الردع والتبكيت بالمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت (04) للشيخ العتيبي -حفظه الله-
الردع والتبكيت بالمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت (الفصل الرابع)
معنى شرك الطاعة وبيان جهالات وتلبيسات المقدسي
إن مِنْ أشهر مَا يلبس بِهِ الخوارج وَعَلَى رأسهم الْمَقْدِسِيُّ عَلَى النَّاس مَا يَتَعَلَّقُ بشرك الطَّاعَة.
فإذا رأوا حاكماً حكم بِغَيْرِ مَا أنْزل الله، أَوْ ألزم النَّاس بقانون غَيْر شرعي اتجهوا مباشرة إلَى تكفير الحكام لأنهم يزعمون أنهم أطاعوا الشيطان فِي هَذَا القانون فيكونون مشركين.
وبعد ذَلِكَ يتجهون إلَى الشعب الْمُسْلِمِ الَّذِي يطيع الدولة فِي ذَلِكَ القانون إِذَا كَانَ غَيْر مكرهٍ فيكفرونه لأَنَّهُ أطاع الْحَاكِمَ فِي غَيْر الشرع فَيَكُون عِنْدَهُمْ حِيْنَئِذٍ كافراً لأَنَّهُ أشرك شِرْكَ الطَّاعَة.
قَالَ الْمَقْدِسِيُّ فِي رسالته تِلْكَ(ص/18) : [وقال سبحانه عن الطاعة في التشريع ولو في مسألة واحدة {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ].
وقَالَ فِي (ص/56) : [ثم اعلم أن الذين {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} كانوا يجهلون أنّ الطاعة في التشريع عبادة وشرك كما في حديث عُدي بن حاتم الصحيح بمجموع طرقه وفيه قوله "ما عبدوهم" فما كانوا يعرفون أن الطاعة في التحليل والتحريم والتشريع عبادة ومع هذا كفروا بصرف ذلك لغير الله وصاروا به متخذين أرباباً من دون الله ولم يُعذروا بهذا الجهل].
والجواب عن هذه الشبهة مِنْ وجوه:
الوَجْهُ الأَوَّل: أن طاعة الشيطان وطاعة أوليائه : منها ما هو كفر ومنها ما هو كبيرة ومنها ما هو صغيرة ..
فطاعة الشيطان وأوليائه بتحريم الحلال أو تحليل الحرام شرك أكبر.
وطاعة الشيطان وأوليائه بفعل الحرام كالرشوة والزنا أو ترك واجب كإقامة الحد على من وجب عليه أو ترك بر والديه فهذا فسق وليس شركاً أكبر.
وطاعة الشيطان وأوليائه بفعل صغائر الذنوب كالنظر إلى العورات فهذا ليس كفراً ولا فسقاً بل صغيرة إذا أصر عليها صارت مفسقة ..
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمهُ اللهُ- : "{وإن أطعتموهم} في شركهم وتحليلهم الحرام ، وتحريمهم الحلال {إنكم لمشركون} لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله ، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين ، فلذلك كان طريقكم طريقهم"(1) .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "..حَكَمَ على من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرم الله أنَّه مشرك وأكد ذلك بـ"إنَّ" المؤكدة.."(2)
فالطاعة فِي تحليل الحرام ، وتحريم الحلال هِيَ الطَّاعَة الشركية، أما الطَّاعَة بِمَعْنَى المتابعة مَعَ اعتقادهم بحرمة مَا حرمه الشرع، وحل مَا أحله الشرع فَهَذَا لَيْسَ كفراً أَكْبَر.
الوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الشَّيْخُ سليمانُ بنُ عبدِاللهِ بنِ شيخِ الإسلامِ محمدِ بنِ عبدِالوهابِ -رَحِمَهُمُ اللهُ- فِي تَيْسِيْرِ العَزِيْزِ الْحَمِيْدِ فِي شَرْحِ كتابِ التَّوْحِيْدِ: قَالَ شيخُ الإسْلاَمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وهَؤلاَءِ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُوْنِ اللهِ حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَعَكْسُهُ؛ يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنَّهُم يَعْلَمُونَ أنَّهُمْ بَدَّلُوا دِيَْنَ اللهِ، فَيَتَّبِعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيْلِ فَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمُ اللهُ، وَتَحْرِيْمَ مَا أَحَلَّ اللهُ اتِّبَاعاً لِرُؤسَائِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ أنَّهُمْ خَالَفُوا دِيْنَ الرُّسُلِ؛ فَهَذَا كُفْرٌ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ شِرْكاً، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ وَيَسْجُدُونَ.
الثَّانِي: أنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيْمَانُهُمْ بِتَحْرِيْمِ الْحَلالِ، وَتَحْلِيْلِ الْحَرَامِ ثَابِتاً(3) ، لَكِنَّهُمْ أطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أنَّهَا مَعَاصِي؛ فَهَؤُلاَءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ اِلذُّنُوبِ كَمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيْحَيْنِ» عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- أنَّهُ قَالَ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ )) (4) .
ثُمَّ نَقُولُ: اتِّبَاعُ هَذَا الْمُحَلِّلِ لِلْحَرَامِ وَالْمُحَرِّمِ لِلْحَلالِ إِنْ كَانَ مُجْتَهِداً قَصْدُهُ اتِّبَاعَ الرَّسولِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-، لَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الأَمْرِ، وَقَدِ اتَّقَى اللهَ مَا اسْتَطَاعَ، فَهَذَا لا يُؤَاخِذُهُ اللهُ بِخَطَئِهِ، بَلْ يُثِيْبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الَّذِي أَطَاعَ بِهِ رَبَّهُ.
وَلَكِنْ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْخَطَأَ فِيمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى خَطَئِهِ، وَعَدَلَ عنْ قَوْلِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-، فَلَهُ نَصِيْبٌ مِنَ هَذَا الشِّرْكِ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ، لا سِيَّمَا إِنِ اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ لِهَوَاهُ، وَنَصَرَهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-، فَهَذَا شِرْكٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ العُقُوبَةَ عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا اتَّفقَ العُلَمَاءُ عَلَى أنَّهُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ لا يَجُوزُ تَقْلِيْدُ أَحَدٍ فِي خِلافِهِ.
وَأمَّا إنْ كَانَ الْمتَّبِعُ لِلْمُجْتَهِدِ عَاجِزاً عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ فَعَلَ مَا يَقْدرُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي التَّقْلِيْدِ، فَهَذَا لا يُؤَاخَذُ إِنْ أَخْطَأَ كَمَا فِي القِبْلَةِ.
وَأمَّا إنْ قَلَّدَ شَخْصاً دُوْنَ نَظِيْرِهِ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ، وَنَصَرَهُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَنَّ الحَقَّ مَعَهُ؛ فَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُصِيْباً لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ صَالِحاً، وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُخْطِئاً؛ كَانَ آثِماً، كَمَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ، فَإِنْ أصَابَ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (5) ». انْتَهَى مُلَخَّصاً (6).
فذكر شيخ الإسلام –رحمه الله- نوعاً من أنواع المبدِّلين وهم الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله وهم كفار مرتدون كما سَيَأتِي بيانه -إنْ شاءَ اللهُ تعالَى-.
ومع ذلك ذكر نوعين من المتبعين لأولئك المبدلين :
النوع الأول: من يعتقد عقيدة المبدلين في التحريم والتحليل فهؤلاء لهم حكمهم من الكفر والردة .
النوع الثاني: من لا يعتقد عقيدة المبدلين في التحليل والتحريم ، بل يعتقدون أن الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ، ولكنهم يطيعونهم في معصية الله لهوى في نفوسهم أو لأمر آخر.
فهؤلاء ليسوا كفاراً بل هم عصاة مذنبون .
الوَجْهُ الثَّالِث: أن الخوارج يستدلون بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} عَلَى كُفرِ مرتكب الكبيرة ظناً مِنْهُم أن المرادَ بالطاعة هنا، طَاعَة الْمُشْركِيْنَ بأكل الميتة دُوْنَ النظر إلَى استحلال الآكل، وإنما المراد طاعتهم فِي حل أكل الميتة وَهِيَ محرمة، كَمَا سَبَقَ بيانه مِنْ كلام الشَّيْخ العلامة عبدالرحمن السعدي.
وَقَالَ ابن جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيْرِهِ(8/19) : " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال إن الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة بما ذكرنا من جدالهم إياهم"
وَقَالَ(8/21) : " وأما قوله: {إنكم لمشركون} يعني إنكم إذا مثلهم إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين"
وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
كتَبَهُ: أبو عمر أسامةُ العُتَيْبِي
الهوامش والحواشي:
( 1) تيسير الكريم الرحمن(ص/271) .
( 2) الرسائل والمسائل النجدية(3/46)
( 3) هَكَذَا فِي جَمِيْع النُّسَخِ الْخَطِّيَّة العتي اعتمدتها في تحقيق التيسيرِ، وكذلك َفِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ وَإِيْمَانَهُمْ بِحُرْمَةِ تَحْرِيْمِ الْحَلالِ، وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ ثَابِتٌ وَمُسْتَقِرٌّ إلاَّ أَنَّهُمْ يُطِيْعُونَهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ دُوْنَ الاعْتِقَادِ بِحُرْمَةِ الْحَلالِ، وَحِلِّ الْحَرَامِ.
(4) رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيْحِهِ(رقم6830)، ومُسْلِمٌ(رقم1840) عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللهُ عنهُ-.
( 5 ) رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيْثٌ ضَعِيْفٌ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى(5/31)، وَابنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ(8/368)، وَابنُ عَدِيٍّ فِي الكَامِلِ فِي الضُّعَفَاءِ(6/118)، وَالرَّافِعِيُّ فِي أَخْبَارِ قَزْوِينَ(1/201) وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- ((مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) وإسْنَادُهُ ضَعِيْفٌ.
(6 ) مَجْمُوعُ الفَتَاوَى"كِتَابُ الإيْمَانِ"(7/70-71).
|