التفكر والاعتبار
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
عن عون بن عبد الله قال: قلت لأم الدرداء: أي عبادة أبي الدرداء كان أكثر؟ قالت: «التفكر والاعتبار». رواه ابن المبارك، ووكيع، والإمام أحمد، وأبو داود كلهم في كتبهم في الزهد، والنسائي في الكبرى وغيرهم وسنده صحيح.
وفي رواية لابن المبارك في الزهد: عن أم الدرداء أنه قيل لها: ما كان أكثر عمل أبي الدرداء؟ قالت: «التفكر» ، قالت: " نظر يوما إلى ثورين يخدان في الأرض مستقلين بعملهما إذ عنت أحدهما، فقام الآخر، فقال أبو الدرداء: «في هنا تفكر، استقلا بعملهما واجتمعا، فلما عنت أحدهما قام الآخر، كذلك المتعاونان على ذكر الله عز وجل».
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الفوائد: "معرفةُ اللهِ سُبْحَانَهُ نوعانِ:
معرفةُ إقرارٍ: وهي التي اشتركَ فِيهَا النَّاسُ؛ البَرُّ والفاجرُ، والمطيعُ والعاصي.
والثانِي: معرفةٌ تُوجِبُ الحياءَ منهُ والمحبّةَ لَهُ، وتعلُّقَ القلبِ به، والشَّوقَ إلى لقائِهِ، وخشيتَه، والإنابَةَ إليه، والأُنْسَ بهِ، والفرارَ منَ الخلقِ إليه.
وهذه هي المعرفةُ الخاصّةُ الجاريةُ على لِسانِ القومِ (1)، وتفاوتُهُم فِيهَا لا يُحصيهِ إلا الذي عرَّفَهم بنفسِه وكَشفَ لقلوبِهِم مِنْ معرِفَتِه ما أخفاهُ عن سِواهُم، وكلٌّ أشارَ إلى هذهِ المَعْرِفَةِ بحسبِ مَقامِهِ، وما كُشِفَ له منها.
وقد قال أَعْرَفُ الخلقِ بهِ: «لا أُحصِي ثناءً عليكَ، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِكَ» (2)،
وأخبرَ أنه سُبْحَانَهُ يُفْتَحُ عليه يومَ القيامَةِ منْ مَحامدِهِ بما لا يُحْسِنُهُ الآنَ (3).
ولهذهِ المعرفةِ بابانِ واسعانِ:
بابُ التفكُّرِ والتَّأمُّلِ فِي آياتِ القرآنِ كُلِّها، والفهمِ الخاصِّ عنِ اللهِ ورسولِهِ.
والبابُ الثانِي: التفكُّر فِي آياتِهِ المشهودةِ، وتأمُّلُ حكمتِهِ فِيهَا، وقدرتِه، ولطفِه، وإحسانِه، وعدلِهِ، وقيامِه بالقسطِ على خَلقِه.
وجِماعُ ذلكَ: الفِقهُ فِي مَعانِي أسمائِهِ الحسنى وجلالِهَا وكمالِهَا وتفرُّدِهِ بذلكَ وتعلُّقِهَا بالخلقِ والأمرِ؛ فيكونُ فقيهاً فِي أوامرِه ونواهيِه، فقيهاً فِي قضائِهِ وقدرِهِ، فقيهاً فِي أسمائِه وصفاتِه، فقيهاً فِي الحُكْمِ الديني الشَّرعِيِّ والحُكمِ الكونِيِّ القَدَرِيِّ، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]".
والله أعلم
كتبه:
د. أسامة بن عطايا العتيبي
12/ 6/ 1439 هـ
الهوامش:
(1) أي: المتكلمون بالمعرفة من زهاد أهل السنة وحكمائهم، وإن كان دخل فيهم من ليس منهم من المتفلسفة وأهل البدعة والبطالة من الصوفية المتأثرين بالمجوس والهندوس والفلاسفة وأهل الكلام.
(2) رواه مسلم في صحيحه (1/ 352 رقم 486) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) ورد في حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً: «فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَاذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآنَ، يُلْهِمُنِيهِ اللهُ». رواه البخاري (9/ 121رقم7410)، ومسلم (1/ 183رقم193) واللفظ له.