هل اذا قال الفلكيون انه سيكون كسوف فهل يصلى من دون رؤيته ؟ العلامة ابن عثيمين يجيبك
قال الشيخ ابن عثيمين في " الشرح الممتع " في الجزء الخامس عند بداية كلامه عن أحكام الكسوف :
لكن هناك سبب شرعي لا يُعلم إلا عن طريق الوحي ، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم .
والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده " ؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله .
فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد ؛ ليرجعوا إلى الله ، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة ، ولهذا لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي ؛ لأن الله يعلم سبب الكسوف الحسي ، ولكن لا حاجة لنا به ، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس ، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم .
أما الأسباب الشرعية ، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس ، فهي التي يبيّنها الله للعباد .
فإن قال قائل : كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي ، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع ، والشرعي معلوم بطريق الوحي ، فكيف يمكن أن نجمع بينهما ؟
فالجواب : أن لا تنافي بينهما ؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض ، والزلازل ، والصواعق ، وشبهها التي يحس الناس بضررها ، وأنها عقوبة ، لها أسباب طبيعية ، يقدرها الله حتى تكون المسببات ، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد ، فالزلازل لها أسباب ، والصواعق لها أسباب ، والبراكين لها أسباب ، والعواصف لها أسباب ، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى : " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " [ الروم :41 ] ، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي ، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر ، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى كأنه صار أمراً عادياً ، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً ، وصاروا يبكون بكاءً شديداً ، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين ، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس أول مرة في عهده وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا ، ففزع الناس ، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً عظيماً حتى إنه أدرك بردائه ، أي : من شدة فزعه قام بالإزار قاصداً المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به ، وجعل يجره ، أي : لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه ، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة ؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم . فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها .
آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة ، حتى إن بعض الصحابة - مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير - تعبوا تعباً شديداً من طول قيامه عليه الصلاة والسلام ، وركع ركوعاً طويلاً ، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة ، والناس يبكون يفزعون إلى الله ، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في هذا المقام ، يقول : " فلم أرَ يوماً قط أفظع من هذا اليوم " ؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها ، أي : رجع القهقهرى خوفاً من لفحها ، سبحان الله ! فالأمر عظيم ! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين ، كما يتصوره الناس اليوم ، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله .
يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم ، فالأغاني تسمع ، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز ، وإلا فالناس سادرون لاهون ، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام ، ويجب الاهتمام به .
مسألة : هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع ؟
الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس ، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه ، وتروضت النفوس له ، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي ، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها.
ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة .
ولو قال قائل : ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء ؟
فالجواب : نقول : لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به .
مسألة : إذا قال الفلكيون : إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتم ذلك فصلوا " ، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي .ا.هـ.
بارك الله فيك اخي ورحم الله شخنا وأسكنه فسيح جناته
__________________
عن يحيى بن عون: قال: دخلتُ مع سحنون على ابن القصار وهو مريض، فقال: ما هذا القلق ؟ قال له: الموت والقدوم على الله. قال له سحنون: ألست مصدقاً بالرسل والبعث والحساب، والجنة والنار، وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر، ثم عمر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى يوم القيامة، وأنه على العرش استوى، ولا تخرج على الأئمة بالسيف، وإن جاروا. قال: إي والله، فقال: مت إذا شئت، مت إذا شئت.
__________________
روى اللالكائي عن أوس الربعي أنّه كان يقول: " لأن يجاورني القردة و الخنازير في دار، أحب إليّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء".أ.هـ شرح أصول اعتقاد أهل السنةوالجماعة ص 131