الردع والتبكيت بالمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت (03) للشيخ العتيبي -حفظه الله -
الردع والتبكيت بالمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت (الفصل الثالث)
معنى الدين ، وبيان تلبيس المقدسي في ذَلِكَ
الدين لغة :
"الدين" مصدر مشتق من الفعل الثلاثي "دان" ، وهو تارة يتعدى بنفسه ، وتارة باللام ، وتارة بالباء .
1- فإذا تعدى بنفسه يكون "دانه" بمعنى : ملكه وساسه ، وقهره وحاسبه وجازاه .
ومنه "الدين" بمعنى : الجزاء والحساب ، ولذلك سمِّي يوم القيامة بـ"يوم الدين" لأنه يوم يحاسب الله فيه الخلائق .
قال تعالى: {مالك يوم الدِّين}، وقال تعالى: {وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين * وما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ لله} [الانفطار: 14-17].
وقال تعالى: {اليوم تُجْزى كلُّ نفس بما كسبت لا ظلم اليومَ إنَّ الله سريع الحساب} [غافر : 17 ].
2- وإذا تعدى باللام يكون "دان له" بمعنى : خضع له ، وأطاعه.
وقد تقدر اللام ولكن يدل عليها السياق.
قال تعالى: { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29]
قال ابن جرير -رحمَهُ اللهُ- : "يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم : {قاتلوا} أيها المؤمنون : القومَ {الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} يقول: ولا يصدقون بجنة ولا نار ، {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق} يقولُ: ولا يطيعون الله طاعة الحق يعني: أنهم لا يطيعون طاعة أهل الإسلام {من الذين أوتوا الكتاب} وهم اليهود والنصارى وكل مطيع ملكاً أو ذا سلطان فهو دائن له ، يقال منه: دانَ فلانٌ لِفلانٍ فهو يدين له دينا.
قال زهير: لئن حللت بجو في بني أسد ## في دين عمرو وحالت بيننا فدك" تفسير الطبري(10/109).
3- وإذا تعدى بالباء يكون "دان به" بمعنى: اتَّخذه ديناً ومذهباً واعتاده ، وتخلق به ، واعتقده (1).
وقد ورد في الحديث عن زياد بن جهور قال: ورد عليه كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه : ((بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زياد بن جهور ، سلم أنت ، فإني أحمد الله إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: فإني أذكرك الله واليوم الآخر ، أما بعد فليوضعن كل دين دان به الناس إلا الإسلام فاعلم ذلك)) رواه الطبراني في معاجمه وسنده فيه مجاهيل.
وروى إسحاق بن راهويه في مسنده(2/193) بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة يسمون الحمس ، وسائر العرب تقف بعرفة ، فأمر الله عز وجل نبيه أن يقف بعرفة ن ثم يدفع منها، ثم أنزل الله عز وجل : {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}.
الدين شرعاً: هو اعتقاد قداسة ذات ، ومجموعة السلوك الذي يدل على الخضوع لتلك الذات ذلاً وحباً ، ورغبة ورهبة (2)
وعرفه الكثير بأنه : الشرع الإلهي المتلقى عن طريق الوحي .
والأول أصح لأنه يشمل الدين الحق والباطل كما قال تعالى: {لكم دينكم ولي دين}.
ودين الإسلام هو : الاستسلام لله بالتوحيد ، والانقياد له بالطاعة ، والخلوص من الشرك والبراءة منه ومن أهله.
فمعنى الدين راجع إلى معنى العبادة التي لا تكون إلا مع الخضوع ، والخوف والرجاء والمحبة كما يظهر ذلك من تعريف الدين في الشرع ، ومما سبق بيانه في الفصل الأول عند بيان معنى العبادة.
فلا بد من التفريق بين معنى "الدين" في اللغة ، وبين الدين في الشرع .
فقوله تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله} ليس معناه في دينه الشركي الكفري ، وإنما في مُلْك الملك وتحت سلطانه .
فكونه في دين الملك وتحت سلطانه ليس كفراً ولا شركاً إذا كان موحداً غير متدين بدين غير الإسلام.
قال ابن جرير الطبري -رحمَهُ اللهُ- : "يقول ما كان يوسف ليأخذ أخاه في حكم ملك مصر وقضائه وطاعته منهم ، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يسترق أحد بالسرق ، فلم يكن ليوسف أخذ أخيه في حكم ملك أرضه إلا أن يشاء الله بكيده الذي كاده له ، حتى أسلم من وجد في وعائه الصواع إخوته ورفقاؤه بحكمهم عليه ، وطابت أنفسهم بالتسليم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل" تفسير الطبري(13/24) .
[center]
تلبيس المقدسي وتحريفه معنى الدين
بعد أن بينت معنى الدين، وأن التدين لا يكون إلا بما تكون به العبادة من خضوع وذل ومحبة ورغبة ورهبة.
أما إذا سلك مسلكاً لا يخضع ولا يذل له، ولا يرغب ولا يرهب منه وله فليس ذلك بدين يتعبد به المرء.
وسأنقل كلام المقدسي الذي لبَّس فيه ثُمَّ أبين ما فيه من الأبَاطِيْلِ
قال المقدسي(ص/15-16) : " فقد قال تعالى { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ} والإسلام دين الله الحق الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم وأما الديمقراطية فهي دين اخترعه اليونان .
وهي دون شك ليست من دين الله فهي قطعاً ليس من الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} وهؤلاء القوم يُصرِّحون ويُعلنون دوماً مُختارين غير مُكرهين بل فخورين مسرورين بأن الديمقراطية وليس الإسلام خيارهم الوحيد .
والديمقراطية مع الإسلام لا يجتمعان إذ لا يقبل الله إلا الإسلام الخالص، والإسلام الذي هو دين الله الخالص جعل التشريع والحكم لله وحده أما الديمقراطية فهي دين شركي كفري جعلت الحكم والتشريع للشعب لا لله ، والله جلّ ذكره لا يقبل ولا يرضى أن يجمع المرء بين الكفر وبين الإسلام أو بين الشرك والتوحيد. بل لا يُقبل الإسلام والتوحيد ولا يصح إلا إذا كفر المرء وتبرأ من كل دين غير دين الله الخالص .
قال تعالى عن يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" . وفي رواية عند مسلم أيضاً "من وحّد الله . . ." الحديث .
وليست الأديان فقط هي النصرانية واليهودية بل وأيضاً الشيوعية والديمقراطية ونحوها من الملل والمذاهب الأرضية الكافرة فلا بد من البراءة من جميع الملل والنِّحل والمذاهب الباطلة ليقبل الله دين الإسلام .
فكما أنه لا يجوز في دين الله أن يكون الإنسان مسلماً نصرانياً أو مسلماً يهودياً فكذلك لا يرضى الله أن يكون المرء مسلماً ديمقراطياً فالإسلام دين الله والديمقراطية دين كفري .
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
هذا إذا جمعوا بين الإسلام والديمقراطية فكيف إذا تركوا الإسلام وأعرضوا عن تشريعه وأحكامه وحدوده واختاروا الديمقراطية وحكمها وتشريعها. ".
وقال (ص/16) : " بل هم في دينهم الذي يدينون به أعظم عندهم من الله فأحكام الله تُعطّل ويُضرب بها عرض الحائط ومن عارضها أو حادّها أو حاربها أو استهزأ بها فهو حبيبهم ووليُّهم يحميه قانونهم ويكفل له حرية الاعتقاد وحق الحياة مع أنه في دين الله مرتد. "
فأقول جواباً على أباطيله:
زعم المقدسي أن الديمقراطية دين يدان بها، وأنها تقابل دين اليهودية والنصرانية والإسلام دُوْنَ تفصيل، ولا مراعاة للعرف السائد بَيْنَ كَثِيْرٍ مِنَ المسلمين!!
وهذا مبني على خلل في معرفة ما هية الدين، وماهية الديمقراطية، وكيفية التعامل مَعَ الألفاظ والمصلحات الحادثة ...
فالديمقراطية في أصلها كفر بالله العظيم، وتنقض دين الإسلام، كمن يسب الله ورسوله، أو من يهين المصحف..
لأنها حكم الشعب بالشعب للشعب، ويكون الشعب هو صاحب التحليل والتحريم، وأن أوامر الله ونواهيه لا علاقة لها بالحكم والسياسة .
فمن يعتقد بهذه الديمقراطية، ويتدين بها، فهذا هو الذي يقال: إنه اتخذ ديناًَ مستقلاً.
ومن يعتقد بهذه الديمقراطية، ولا يتدين بها، وإنما ينقض بها التدين من عنقه فهو كافر ..
ولكن واقع كَثِيْرٍ منَ الناسِ بخلاف هذا..
فالديمقراطية صار لها معنًى عرفي بين الناس يختلف عن معناها الأصلي الكفري.
فالعرف بين الناس من عامتهم، وكبار الدعاة الإسلاميين، والمثقفين أن الديمقراطية تعني : الشورى في الإسلام بحيث يستطيع الشخص أن يدلى بمشورته ورأيه، وأن يكون اختيار الحاكم أو رجالات الحكومة عن طريق استشارة الشعب.
فهذا وإن كَانَ باطلاً فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ هو المراد بالديمقراطية عند كثير من الناس، وقد كان ينادي بهذه الديمقراطية أَوْ يشارك فِيْهَا كبار الشخصيات المنتسبة للدعوة إلى الله –رغم كونهم مِنْ أَهْلِ البدعة- كالمودودي الَّذِي يرى أن الإسلام بإرسائه مبدأ الشورى دين ديمقراطي، ولذلك فقد دعى إلى إعطاء الديمقراطية فرصة لتتكيف وتنجح في البلدان الإسلامية (3) ، وحسن البنا الَّذِي ترشح للانتخابات النيابية في مصر مرتين، ، وحسن الهضيبيس، وعمر التلمساني، وحامد أبو النصر، والقرضاوي، والغزالي، ومصطفى السباعي وعبد المجيد الزنداني وكثيرون غيرهم.
وَكَذَلِكَ سيد قطب قَدْ نادى بأعظم مبادئ الديمقراطية الكافرة وَهِيَ الحرية الدينية المطلقة حَيْثُ قَالَ فِي كتابه "نحو مجتمع إسلامي" (ص/105) : " فالإسلام لا يريد حرية العبادة لأتباعه وحدهم، إنما يقرر هذا الحق لأصحاب الديانات المخالفة، ويكلف المسلمين أن يدافعوا عن هذا الحق للجميع، ويأذن لهم في القتال تحت هذه الراية، راية ضمان حرية العبادة لجميع المتدينين… وبذلك يحقق أنه نظام عالمي حر، يستطيع الجميع أن يعيشوا في ظله آمنين، متمتعين بحرياتهم الدينية، على قدم المساواة مع المسلمين، وبحماية المسلمين".
وقَالَ يوسف القرضاوي : "حينما نتحدث عن الديمقراطية لابد أن نتحدث على بصيرة، فكثير من المسلمين الذين يقولون بأن الديمقراطية منكر أو كفر أو إنها ضد الإسلام لم يعرفوا جوهر الديمقراطية، ولم يدركوا هدفها ولا القيم التي تقوم عليها. لقد قال علماؤنا من قديم بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، بمعنى أننا إذا لم نتصور الشيء فلا يجوز أن نحكم له ولا عليه.
لا أرى أن الديمقراطية بجوهرها تنافي الإسلام، لأنها تقوم على أن يختار الناس من يحكمهم، فلا يقود الناس من يكرهون ولا يفرض عليهم نظام لا يرضون عَنْهُ" (4)
ويقول راشد الغنوشي: "إن مفهوم الديمقراطية مفهوم واسع يتسع لمعان كثيرة ولكنها قد تلتقي عند معنى أنها نظام سياسي يجعل السلطة للشعب ويمنح المحكومين الحق في اختيار حكامهم وفي التأثير فيهم والضغط عليهم وعند الاقتضاء تغييرهم عبر آليات قد تختلف من نظام ديمقراطي إلى آخر ولكنها تلتقي عند آلية الانتخاب الحر. وبالتالي يحقق هذا النظام التداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع ويضمن للناس حريات عامة، كالتعبير وتكوين الأحزاب، كما يضمن استقلال القضاء. وبالتالي فالديمقراطية آلية تضمن للشعب سيادته على النظام السياسي وتحقق جملة من المضامين والقيم التي تصون الحقوق وتحمي الحريات وتحصن الناس ضد الجور والاستبداد.
يتوجس بعض الناس من الديمقراطية لأنها مصطلح أجنبي جاء من الغرب الذي لا يرجو منه البعض خيراً وقد أتانا مستعمراً . هذا مع أن ديننا ليس فيه ما يمنعنا من أن نأخد بكل خير أقره العقل وأثبتت التجربة جدواه. ولعل من أسباب رفض البعض للديمقراطية أننا ورثنا الاستبداد كابراً عن كابر لزمن طويل.." (5)
بل قَالَ الدُّكْتُور عصام العريان- العضو في جماعة الإخوان المسلمين والأمين المساعد فِي نقابة الأطباء المصرية وعضو مجلس الشعب السابق-: ".. مدرسة "الإخوان المسلمين"، وهذه المدرسة تتميز باختيارات فقهيَّة تعتمد الشورى والديمقراطية في بنائها الداخلي، فهي تعتمد القانون الأساسي (الدستور)، الذي يبيَن غايات وأهداف وأقسام الحركة، وهي تتبنَّى طريق الانتخابات في اختيار المرشحين لمواقع المسئولية، عن طريق التنافس وِفْق اللوائح المنظمة لعمل الهيئات المكونة للحركة.
هذا الاختيار قائم منذ تأسيس "الإخوان"، والذين يشاركون بنشاط في الحياة العامة والانتخابات البرلمانية"(6) .
بل وقال حامد أبو النصر: "لا مانع من وجود حزب علماني أو شيوعي في ظل الحكم الإسلامي" (7)
فالديمقراطية عند هؤلاء لا تتعارض مع الإسلام، بل يرون أنها متوافقة معه، ومباحة وفق اجتهاداتهم الخاطئ وفهمهم للنصوص.
وهؤلاء غاية ما يقال إنهم متأولون مخطؤون إذا كانوا مقرين بأصل دين الإسلام، ولم يرتكبوا ما يناقضه، بل ظنوها داخلة تحت الشورى الإسلامية..
وكذلك من اغتر بقولهم من عامة الناس والمثقفين، وقلدهم فله حكمهم لا سيما حين يكون من يقول بها موحداً لم يقم به ناقض من نواقض الإسلام.
وَهَذَا حال كَثِيْر مِنَ السياسيين والصحفيين يدعون إلَى الديمقراطية حسب التَّفْسِيْرِ السابق، وهم لا يدركون حقيقتها ولا يتفهمون خطرها عَلَى الأُمَّة الإسلامية.
وإن كَانَ بَعْضُهُمْ يَظْهَرُ مِنْهُ إرادة إشاعة الفاحشة بل وَالكُفْر بل وتصحيح دين الكفار باسم الديمقراطية فَهَذَا نَوْع، والأولون ومن اغتر بقولهم نَوْع آخر.
فيجب التفصيل بـمراعاة عرف المتكلم، ومراده باللفظ المشترك.
ولا أقول هذا تصحيحاً لهذا العرف، ولا تصويباً لهذا الفهم، بل هو باطل قطعاً، وما ظنوه ما هو إلا وهم وخيال.
[1] ولكن مراعاة العرف عند الحكم على مقالة وقائلها أمر مهم جداً، لا سيما في حقِّ من يظن حسن قصده وإن لم يوفق للصواب.
قال الشيرازي في اللمع(ص/10) : " إذا ورد لفظ قد وضع في اللغة لمعنى وفي العرف لمعنى حمل على ما ثبت له في العرف لأن العرف طارئ على اللغة فكان الحكم له".
وَهَذَا التعميم العاري منَ التفصيل هُوَ مِنْ أسباب تكفير الْمَقْدِسِيِّ لكثير منَ الْمُسْلِمِيْنَ حَتَّى كَانَ لا يصلي هُوَ وحزبه خلف مَن يظن أَنَّ الديمقراطية منَ الإسْلام عَلَى وفق فهمه الخاطئ للشورى وللديمقراطية.
قَالَ البركتي فِي قواعد الفِقْهِ(ص/578) : " مسألة ينبغي لكل مفت أن ينظر إلى عادة أهل بلده فيما لا يخالف الشَّرِيْعَةِ، فإن للعرف اعتباراً في الشرع، فللمفتي اتباع العرف الحادث في الألفاظ العرفية، وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان فِي زمانه وتغير عرفه إلى عرف آخر بعد أن يكون المفتي ممن له رأي ونظر صحيح ومعرفة بقواعد الشرع، وإن لم يكن مجتهداً حتى يميز بين العرف الذي يجوز بناء الأحكام عليه وبين غَيْرِهِ".
وقَالَ ابن القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي إِعْلامِ الْمُوَقِّعِيْنَ(3/50-52) : " المثال الثامن مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة: موجبات الأيمان والإقرار والنذور وغيرها.
فمن ذلك أن الحالف إذا حلف: لا ركبت دابة، وكان في بلد عُرْفُهُمْ في لفظ الدابة: الحِمَارُ خاصَّةً؛ اختصت يمينه بِهِ، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل، وإن كان عرفهم في لفظ الدابة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار. وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب، فيفتي في كل بلد بحسب عرف أهله، ويفتي كل أحد بحسب عادته.
وكذلك إذا حلف: "لا أكلت رأساً" في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك حنث بأكل رؤوسها...
وعلى هذا إذا قيل له جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة فَقَالَ: ليس كَذَلِكَ، بل هما حران لا أعلم عليهما فاحشة، فالحق المقطوع به أنهما لا يعتقان بذلك لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تَعَالَى، فإنه لم يرد ذلك قَطْعاً، واللفظ مع القرائن المذكورة ليس صريحا في العتق ولا ظاهراً فِيْهِ، ولا محتملاً لَهُ، فإخراج عبده أو أمته عن ملكه بِذَلِكَ غَيْرُ جائز.
ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا أنه قَالَ لامرأته: إن أذِنْتُ لك في الخروج إلى الحَمَّامِ فأنتِ طالق، فتهيأت للخروج إلى الحمام فقال لها: اخرجي وابصري، فاستفتى بعض النَّاس، فأفتوه بأنها قد طلقت مِنْهُ، فقال للمفتي: بأي شيء أوقعت عَلَيَّ الطلاق؟ قَالَ: بقولك لها: اخرجي، فَقَالَ: إني لم أقل لها ذلك إذناً وإنما قلته تهديداً أيْ: إنك لا يمكنكِ الخروج، وهذا كقوله تَعَالَى: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}[فصلت: 40] فهل هذا إذنٌ لهم أن يعملوا ما شاؤوا؟ فَقَالَ: لا أَدْرِي، أنت لفظت بالإذن، فقال لَهُ: ما أردت الإذن.
فلم يفقه المفتي هَذَا، وَغَلُظَ حِجَابُهُ عن إدراكِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امرأتِهِ بما لم يأذن به الله ورسوله، ولا أحد من أئمة الاسلام.
وليت شعري هل يقول هذا المفتى إن قوله تَعَالَى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}[الكهف:29] إِذْنٌ لَهُ في الكُفْر؟!!
وهؤلاء أبعد الناس عن الفهم عن الله ورسوله وعن المطلقين مقاصدهم.
ومن هذا اذا قال العبد لسيده -وقد استعمله في عَمَل يشق عَلَيْهِ-: أعتقني من هذا العَمَل، فَقَالَ: أعتقتك، ولم ينو إزالة ملكه عَنْهُ؛ لم يعتق بِذَلِكَ.
وكذلك إذا قال عن امرأته: هذه أختي، ونوى أختى في الدين لم تحرم بِذَلِكَ، ولم يكن مظاهراً.
والصريح لم يكن موجباً لحكمه لذاته، وإنما أوجبه لأنا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه؛ لجريان اللفظ على لسانه اختيارا، فإذا ظهر قصده بخلاف معناه لم يجز أن يُلْزَمَ بما لم يُرِدْهِ، ولا التزمه، ولا خطر بباله، بل إلزامه بذلك جناية على الشرع، وعلى المكلف.
والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرهاً لما لم يقصد معناها، ولا نواها، فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرهاً لا يلزمه شيء من ذَلِكَ؛ لعدم نيته وقصده، وقد أتى باللفظ الصريح.
فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم بِهِ، والله تعالى رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بِغَيْرِ تلفظ أو عمل كما رفعها عمن تلفظ باللفظ مِنْ غَيْر قصد لمعناه، ولا إرادة.
ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقاً مِنْ غَيْر قصد لفرح أو دهش وغير ذَلِكَ، كما في حديث الفرح الالهي بتوبة العَبْدِ، وضرب مثل ذلك بمن فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، فأيس منها ثم وجدها فَقَالَ: اللهم أنت عبدي وأنا ربك: ((أخطأ من شدة الفرح)) ولم يؤاخذ بِذَلِكَ، وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ بِذَلِكَ.
ومن هذا قوله تَعَالَى: {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم}[يُونُسَ: 11] قال السَّلَف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب، ولو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عَلَيْهِ، ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الداعي لم يقصده".
وَمَا أشبه الْمَقْدِسِيّ بِذَلِكَ المفتي الَّذِي ذكر ابنُ القَيِّمِ قصته.
[2] وَكَذَا يُراعى قصد المتكلم فِي الألفاظ الحادثة الَّتِي تَتَضَمَّنُ حقاً وباطلاً، كَمَا بيَّنَهُ العُلَمَاء فِي لفظة "الجهة" ، و"الحيِّز" وَنَحْو ذَلِكَ منَ الألفاظ الشاملة لحق وباطل.
قَالَ شَيْخُ الإسْلام ابن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي التدمرية-كَمَا فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى(3/41)- : " وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أَحَدٍ، بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قُبِلَ، وإن أراد باطلا رُدَّ، وإنِ اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه بل يوقف اللفظ ويفسر الْمَعْنَى.
كما تنازع الناس فى الجهة والتحيز وغير ذَلِكَ، فلفظ الجهة قد يراد به شىء موجود غير الله، فيكون مخلوقاً كما اذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السَّمَوَاتِ، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تَعَالَى، كما اذا أريد بالجهة ما فوق العالم.
ومعلوم أنه ليس فى النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوقية، والعروج إليه ونحو ذَلِكَ، وقد علم أن ما ثَمَّ مَوْجُودٌ إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس فى مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شىء من مخلوقاته.
فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم، مباين للمخلوقات .
وكذلك يقال لمن قَالَ: "الله فى جهة" أتريد بذلك أن الله فوق العالم أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟
فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل".
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى(5/299-300) : "أَوَّلاً: لفظ الجسم والحيز والجهة ألفاظ فيها إجمال وإبهام، وهي ألفاظ اصطلاحية، وقد يراد بها معان متنوعة. ولم يرد الكتاب والسنة فى هذه الالفاظ لا بنفي ولا إثبات ولا جاء عن أحد من سلف الأمة وأئمتها فيها نفي ولا إثبات أَصْلاً، فالمعارضة بها ليست معارضة بدلالة شرعية، لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع، بل ولا أثر، لا عن صاحب أو تابع، ولا إمام من الْمُسْلِمِيْنَ.
بل الأئمة الكبار أنكروا على المتكلمين بها، وجعلوهم من أهل الكلام الباطل المبتدع، وقالوا فيهم أقوالاً غليظة معروفة عن الأَئِمَّة، كقول الشافعي رحمه الله: حكمي فى أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وبالجملة فمعلوم أن الألفاظ نوعان: لفظ ورد فى الكتاب والسنة أو الاجماع فهذا اللفظ يجب القول بموجبه سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه، لأن الرسول لا يقول إلا حقاً، والأمة لا تجتمع على ضلالة.
والثاني لفظ لم يرد به دليل شرعي؛ كهذه الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام والفلسفة، هذا يَقُول: هو متحيز، وهذا يَقُول: ليس بمتحيز، وهذا يَقُول: هو في جهة، وهذا يَقُول: ليس هو في جهة، وهذا يَقُول: هو جسم أو جوهر، وهذا يَقُول: ليس بجسم ولا جوهر، فهذه الألفاظ ليس على أحد أن يقول فيها بنفي ولا إثبات حتى يستفسر المتكلم بِذَلِكَ، فإن بَيَّنَ أنه أثبت حقاً أثبته، وإن أثبت باطلاً رده، وإن نفى باطلاً نفاه، وإن نفى حقاً لم ينفه، وكثير من هؤلاء يجمعون في هذه الأسماء بين الحق والباطل في النفي والإثبات...".
والموقف مِنْهَا هُوَ ردُّ اللَّفْظِ، والاستفصال فِي الْمَعْنَى، فقبل أَنْ نكفر النَّاس ونخرجهم مِنَ الملة بدعوتهم للديمقراطية نطالبهم بتفسير مرادهم بالديمقراطية، فَإِنْ وصفوا معنًى حقاً كالشورى، والحرية الَّتِي حدَّهَا الشرع فنقول لَهُ: أصبت الْمَعْنَى وأخطأت اللَّفْظَ.
وإن قَالوا: أردنا بالديمقراطية الحرية الدينية الَّتِي تسمح بالكفر ونشره فِي الصحف، وتبيح الردة، ونريد منَ الشعب أَنْ يكونوا هُمُ المشرعين دُوْنَ الرجوع إلَى الشرع واعتماده أساساً وحيداً للتشريع، فنقول لَهُمْ: أخطأتمُ اللَّفْظَ والمعنى . وتبعاً للتفصيل يَكُون التعامل مَعَ القائل.
ولا يلزم أَنْ يسأل المطالب بالديمقراطية عَنْ مراده إِذَا كَانَ قَدْ بيَّنَ مراده فِي وسائل الإعلام أَوْ فِي شَيْءٍ كتبه أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ أمام الملإ.
لِذَلِكَ يَكُون زَعَمَ الْمَقْدِسِيِّ بأنَّ مَنْ يطالب بالديمقراطية فقدِ اتخذها ديناً ويُكَفَّرُ بِذَلِكَ دُوْنَ تفصيل، ولا بيانٍ، ولا إقامة حجةٍ زَعْماً باطلاً مَبْنِيًّا عَلَى عقيدته الخارجية الباطلة.
وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
كتَبَهُ: أبو عمر أسامةُ العُتَيْبِي
الهوامش والحواشي
(1) انظر: دراسات في الأديان للدكتور سعود الخلف(ص/6)
(2) انظر: انظر: دراسات في الأديان للدكتور سعود الخلف(ص/7) .
(3) انْظُر: الفكر السياسي لراشد الغنوشي وموقفة من الديمقراطية
(4) في ندوة تلفزيونية بثتها محطة الجزيرة الفضائية ضمن برنامج الشريعة والحياة يوم الأحد 16 شباط (فبراير) 1997..
(5) انْظُر: الفكر السياسي لراشد الغنوشي وموقفة من الديمقراطية
(6) مقال فِي الموقع الرسمي لجماعة الإخوان الْمُسْلِمُونَ بعنوان: " في تطبيق للشورى والديمقراطية الداخلية"
(7) جريدة النور الصادرة في ربيع الأول 1407 نقلا عن الطريق إلى الجماعة الأم (ص183)
|