الحلقة الثالثة من التعليق على تعقيب الأخ طارق سرايش
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فأولا: فقد كرر الأخ طارق كلامه حول تقييد الجزء الأول من كلام ابن عباس رضي الله عنه بالجزء الثاني، مدعيا أن الثاني ينقض مفهوم الجزء الأول، وهذا غلط نبهت مرارا على هذا الخطأ..
فما زال الأخ طارق يكرر خطأه في إهمال القيد والشرط وهو (إن خشيت أن يقتلك)، فيجعل أن النصيحة عند ابن عباس لا تكون إلا بينه وبين الأمير سرا، ولا يجوز له بحال من الأحوال أن ينكر عليه (علانية بحضور الأمير)..
مع أن مذهب ابن عباس رضي الله عنهما بخلاف ذلك، فهو قد أفتى سعيد بن جبير بالجواز بقيد عدم الخوف من القتل، ثم زاد بيانا أنه إن كان لا يلتفت لهذا القيد فعليه بالسرية وعدم التأنيب والتعنيف.
وأفتى طاوس بن كيسان بالجواز إن أمن الفتنة، ويتأكد الإنكار عليه إن أمره بمعصية، فعاد الأخ طارق ليجعل أثر طاوس مقيدا بالسرية، وحمل فتوى على فتوى!!
لئن كنت قلت بجمع طرق أثر واحد لتعرف الاختصار من عدمه، فما بالك تريد أن تحمل أثرا على أثر، وفتوى على فتوى، وتريد أن تجعل فتوى ابن عباس كأنه نص من قرآن أو سنة، مع أن ابن عباس رضي الله عنهما ثبت عنه في عدة مواطن الإنكار العلني لخطأ إمامه في غيبته وحضوره!
فنحن مع قولنا بحجية قول الصحابي بشروط وضوابط إلا أنها غير منطبقة هنا.
فخلاصة الأمر هنا هو بيان خطأ الأخ طارق سرايش في إلغائه لتقييد ابن عباس للحكم بخشية القتل، وتسويته بين وجودها وعدمها، وهذا خلل كبير في فهم الفتوى ..
------------------
ثانيا: أثر طاوس حجة على خطإ فهمك لجواب ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه أجاز لطاوس إن أمر بمعصية أن يأمر وينهى وأن يكون رجلا، وهذا اللفظ في جوابه لطاوس ليس مقيدا بسرية، بل ولا مقيدا بحضور السلطان نفسه شخصيا-إلا إن حملنا أن طاوس قصد أن السلطان أمره بمعصية حين قدومه عليه، وهذا ليس ظاهرا في السياق-، فقد يكون جاءه الأمر عن طريق شرطي أو مرسول ..
وهذا لفظه عند معمر في جامعه عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : أَلا أُقْدِمُ عَلَى هَذَا السُّلْطَانِ فآمُرُهُ وَأَنْهَاهُ؟ قَالَ : " لا، يَكُونُ لَكَ فِتْنَةً "، قَالَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ أَمَرَنِي بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ؟ قَالَ : " فَذَلِكَ الَّذِي تُرِيدُ، فَكُنْ حِينَئِذٍ رَجُلا "
وفي بعض الروايات: (ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه)، وفي لفظ: ( قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنْهَى أَمِيرِي عَنْ مَعْصِيَةٍ؟)
فهذا صريح من ابن عباس رضي الله عنهما في جواز الإنكار على الأمير إن أمره بمعصية، وأن يكون رجلا فلا يطيعه في المعصية، بل ينكر عليه هذا الأمر المخالف للشرع.
فكل هذا يؤكد أن الجزء الأول من أثر ابن عباس مستقل، ومفيد لحكم خاص، وهو تجويز ابن عباس رضي الله عنهما للإنكار على السلطان إن أمن من القتل، ثم بين له أنه إن كان لابد فاعلا على كل حال ولو مع وجود خشية القتل فليكن بينه وبينه سرا، ويكون بدون تعنيف ولا تأنيب.
----------------------
ثالثا: كررتَ الكلام حول اختصار الحديث، وقد ذكرت لك من الجواب أن الأثر يتكون من جملتين وجزئين، كل جزء مستقل عن الآخر، فاختصار الحديث في مثل هذا جائز، وهذا صنيع أئمة الحديث، يروونه مختصرا ومطولا..
وإنما الكلام حول الاختصار المخل بالمعنى وسياق الحديث، فهذا الذي يعاب على فاعله..
والظاهر من صنيع شعبة، ورواية من رواه من طريقه وهما البيهقي وابن عبدالبر في التمهيد لم يرياه اختصارا مخلا، ولم ينبها على ذلك..
وأكدت عدم وجود خلل بجواب ابن عباس رضي الله عنهما لطاوس بن كيسان، فقد تضمن الإنكار على السلطان دون تقييد بالسرية، مما يظهر جواز ذلك علانية في مذهب ابن عباس رضي الله عنهما حيث تأمن الفتنة، مع وجود إنكارات عملية علنية منه رضي الله عنه، مع أني لا أقول بهذا القول، لكني أبين دلالة الأثر حسب الرواية، وتحرير مذهب ابن عباس رضي الله عنهما.
---------------------
رابعا: سبق الكلام حول التعنيف ، وكلامي كان حول سياق كل رواية بعينها، ولذلك أنكرت عليك قضية التعنيف مع أنك تخرج في كتابتك عن تحرير المسألة إلى مسألة أخرى، ولا تتقيد بالمسألة موضع البحث..
فرواية : (إن خفت أن يقتلك فلا تؤنب الإمام , فإن كنت لا بد فاعلا فيما بينك وبينه) فهذا اللفظ قد يفهم منه جواز التأنيب سرا، ولكن رواية أبي عوانة تخالفها: (إن خشيت أن يقتلك فلا، فإن كنت فاعلا ففيما بينك وبينه، ولا تعب إمامك)..
لذلك لما ننتقل عن هذه المسألة إلى مسائل أخرى متعلقة بآداب نصيحة السلطان نقول بخطأ كلام ابن عباس رضي الله عنهما فيما يتعلق بالإنكار العلني سواء بدلالة بعض روايات أثر سعيد بن جبير أو رواية طاوس، أو بما ثبت عنه عمليا، فنقول: لا يجوز التأنيب لا سرا ولا جهرا، ولا نجيز الإنكار العلني لا أمامه ولا في غَيبته.
وقد رأيتك مرارا تخلط بين كلامي حول أثر ابن عباس، وبين اعتقادي في المسألة وتقريري الصحيح فيها، فتخلط بين قولي ، وبين شرحي للأثر ولو كان يخالف ما أعتقده صوابا، وهذا سبب بلبلة عند بعض العوام ممن لا يفرق بين شرح قول غيري، وشرح قولي واعتقادي وما أصححه وأصوبه..
فانتبه لهذا ولا تتعامل مع كلامي كتعامل بعض العوام ..
-------------
خامسا: قولك: [ كيف تنتقدني في هذا مع أنك أنت بنفسك يا شيخ أسامة قلت: «إن خفت أن يقتلك فلا تعنف السلطان يعني فمره بلا تعنيف، فإن كنت لا بد تريد أن تعنف السلطان أو تتكلم بجرأة فيكون بينك وبينه، يعني علق السرية في موضوع التعنيف»!!!
وكلامك هذا غير صحيح على إطلاقه، وإن كان محتملا إلا أن المراد بلا شك أصالة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ أنه هو الوارد في السؤال، وإلا يكون قد أخر البيان عن وقت الحاجة وهذا غير جائز].
التعليق: ما علاقة تأخير البيان عن وقت الحاجة هنا ، مع أن ابن عباس رضي الله عنهما قد بين، وكلامي واضح في أنه بين جواب السؤال، ولا يوجد شبهة تأخير البيان هنا في كلامي وشرحي للأثر حسب الرواية التي تناولتها بالكلام..
وفي التعليق الماضي تناولت قضية التعنيف وإنكارها عليك..
وبهذا القدر أكتفي
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه:
د. أسامة بن عطايا العتيبي
1/ 7 /1444هـ