ومن حديث عوف بن مالك –رضي الله عنه-: شَفَاعَتِي لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِي.
ونحوه من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهم-.
ومن حديث عبادة –رضي الله عنه-: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار.
ومن حديث معاذ قوله –صلى الله عليه وسلم-: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار.
إلى آخر الأحاديث، والمراد من التحريم على النار تحريم الخلود جمعا بين النصوص .
ويؤكد هذا المذهب حديث البطاقة.
وقبلها قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
وقد أسلفنا تسليم أهل الحديث وأئمتهم قاطبة وأئمة الإسلام بعدهم إلى يومنا هذا بما سلف إلا الخوارج وفرقة الحدادية.
وقدمنا أن أهل السنة المكفرين لتارك الصلاة والذين لا يكفرونه ما بين الطائفتين إلا المودة والتحاب في الله.
وأضيف الآن ووقوفهم جميعاً صفاً واحداً ضد أهل البدع من جهمية وخوارج وروافض ومرجئة يبينون ضلالهم ويحذرون منهم صيانة لدين الله وذباً عنه، وهذا بخلاف ما عليه الفرقة الحدادية التي جعلت شغلها الشاغل الحرب على أهل السنة والتوحيد.
فإذا تظاهروا بالكلام على بعض أهل البدع فإنما ذلك من ذر الرماد في العيون.
نسأل الله أن يثبتنا على دينه الحق وأن يتوفانا عليه وأن ينصر دينه على أهل الكفر والبدع والضلال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ربيع بن هادي عمير
29/5/1435هـ
[1] - أعتقد أن هذا الرجل لو نبّه إلى الشفاعات الأخرى التي نصّت عليها هذه الأحاديث لغيّر رأيه ولأخذ بما نصَّت عليه من الشفاعات الأخرى، ولغيّر رأيه هذا الذي تعلّقت به الفرقة الحدادية.
[2] - وهؤلاء الأئمة الذين رووا هذا الحديث وحديث أبي سعيد يؤمنون بما تضمّنه هذان الحديثان من الشفاعات في الأصناف المذكورة، وقبلهم الصحابة والتابعون الذين بلغهم هذان الحديثان وغيرهما من أحاديث الشفاعة، فما هو رأي الفرقة الحدادية فيهم؟
[3] - أضف أبا بكر وعمر وعثمان إلى آخرهم إلى من خالفهم من رووا أحاديث الشفاعة من الصحابة الكرام.
[4] - الظاهر أن هذا القول لا يثبت عن الإمام الزهري، ولهذا عبّر عنه الترمذي بصيغة التمريض "روي"، ولم يذكر له إسناداً، ولهذا تعقّبه الترمذي بالقول الصواب عن أهل العلم.
([5]) كذا في المطبوع.
([6]) في الأصل: (بها) وهو خطأ.
([7]) في الأصل: (من الإيمان) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.