إتحاف المتلهف على الرد المتلطف تساؤلات للدكتور الرحيلي
" الحلقة الأولى"
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه, كما يحب ربنا ويرضى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك, يضل من يشاء بعدله, ويهدي من يشاء برحمته, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد:
أما بعد:
فهذه الحلقة إنما هي طليعة جعلتها كتساؤلات لبعض ما ورد في رسالة الدكتور إبراهيم الرحيلي ، والتي اسماها " الرد المتلطف على النقد المتعسف", في رده على فضيلة الشيخ عبيد الجابري وفقه الله, ,وقبل البدء في هذه التساؤلات, فأود التنبيه إلى أمور مهمة هي:
أولا: أن الشيخ إبراهيم أكثر من النقولات عن شيخ الإسلام وغيره دون الحاجة في بعض المواطن إلى ذلك, إذ لا تجد في تكرار بعض النقولات مزية على ما سبقها سوى التكثر بالنقل.
ثانيا: قد تسوق الكتابة الدكتور إلى البعد عن محل النزاع, وبيت القصيد, وسيتضح هذا في موضعه.
ثالثا: أثقل الدكتور نقله بالاستطرادات الكثيرة, ولعل هذا الأسلوب صار الآن رائجا عند البعض, ونتج عنه أن بعض طلاب العلم صار يقيس الرد العلمي بالوزن, فما كان أكثر ورقا وأرجح وزنا وثقلا فهو الرد العلمي الذي لا يبارى ولا يجارى, وما كان مختصرا فهو مظنة الضعف وعدم التحقيق!! ولا يتنبه لهذا إلا أذكياء القراء ممن يميزون بين التحقيق وما كان شبهه وهو مفارق له.
وأما تساؤلاتي للدكتور فهي كالتالي حسب ورودها في رده:
التساؤل الأول: قلت في ردك المتلطف!!منتقدا الشيخ عبيدا: الاحتقار والاستصغار حتى في السن، إذ تكرر منه في كتابته كثيرا المخاطبة بقوله يا "بني".
وأقول : عجبي من فهمك أيها الدكتور, حين عددت خطاب عالم - يكاد ينتهي من العقد الثمانين من عمره – بقوله لك" يابني" استصغارا واحتقارا, أين الدعوى العريضة التي تدعو إليها من حسن الظن ومراعاته؟!, ولما لم تحمل ذلك على ترفقه بك, وحسن تعامله معك!!.
ثم على فرضية ما فهمته أنت؛ فهل يجوز لك مقابلة ذلك بالاحتقار والاستصغار, حتى قلت :"وقد اطلعت على كتاب لأخينا الشيخ عبيد الجابري!!", وهذه منك أعجب مما فهمته أنت من الشيخ, فأنت في سن أحد أبنائه, وبينك وبين الشيخ ما يقارب الثلاثين عاما, أيقال بعد هذا "لأخينا الشيخ" وتريد بعد ذلك أن يكون ردك متلطفا!! فأين الإنصاف فضيلة الدكتور؟!!
ثم أين التأدب مع عالم له مكانته عند أهل السنة في أصقاع العالم, ألست القائل –مبينا ومعلما- في نصيحتك للشباب:" مخاطبة المدعوين بالألقاب التي تتناسب مع مكانتهم" ، ألا جعلت الشيخ عبيدا من جملة مدعويّك؟!
التساؤل الثاني: لم تقبل كلمة "التمييع" وقلت بأنها "مصطلح اشتهر في بعض كلام المتأخرين ممن يسلك مسلك الغلو والتشدد من المنتسبين للسنة, ويطلق في موارد الذم على بعض أهل السنة الذين لم يجرؤوا على تبديعهم ويعنون به معنى متساهل أو متهاون وهذا الإطلاق خاطئ من ناحية اللغة والشرع" ثم ذهبت تبرهن على ذلك, وخلصت بأنه في اللغة يختص بالسوائل, وفي الشرع فهو مصطلح مبتدع في الجرح, بل وذكرت أن سلف القائلين بهذا اللفظ إنما هو سيد قطب وغيره من الإخوان المسلمين!.
وأقول: نقلت عن الجوهري قوله :" المَيْعُ: مصدر ماعَ السمنُ يَميعُ، إذا ذاب. والمَيْعُ: سيلان الشئ المصبوب" وأهملت قوله " والمَيْعَةُ أيضاً: صمغُ يسيل من شجرٍ ببلاد الروم...وما بقي منه شِبْه الثَجيرِ فهو المَيْعَةُ اليابسة" فهل اليابس يميع؟!!.
هذا أمر, وأمر آخر: قد جرى هذا اللفظ على لسان بعض العلماء وفي كتاباهم, ومن ذلك:
قول العلامة الألباني –رحمه الله - محذرا من التشبه بالكفار :"وذلك لأن التشبه هو مدعاة لإضاعة شخصية الأمة، ولتمييعها في شخصية أمة أخرى"اهـ.
وقال –رحمه الله- في رد بدعة ذكر الحسنات حال الرد: " إن كان يقوله أحد فهذا في الواقع من ليونةٍ بل من ميوعة بعض الدعاة العصريين اليوم حيث إنهم لا يقبلون الصدع بالحق لأن الصدع بالحق مر" اهـ سلسلة الهدى والنور.
وقال الشيخ الفوزان - حفظه الله - في الملخص الفقهي (2/ 504) : " وتشبها بالكفار والمنافقين وتحولاً من الرجولة والشهامة إلى الميوعة".
وثانيا: جعلك سلف العلماء القائلين بهذا الإخوان وسيد قطب!!
فماذا تقول لو نقلت لك -فضيلة الدكتور- عبارة واحدة لسيد قطب تضمنت بعض ألفاظك هنا, أيقال :إن هذه التعبيرات إنما استفدتها أنت من سيد قطب, وهو سلفك فيها؟!
قال سيد في تفسيره ظلال القرآن (1 / 409): "وما يبذل أعداء هذا الدين من جهد ومن حيلة ومن مكيدة ومن خداع، ومن كذب، ومن تدبير، للبس الحق بالباطل، وبث الريب والشكوك، وتبييت الشر والضر لهذه الأمة بلا وناة ولا انقطاع ثم مواجهة القرآن لهذا كله، بتبصير المؤمنين بحقيقة ما هم عليه من الحق وحقيقة ما عليه أعداؤهم من الباطل وحقيقة ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء, وأخيراً بتشريح هؤلاء الأعداء, طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم ونياتهم, على مشهد من الجماعة المسلمة، لتعريفها حقيقة أعدائها، وفضح ما يضفونه على أنفسهم من مظاهر العلم والمعرفة، وتبديد ثقة المخدوعين من المسلمين فيهم، وتنفيرهم من حالهم، وإسقاط دسائسهم بتركها مكشوفة عوراء، لا تخدع أحداً ولا تنطلي على أحد" اهـ
انظر إلى هذه الألفاظ التي استخدمها سيد في فقرة واحدة : مكيدة, خداع، كذب، تدبير، لبس الحق بالباطل, إسقاط... أليست هي بنحو تعبيراتك وألفاظك, أيا ترى هل مصدرك فيها كتب سيد قطب!! وسأعيد لك قولك ص11 : "وذلك أن بعض الناس لا ينتفع بالنصح حتى يعامل بنظير فعله فعند ذلك يدرك خطأه ويتعظ".
الأمر الثالث: أقول: من أين لك -فضيلة الدكتور- أن ألفاظ الجرح توقيفية, أو على أقل تقدير لابد أن تكون واردة عن الصحابة, ألا يعتبر هذا تحجيرا لأمر واسع, فلست أدري هل وصفك للشيخ عبيد بأنه تولى أمر "الإسقاط" عندك من ألفاظ الجرح أم من أساليب المدح والثناء أم هو وصف ؟!! وهل وردت لفظة "الإسقاط" عند الدارقطني أو ذكرها الحافظ والذهبي!! أم هي من مفردات المتأخرين والتي شغبوا بها على تحذيرات أهل العلم, بل وحكموا فيها على نياتهم ومقاصدهم؟!!
التساؤل الثالث: لقد هيمنت عليك –فضيلة الدكتور- قضية المؤامرة والتدبير, وسيطرت على مخيلتك مسألة الإسقاط, وجعلتها " مكيدة منظمة " حتى يتصور من يقرأ كلامك, بوجود منظمات سرية كمنظمات الموساد ليس لها شغل سوى تفريغ أشرطة الدكتور إبراهيم, وتتبع زلاته, والبحث عن مواطن الخلل, وهذا في الحقيقة غير موجود إلا في خيالك الواسع!!
فزلاتك يتناقلها طلابك ممن يحضر لك, وهي أوضح من أن ينقب عنها منقب, أو يفتش عنها مفتش, إنما هي أقوال لك سئل عنها العلماء, فأجابوا بيانا وتوضيحا, ولم يسلك معك أهل العلم ما ظننته أو اعتقدته.
ثم أقول لك فضيلة الدكتور: هل تتبع مقالات وأشرطة الشيخ ربيع وغيره من العلماء السلفيين, وإخراج الأخطاء من حواشي الحواشي, ومابين السطور, ومن مجالس سجلت خلسة, وجمع تلك الافتراءات, والحديث عنها في المجالس, والتشنيع على منهج الشيخ ربيع, وإضعاف مكانته بين الطلاب, واللقاءات التي تجمع بعض "الدكاترة" ببعض المنافحين عن منهج سيد قطب, والممجدين لأهل البدع والتكفيريين ثم مساندتهم في بيان مزالق مشايخ أهل السنة, وأخطائهم, وتتبع ذلك , هل ياترى يعدّ ذلك عندكم من جملة المؤامرة المحاكة على أهل السنة, أم إنه قربة وطاعة, ودفاع عن المنهج السلفي؟!!.
فضيلة الدكتور: كنت تحتاج إلى شيء من الإنصاف لترى أمرا أهملته أنت, وقضية غابت عنك, حين زللت – ولو في نظر غيرك- فقومك العلماء, فانشغلت بكشف منهجهم الغالي-فيما زعمت- وغفلت عن أخطائك وطريقتك في التعامل مع من تنتقدهم.
التساؤل الرابع: اتهمت الشيخ عبيدا بأنه تتبع زلاتك وأخطائك من أماكن متفرقة, ثم ذهبت تذكر اخطائه –في نظرك- أيضا من أماكن متفرقة, ففعلت ما أنكرته, وليس يعفوك من ذلك اعتذارك بأن هذا ليس من المجاراة في التنقيب, إذ لو كان الأمر كذلك لاكتفيت بمثال أو مثالين أو ثلاث وهو أقل الجمع !! لكنك اسهبت وشرحت وفصلت وأصّلت في أكثر من خمس عشرة صفحة!! كل ذلك في نظرك ليس من تتبع الأخطاء!! ولا من التنقيب!.
خامسا: تٌكثر -فضيلة الدكتور- من القول بالتأصيل العلمي والمنهجية العلمية, وأخللت بهذه الدعوى إذ ذكرت في ص11 قول: "السعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه", ثم ذكرت في الحاشية أن هذا المثل مروي عن ابن مسعود, وأحلت إلى زهر الأكم في الأمثال والحكم لنور الدين اليوسي!!, وبالرجوع إلى كتاب زهر الأكم, لم أجده ينسب هذا إلى ابن مسعود, إذ قال : "السعيد من وعظ بغيره. هذا مثل في الأمر بحسن التدبير. وتمامه: والشقي من وعظ بنفسه. ويروى الأول حديثا والله اعلم "اهـ , هذا أولا, وثانيا: هل كتب الأمثال هي من كتب تخريج الآثار فضيلة الأستاذ الدكتور؟!! وثالثا: اللفظ الوارد عن ابن مسعود رضي الله عنه كما في مسلم برقم (2645) هو: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره".
سادسا: انتقدت الشيخ عبيد على بعض المسائل والتي هي في نظرك مخالفة لإجماع أهل السنة!!: وهذه المسائل تعدادها كالتالي:
أ- أن الشيخ عبيدا -وفقه الله- عدّ الظالم لنفسه من أولياء الله:
ثم ذكر الدكتور إبراهيم أقوالا لشيخ الإسلام رحمه الله, يبرهن فيه على هذا الأمر, وأهمل أو جهل كلاما مهما لشيخ الإسلام, ولو قيل إن الدكتور إبراهيم خالف أهل السنة والجماعة في هذا الأمر لما أبعدنا النجعة, ومصداق ذلك قول شيخ الإسلام - رحمه الله- مجموع الفتاوى (10/7):" وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان: فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب حتى يمكن أن يثاب ويعاقب وهذا قول جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان". فمن الذي خالف قول الصحابة وقول أئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة يا فضيلة الدكتور؟!!.
وأما بيان الجمع بين كلام ابن تيمية الذي ذكره الدكتور, وبين هذا النقل فمحله الرد المطوّل بعون الله تعالى.
ب- أن الشيخ عبيدا نفى الدين عمن قصر في مراتب الدين الثلاثة, في قوله:"فلا دين حتى تكتمل هذه المراتب الثلاث عند العبد" وجعلت الكلام محتمل لتقديرين:
الأول: نفي لأصل الدين.
والثاني: نفي لكماله, سواء المستحب أو الواجب, وجعلت كل هذه التقديرات باطلة.
والعجيب أن في كلامك خلط شديد يا أستاذ العقيدة!, وللقارئ أن يتأمل عبارات الدكتور؛ ليقف بنفسه على ذلك, حيث قال:" أما نفي الكمال الواجب فلا يصح عمن لم يحقق مراتب الدين الثلاث على وجه الكمال, فإن هذه المراتب كما تقدم مشتملة على كل المشروع بمرتبتيه الواجب والمستحب, ولو لم يأت العبد بشيء من المستحبات , فلا يصح نفي الإيمان عنه, إذ الشعب المستحبة لا تدخل في مسمى الإيمان الواجب الذي ينفى الإيمان بترك شيء منه" اهـ
فالدكتور هنا خلط القول في كمال الإيمان الواجب, بكماله المستحب, حيث ابتدأ كلامه عن كمال الإيمان الواجب وختمه بالكلام عن كماله المستحب وخرج بنتيجة بناها على الفرع الثاني -وهو كمال الإيمان المستحب-, وهذه النتيجة خلاصتها أنه لايجوز نفي الدين عمن لم يحقق كمال الإيمان المستحب!!.
وأعجب من هذا أنه نقل عن شيخ الإسلام بعد ذلك قوله :" والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب؛ بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه؛ لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام: قد يراد به الكمال الواجب والكمال المستحب" فعجيب أمرك فضيلة الدكتور!!
إن النفي في قول الشيخ " فلا دين" لمن لم تكتمل عنده المراتب الثلاث, قد يتوجه إلى الكمال الواجب, والتعبير الذي ذكره الشيخ في هذا السياق هو أمر سار عليه العلماء ولم يفهم منهم التكفير الذي عرضت به في كلامك حول الشيخ عبيد الجابري, وإليك شيء من هذه العبارات والتي لم يقصد بها قائلوها من العلماء إخراج الناس من دين الإسلام:
قال ابن قتيبة في بيان مسلك صحيح في استعمال هذه اللفظة, في كتابه تأويل مختلف الحديث (ص 253):و"لَا دِينَ لَهُ" أَيْ: لَيْسَ بِمُسْتَكْمَلِ الدِّينِ"اهـ.
وقال العلامة البربهاري:"واعلم أنه لم تجئ بدعة قط إلا من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، فمن كان هكذا فلا دين له".
وقال ابن عبد البر رحمه الله الاستذكار (2 / 501), في شرحه لحديث " يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرءون القرآن، ولا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية " قال : "وفي هذا الحديث نص على أن القرآن قد يقرؤه من لا دين له ولا خير فيه ولا يجاوز لسانه وقد مضى هذا المعنى عند قول بن مسعود وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده" .
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله في الدرر السنية في الأجوبة النجدية (14/307).:"فالواجب عليكم، معشر المسلمين الغيرة على نسائكم، ومنعهن من الدخول على الرجال الأجانب، ومباشرتهن للأضياف، فإن غالب من لا غيرة له يرى أن من إكرام الضيف أن نساءه تخدمه، وهذا من الفضائح- عياذا بك اللهم من المخازي- التي تنكرها الفطر السليمة، والعقول المستقيمة؛ فالذي لا غيرة له، لا دين له"
يا دكتور العقيدة ماذا لو قلبنا عليك الأمر فقلنا يلزم من قولك هذا موافقة المرجئة في عدم تأثر دين الإنسان وإيمانه بنقص كمال إيمانه الواجب بسبب تفريطه في العمل الواجب عليه, أو فعله للمحرم المنهي عنه !, أما كان ينبغي عليك فهم الخطاب قبل التسرع في النقد دون روية وبصيرة؟!!
يتبع إن شاء الله.
كتبه
عبد الله بحيري
|