منتديات منابر النور العلمية

العودة   منتديات منابر النور العلمية > :: الـمـــنابـــر الـعـلـمـيـــة :: > المـــنـــــــــــــــــــــبـــــــــر الــــــــعـــــــــــــــــــــام

آخر المشاركات حكم الكلام أثناء قراءة القرآن (الكاتـب : أبو هريرة الكوني السلفي - )           »          خطب الجمعة والأعياد (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          مجالس شهر رمضان المبارك لعام 1445هـ (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          تسجيلات المحاضرات واللقاءات المتنوعة (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          جدول دروسي في شهر رمضان المبارك لعام 1445 هـ الموافق لعام2024م (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          تنبيه على شبهة يروجها الصعافقة الجزأريون الجدد وأتباع حزب الخارجي محمود الرضواني (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          صوتيات في الرد على الصعافقة وكشف علاقتهم بالإخوان وتعرية ثورتهم الكبرى على أهل السنة (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          راجع نفسك ومنهجك يا أخ مصطفى أحمد الخاضر (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )           »          [محاضرة] وقفات مع حادثة الإفك الجديدة | الشيخ عبد الله بن مرعي بن بريك (الكاتـب : أبو عبد الله الأثري - )           »          شرح كتاب (فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب) وكتاب (عمدة السالك وعدة الناسك) في الفقه الشافعي (الكاتـب : أسامة بن عطايا العتيبي - )

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-04-2012, 07:19 AM
أبو عبيدة إبراهيم الأثري أبو عبيدة إبراهيم الأثري غير متواجد حالياً
العضو المشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 390
شكراً: 1
تم شكره 24 مرة في 21 مشاركة
افتراضي الدعائم الايمانية للداعية الحلقة الثانية لفضيلة العلامة أبي عبد المعز فركوس حفظه الله

الدعائم الإيمانية للداعية
«الحلقة الثانية»
للشيخ أبي عبد المعز علي فركوس حفظه الله


الدِّعامة الثانية: صدقُ الإيمان الراسخ:

والمراد بهذا الركن أن يكون إيمانُ الداعية صادقًا وعميقًا راسخًا، بحيث يتيقَّن أنَّ الإسلام مصدرُ وحيٍ ودينُ حقٍّ، وأنَّ ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الله تعالى هو الهداية ليُخْرِج الناسَ من الظلمات إلى النور، وأنَّ الله هداه إلى دينه القويم الذي لا يقبل دينًا غيرَه وأمَرَه بالدعوة إليه.
فهذا الرسوخ في الإيمان العميق مؤسَّسٌ على علمٍ قطعيٍّ وبيِّنةٍ ثابتةٍ مستمَدَّةٍ من الإسلام ذاته ومستوحاةٍ من مقاصده ومراميه، فيمنعه من قَبول أيِّ تحوُّلٍ عمَّا تيقَّنه أو أدنى شكٍّ أو مساومةٍ فيما آمن به واعتقده، بل يَعتبر صاحبُه أنَّ أيَّ انحرافٍ عنه ضلالٌ واتِّباعٌ للهوى، وقد جاء في التنزيل قولُه تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 56]، أمَّا من تتخطَّفه الشُّبَهُ وتؤثِّر فيه الشكوكُ أو يضطرب إذا ما صادفتْه محنةٌ أو عارضتْه فتنةٌ أو شدَّةٌ؛ فهذا مرتابٌ ضعيف الإيمان سريعُ الميلان متقلِّبٌ أشْبَهُ بالمنافق الذي وصَفَه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]، ذلك لأنَّ المنافق يدخل في الدين على طَرَفٍ، فإن وجد ما يُحِبُّه ويُصلح له دنياه أقام العبادةَ واستقرَّ عليها، وإن وجد ما لا يُحبُّه وتغيَّرت عليه دنياه وفسدت انقلب عن العبادة وصَرَفَ نفْسَه عنها، فإن ألمَّت به شدَّةٌ أو أصابته فتنةٌ أو محنةٌ ترك دينَه وارتدَّ عنه، فلا هو حصل من الدنيا على شيءٍ، وأمَّا في الآخرة فهو في غاية الشقاء والإهانة(١).
وهذا الإيمان الراسخ ضروريٌّ للداعي إلى الله تعالى، فإنه يثبِّته اللهُ به على الحقِّ اليقين، فلا يتحوَّل عنه مهما لاقى من فتنٍ ومحنٍ، ولا يتأثَّر إيمانُه الصادق العميق ولا يزول بأيِّ سببٍ خارجيٍّ مهما كان نوعُه وطبيعته، سواءً اجتمعت عليه قوى الشرِّ والفساد أو اقترنت شبهات المضلِّين بخوارق العادات، أو انصرف عنه الناس ولم يستجب له إلاَّ القليلُ أو تركوه جميعًا، فإنه لا يضعف أمام الجبهات المؤذية ولا للكثرة المعادية، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن نوحٍ عليه السلام أنه لبث في قومه ألْفَ سنةٍ إلاَّ خمسين عامًا يدعوهم إلى عبادة الله وحده ولم يؤمن معه إلاَّ قليلٌ، ومع ذلك لم يتسرَّبْ إلى صفاء قلبه كدرُ الشكِّ والارتياب، بل بقي قائمًا بالحقِّ ثابتًا عليه وموصولاً به يدعو إليه، فكذلك الداعيةُ المسلم ينبغي أن لا يتزعزع إيمانه الراسخ بما هو عليه حالُ الأمَّة وضعْفُ كلمة الإسلام فيها، ولا تُدْهِشَه صولةُ الكفَّار على المسلمين وجولُتهم، ولا تزلزلَه قذائف الباطل ومثاراتُ الشكوك والشبهاتِ على أحقِّية الإسلام وصدْقِ القرآن، سواءً من الكَفَرَة الفَجَرَة أو من أدعياء الإسلام وعلماء السوء المستترين وراء كلمة الإسلام التي ينطقونها بألسنتهم ويُبدونها في مجالسهم، ويبيِّتون مكرًا شديدًا وكيدًا عظيمًا وضلالاً مبينًا، بل الداعية إلى الله تعالى يفرح بالإسلام والقرآن، ولا يزداد بهما إلاَّ إيمانًا وتثبيتًا، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]، ولا تستهويه أحوالُ وأهوالُ المتربِّصين والشانئين والمناوئين لهذا الدين ولا تُضعفه، بل على العكس تدفعه للمزيد من بَذْلِ الجهد والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى.
هذا، ولا يتخلَّف عن ذهن المتأمِّل المتفحِّص ما يولِّده الإيمان العميق الراسخ من ثمراتٍ طيِّبةٍ ولوازمَ حسنةٍ، وهي كثيرة العدد جليلة القدر، وتأتي في طليعة ثمرات الإيمان الراسخ:
الأولى: محبَّة العبد لربِّه ومحبَّةُ ما جاء به اللهُ من العلم والعمل، وتقديمُ مرادِه على ما سواه، وهي محبَّةٌ مستلزمةٌ لغاية الذلِّ والخضوع، وهي أعلى الحبِّ وأرْفَعُه قدرًا، قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة: 165]، وهذه المحبَّة تخلِّف أثرًا طيِّبًا يُحسُّ العبد بحلاوته من منطلق ثلاث مقاماتٍ:
مقام التكميل: وهو كمال حبِّ الله ورسولِه، وتقديمُ محبَّتهما على ما سواهما إلى أبعد الحدود والغايات.
مقام التفريق: وهو التفريق بين ما يحبُّه الله تعالى من الأقوال والأعمال والأشخاص وبين ما يُبغضه، فيحبُّ العبد ما يحبُّه ويُبغض ما يُبغضه الله.
مقام دفع الضدِّ: وهو أن يكره ما يضادُّ الإيمانَ أعْظَمَ من كراهيته الإلقاءَ في النار، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»(٢).
وللمحبَّة علاماتٌ منها:
- اتِّباع الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في هديه، والاقتداءُ به في سيرته وفي دعوته، وطاعتُه في أوامره، واجتنابُ نواهيه لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وقولِه تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ﴾ [الأحزاب: 21]، وقولِه تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»(٣)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(٤).
- الشعور بالشفقة والرحمة على المؤمنين متجلِّيةً في ذلَّةٍ مشروعةٍ لقوله تعالى في صفة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع أصحابه: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، وبقدر ما هو ليِّنٌ رحيمٌ بالمؤمنين فهو قويٌّ على الكافرين، عزيزٌ في ظاهره وباطنه، شديدٌ لا يُحسُّ بهوانٍ أو استكانةٍ أمامهم ولا بصغارٍ في غَيْبتهم، قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ [الفتح: 29].
- الجهاد في سبيل الله، وهو الاجتهاد في حصول المطالب العليا التي يُحبُّها الله من الإيمان والعمل الصالح، ودفعِ ما يُبغضه من الكفر والفسوق والعصيان، لا يردُّه عمَّا هو فيه مِن طاعة الله والدعوةِ إليه وإقامةِ الحدود ونصرةِ الحقِّ وقتالِ أعدائه والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، لا يردُّه عن ذلك كلِّه رادٌّ، ولا يصدُّه عنه صادٌّ، ولا يحول منه لومُ اللائمين، ولا يمنعه منه عذلُ العاذلين(٥)، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ [المائدة: 54]، ويتبلور جهادُ الداعيةِ المبذولُ في دوام النشاط في طاعة الله والاشتغالِ بقضايا دعوته والتفكيرِ في وسائلها ودعائمها وطريقِ تحصيل الغاية منها، ويبقى حريصًا على إنجاح عمله، يُؤْثر دائمًا ما يُحبُّه محبوبُه من غير مبالاةٍ بالمشاقِّ التي تعترضه والأتعابِ التي تصيبه حتَّى يتمَّ التبليغُ والتبيينُ وتيسيرُ سُبُلِ الهداية للناس، وهو في ذلك يقدِّم المحبَّةَ الشرعية على المحبَّة الفطرية الغريزية من محبَّة الآباء والأولاد والأهل والعشيرة والأموال والأوطان، وسائرِ ملاذِّ الدنيا وحُطامها، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].
والداعية إلى الله تعالى إن ترك موالاةَ الله بموافقته فيما يحبُّ ويكره، ولم يبذلِ الجهدَ في تحصيل ما يحبُّه الله من أنواع الطاعات وسائر الخيرات، ودفعِ ما يكرهه من الكفر والفسوق والعصيان؛ كان ذلك علامةً ظاهرةً على ضَعْفِه في تحقيق إحدى أصول العبادة وهي محبَّةُ الله تعالى.
هذا، ومن لوازم تلك المحبَّة: الإكثارُ من تلاوة القرآن وذكرِ الله في جميع أحواله، بالإضافة إلى تلذُّذِه بالقيام بالطاعة على غير وجه استثقالٍ ولا استيحاشٍ، بل يتنعَّم بطاعته ويأنس بمناجاة ربِّه ويأسف على كلِّ فراغٍ ضائعٍ في غير ذكرِ الله، وعلى كلِّ وقتٍ فاته في غير طاعته، ومن لوازمها -أيضًا- أن يُؤثر ما يحبُّه الله ورسوله على ما يحبُّه هو في ظاهره وباطنه، فلا يغضبُ لنفسه، وإنما يغضب لربِّه غيرةً لله إذا ما انتُهكت محارمُه، ويحبُّ لقاءَ الله لمحبَّة المحبِّ لحبيبه، لذلك فهو لا يكره الموتَ إذا جاءه، لأنه مفتاح لقائه مع الله تعالى وطريقُ الوصول إليه.
وليس بخافٍ على الداعية إلى الله أنَّ محبَّة الله تعالى هي النافعة في الآخرة وحدها، وهي سبب كلِّ محبَّةٍ دينيةٍ أخرى: مِن محبَّة الرسول ومحبَّةِ المؤمنين، فإنها ترجع إليها لكونها مبنيَّةً عليها، فكلُّ محبَّةٍ خَلَتْ من محبَّة الله فهي دنيويةٌ لا نفْعَ فيها في الآخرة، بل عاقبتُها العداوةُ والبغضاء، قال تعالى: ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]، وقال تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ [البقرة: 166]، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: المودَّة أي: المحبَّة(٦)، لذلك كان من مَهمَّات الداعية إلى الله أن يدعوَ الناسَ إلى أن يبنوا علاقتَهم على محبَّة الله الجامعةِ لأنواع المحبَّة، وأن يؤسِّسوا عليها النيَّاتِ والمعتقداتِ والأقوالَ والأعمال.
الثانية: خوف العبد من ربِّه
ومِن ثمرات الإيمان الراسخِ أن تنبعث في القلب خشيةٌ من توقُّع المكروه، سواءً كان متيقَّنًا أو مظنونًا، والمراد بالخوف الصيرورةُ إلى أبعدِ غاياته ومنتهى كماله، بحيث لا يخاف شيئًا أعْظَمَ من الله تعالى، ذلك لأنَّ الخوف موجِبُ الهروب إلى الله مع اقترانه بحلاوةٍ وطمأنينةٍ وسكينةٍ ومحبَّةٍ(٧)، فالخوفُ عبودية القلب لا تصلح إلاَّ لله وحده، وهو شرط تحقيق الإيمان لقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، ومنشأُ خوفِ العبد من الله: علمُه بالجناية وقبحِها، وتصديقُه بوعيد الله على ارتكابها، وأنَّ عصيانه وعدمَ القيام بحقِّ الله تعالى يُفضي إلى ترتيب العقوبة عليه، كما يعلم أنَّ المعاصيَ قد تحول بينه وبين التوبة وهكذا، فازديادُ الخوف من الله والرهبةِ من حصول المكروه في نفس العبد إنما يكون بازدياد معرفته بالله وفِقْهِ عِظَم الجناية في مخالفة ربِّ البريَّة، وبالعكس ينقص الخوف من الله لِنَقْصِ معرفته به تعالى، فبحَسَبِ معرفته بالله وفِقْهِه لحجم الجريمة ونوعها تكون قوَّةُ الخوف وضَعْفُه(٨)، ولهذا قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَاللهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ»(٩)، وقد أخبر الله تعالى أنَّ العلماء هم أخشى الناس لله تعالى، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
والداعي إلى الله إذا استشعر خوفَ الله أقبل على كلِّ ما أمر الله به وابتعد عن كلِّ ما نهى عنه، وأخذ الوقايةَ من كلِّ الآثام المفضية إلى العقوبات في الآخرة، وفي طليعة الوقايةِ تقوى الله، وعلى رأس تقوى الله الجهادُ في سبيله، ومنه الدعوة إليه.
والداعي إلى الله حتَّى يستشعرَ حلاوةَ عبادةِ الخوف من الله ينبغي أن يقترن خوفُه بذلِّه لله وخضوعِه له وانكسارِه بين يديه، ويُذعنَ لأحكام الله ويَصْدُقَ في الامتثال لطاعته، مِن غير أن يُوصله خوفُه من الله إلى سوء الظنِّ به أو القنوط من رحمته، وقد أثنى الله تعالى على أنبيائه بالخوف منه، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90]، كما امتدح عبادَه المؤمنين بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57-61].
إنَّ ازدياد خوف العبد من ربِّه ورهبته من عقابه وعذابِه يُكسبه هدىً ورحمةً، وهما من ثمرات الإيمان الراسخ ومِن لوازم الخوف من الله، كما أخبر الله تعالى بقوله: ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: 154].
الثالثة: رجاء العبد ربَّه:
ومن الآثار الطيِّبة التي يُثمرها الإيمان الراسخ: الرجاء، وهو طلبُ ما عند الله تعالى من الرحمة والثوابِ والفضل والنِّعَمِ، والمطلوبُ هو كمال الرجاء وغايتُه؛ لأنَّ كلَّ فضلٍ فالله واهبُه، وكلَّ نعمةٍ فالله معطيها، فهو الصمد سبحانه المقصودُ في الحوائج، لذلك كان كمال الرجاء لا يصلح إلاَّ لله تعالى، وقد أثنى الله على أنبيائه به فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90].
ولا يتحقَّق رجاءُ المطيع في ثواب الله ورضوانِه، ولا رجاءُ التائب في عفو الله ومغفرته إلاَّ باعتراف العبد بلطف الله وكرمِه وإنعامه وإحسانه، وصدقِ الرغبة فيما عند الله تعالى، والاجتهادِ في القيام بالأعمال الصالحة، والمسابقةِ في الخيرات، فتلك أسبابٌ موجِبةٌ لرحمة الله ورضوانه وتأييدِه ونصرِه، لذلك لا ينبغي لراجي رحمة ربِّه أن يقنط من رحمة الله أو ييأس من رَوْحه، فقد وعد الله تعالى عبادَه المؤمنين وعدًا صادقًا بحصول رحمته، ومَنَعَهم من القنوط واليأس منها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
ولا يُعَدُّ راجيًا من فرَّط في أسباب الرجاء وقصَّر في العمل الصالح أو لم تَصْدُقْ رغبتُه فيما عند الله تعالى، فهذا رجاء المتمادي في المعاصي الذي يطلب الثوابَ بلا عملٍ ولا توبةٍ تمنِّيًا وغرورً(١٠).
والداعية الصادق يدفعه إيمانُه الراسخ إلى تحصيل أسباب الرحمة والتأييد والقَبول ما وَسِعَتْه قدرتُه بالوجه المطلوب شرعًا من غير تسويفٍ ولا تأخيرٍ، وهو في ذلك يرجو من الله أن يعينه في تصحيح أعماله ومساعيه، وأن يوفِّقه للاستمرار على تحصيل أسباب القَبول من غير أن يقترن بسريرته أدنى قنوطٍ أو يأسٍ، فهو يعلم أنَّ الله تعالى صادقٌ في وَعْدِه، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لذلك يؤمن إيمانًا جازمًا أنَّ وَعْدَ الله متحقِّقٌ للمؤمنين الصادقين وللدعاة العاملين بالنصر والتأييد والتمكينِ والثواب الجزيل، قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
فهذه من ثمرات الإيمان الراسخ: محبَّةٌ وخوفٌ ورجاءٌ، وهي الأصول التي تقوم عليها العبادة، ولا تتمُّ العبادة إلاَّ باجتماعها جميعًا في قلب المؤمن الصادقِ مقرونةً بلوازمها، لذلك فكلُّ داعيةٍ يدَّعي محبَّةَ الله والخوفَ منه ورجاءَه ثمَّ لم يُذْعِنْ لأحكام الله وأوامره ونواهيه على وجه الذلِّ والخضوع فهو مبطلٌ منحرفٌ عن سواء السبيل، وأيُّ انفرادٍ بإحدى العبادات الثلاث في قلب العبد قد يحصل له من جرَّاء تخلُّف بعضِها خطأٌ في مسلكه العقديِّ والدعويِّ، وقد أفصح بعضُ السلف عن هذا المعنى بقوله: «من عبد الله بالحبِّ وحده فهو زنديقٌ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئٌ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروريٌّ، ومن عبده بالحبِّ والخوف والرجاء فهو مؤمنٌ موحِّدٌ»(١١).
الجزائر في: أوَّل جمادى الثانية 1433ﻫ
الموافق: 22 أفريل 2012م
-يتبع-
١- انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 209).

٢- أخرجه البخاري في «الإيمان» باب حلاوة الإيمان (16)، ومسلم في «الإيمان» (43) من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.

٣- أخرجه مسلم في «الحج» (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٤- أخرجه البخاري في«الإيمان» باب: حبِّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم من الإيمان (15)، ومسلم في «الإيمان» (44) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

٥- انظر: «تفسير ابن كثير» (2/ 70).

٦- انظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 477)، «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (2/ 132).

٧- «مدارج السالكين» لابن القيِّم (1/ 514).

٨- انظر: «طريق الهجرتين» لابن القيِّم (413).

٩- أخرجه أحمد (24912). وهو في البخاري في «الإيمان» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنا أعلمكم بالله» وأنَّ المعرفة فعلُ القلب (20)، ولفظه: «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللهِ أَنَا».

١٠- انظر: «مدارج السالكين» لابن القيِّم (2/ 36).

١١- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (10/ 81، 207، 11/ 390، 15/ 21)، «معارج القبول» للحكمي (2/ 437)
منقول من موقع الشيخ حفظه الله
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:39 AM.


powered by vbulletin