بيان بطلان قاعدة لا تقبل توبة المجروح إلا إذا قبلها الجارح
بيان بطلان قاعدة لا تقبل توبة المجروح إلا إذا قبلها الجارح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن من القواعد البدعية التي أحدثها بعض المبتدعة أن العالم إذا جرح شخصاً فإنه لا يزول جرحه حتى يُبين ذلك الجارح نفسه أن الشخص المجروح لم يعد مجروحا، أو يشهد له بأن تراجعه صحيح.
وهذه قاعدة مخالفة للكتاب والسنة وللإجماع، وبيان بطلانها من وجوه:
الوجه الأول: أنها قاعدة مخترعة محدثة، لم يطلقها عالم، ولم يذكرها أحد من أهل العلم في الكتب، ولم يدل عليها دليل.
الوجه الثاني: أن الجرح هو إخبار عن وجود أمر قادح في المجروح.
فبقاء الجَرح يدور مع الجُرح وجودا وعدما.
فمن جُرح بأنه مرجئ فتاب، وأعلن البراءة من مذهب المرجئة، وقرر مذهب السلف ظاهرا وباطنا، فزال الجُرح عنه زال الجَرح عنه ولابد.
وفي تراجم بعض الرواة: كان مرجئا فتاب، وكان قدريا فتاب، ولا يقبلون وصفه بشيء تاب منه.
الوجه الثالث: أن توبة المجروح من أسباب جرحه توبة ظاهرة شهد لها بعض أئمة الحديث كافٍ في الإخبار عنه بأنه غير مجروح.
والله عز وجل أمر بالتوبة، ومقتضاها زوال الذنب، والله عز وجل أمر بالتوبة، وبين أنها تكفر الذنوب، وتمحوها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
فمن تاب مما يوجب الجرح لم يبق للجرح أثر على مذهب أهل السنة.
الوجه الرابع: أن الشخص المجروح إذا تاب وزال عنه الجرح، وشهد له بعض أئمة الحديث بزوال جرحه كان الإخبار بأنه مجروح من الكذب والبهتان.
وذلك لأن الإخبار عن الشخص بخلاف الواقع عمدا كذب ظاهر وموجب للفسق.
الوجه الخامس: أن العالم الذي جرح شخصا بأمور بعضها جرح متفق على الجرح به، وبعضها جرح على رأيه وحده بدون دليل على أنه جرح، فلا يجوز امتحان الناس بالأمور الاجتهادية التي لا ترجع إلى نص أو إجماع.
فإذا جرح عالمٌ شخصا بأنه ارتكب عدة ذنوب واضحة ثم ذكر أن من ذنوبه أنه كان لا يحرك أصبعه في التشهد، وإنما يجعل إصبعه منصوبا .
فإذا تاب المجروح من جميع الذنوب سوى عدم تحريك الإصبع في التشهد، وبقي الجارح على جرحه لذلك الشخص لم يكن هذا مانعا من قبول توبته وزوال الجرح عنه، لكون هذا الأمر ليس ذنبا، ولا معصية، والجارح مخطئ بجرحه به.
فتعليق توبة الشخص بذلك الأمر خطأ، وفيه نوع من الظلم والعدوان.
الوجه السادس: أن تلك القاعدة يلزم منها أن من جرحه عالم ثم ضَل ذلك العالم أو ارتد أو مات فإن الشخص يبقى مجروحا وهذا ضلال مبين.
أو يزول جرحه، فزواله بتوبة المجروح مما جرح به وشهادة بعض أهل العلم كاف في زوال الجرح عنه.
الوجه السابع: أن من مفاسد تلك القاعدة أن يتمنى بعضهم موت العالم أو ضلاله وانحرافه ليزول الجرح مع صاحبه وهذا ضلال وانحراف.
وقد رأينا من حرص بعض المفتونين على تضليل بعض المشايخ والسعي في إسقاطهم ليسقط جرح أولئك المشايخ لهم.
الوجه الثامن: أن معظم الجروح من الصفات العارضة، وتزول بزوال هذه العوارض، وبعضها لا يزول لكونها ملازمة كالخرف والاختلاط .
فما كان من جرح عارض فإنه يزول بزواله.
وثمة خلاف بين العلماء في قبول توبة الساحر، وتوبة من تكررت زندقته، وتوبة من تكرر كذبه وتوبته من الكذب.
الوجه التاسع: أن من تاب مما جرح منه ظاهرا ثم تبين أنه لم يتب منه فهذا لا ينفعه ما زعمه من التوبة، ولا تنفعه شهادة عالم له ما دام أن الذي جرح به ما زال موجودا، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
فتعليق زوال الجرح بتراجع الجارح نفسه تعليق بأمر خارج عن العلة للحكم، ومخالف للشرع.
الوجه العاشر: أن من لوازم تلك القاعدة الفاسدة أن الجارح إذا رضي عن المجروح زال الجرح ولو لم يذهب سبب الجرح، وإذا غضب عليه بقي الجرح ولو ذهبت أسباب الجرح، وهذا رد القضية إلى الهوى فهو داخل في قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه).
وهذا من اتباع الهوى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
والواجب اتباع الهدى، والبراءة من الهوى.
وفي الختام أنصح السلفيين بسلوك المنهج السلفي الرصين، والثبات عليه، والبعد عن المناهج البدعية، والقواعد الفاسدة، والأهواء المضلة.
وأنصحهم بترك الكلام في مسائل العلم بالجهل والهوى، فقضايا ومسائل وقواعد الجرح والتعديل يرجع فيها للعلماء لا لغيرهم، ولهذا العلم رجاله، ولا يؤخذ من كل أحد.
فإذا قلت لشخص: فلان سلفي ثقة، فقال لك: هو مجروح.
فطالبته بدليل الجرح، فقال: جرحه الشيخ فلان، فقل له: قد زكاه الشيخ فلان فما دليل الجرح لنتبعه.
فقال لك: أنت لا تقبل قول الجارح فأنت لا تحترم دلك العالم وتطعن فيه بردك لجرحه، فقل له: كذبت، أنا أحترم العالم، وأحبه، ومن احترامي له عدم تقليده بدون دليل، فلست بهيمة، ولست أخوض في عرض مسلم بغير دليل ما دام أن هذا الشخص قد عدله أئمة متخصصون.
فإن قال لك: قد جرحه العالم بجرح مفسر كالكذب، فقل له: الكذب جرح مفسر، ولكن ما هو الدليل الذي طالبتك به على جرح العالم له، فإنك لم تذكر دليلا.
فإن قال لك: لا أدري، اذهب للعالم فاسأله.
فقل له: لم أتمكن من سؤاله، ولا يحل لي قبول قول بدون دليل، لا سيما مع وجود معارض أقوى منه.
فإن قال لك: إن العالم قد جرحه بجرح مفسر، والعالم ثقة فيجب قبول خبره، والوثوق بدينه.
فقل له: كلامك هذا فيمن عدل بتعديل مبهم، وكذلك فيمن لم تثبت عدالته واشتهرت ديانته، وعرف بعلمه، أما من كان سلفيا معروفا وعدله علماء أجلاء فهم أيضا ثقات وأهل ديانة وقد أخبروا بأنه سلفي ثقة، ويجب قبول خبرهم، فالجارح والمعدل كلهم ثقات أمناء لا نشك في دينهم، وقد تعارضت أخبارهم، فلم يكن قول بعضهم على بعض حجة، ويبقى السلفي ثقة على الأصل الذي عرف واشتهر به، حتى يأتي الجارح بدليل واضح صحيح على جرحه.
فإن قال: إن الجرح مقدم على التعديل، والجرح المفسر مقدم على التعديل.
فقل له: هذه القواعد عامة مضبوطة بقواعد أخرى، كقاعدة ثبوت الجرح إلى الجارح فلا يكون ضعيفا عنه، وكذلك بكون الجرح ثابتا عن المجروح لا يكون مكذوبا عليه أو متوهما، وكذلك من اشتهرت عدالته وأمانته فلا يقبل جرحه إلا بدليل واضح بين، كذلك ينظر هل هناك خصومة شخصية بين الجارح والمجروح، وكذلك هل هناك اختلاف في المذهب يوجب النزاع والخصومة المؤدية لذلك الجرح.
فهذه قضايا خطيرة، لا يجوز لأمثالك أن يتكلم فيها، بل يبتعد عن الخصومة بين العلماء والمشايخ.
فإن قال: صدقت ، واجتنب الخوض في هذه المشاكل، فهو صاحب عاقل.
وإن جادل وماحك وأصر على الدخول في الفتنة فإنه مفتون فلا تتجادل معه، وادع له بالهداية والصلاح، ولا تقبل بأي خوض منه ولا من أمثاله في هذه القضايا.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
كتبه:
أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي
2/ شوال/ 1436هـ
|